يوميات الحرب الليبية (الحلقة السابعة والأخيرة) «الإخوان» متهمون بعرقلة فرص الحوار بين الفرقاء الليبيين

يرفضون تقديم تنازلات ويعتمدون في موقفهم على قوة السلاح

ليبيون ينتظرون ذويهم أمام مطار طبرق المدني في شرق البلاد، وهو من المطارات القليلة التي تعمل في ليبيا بسبب حرب الجيش ضد المتطرفين («الشرق الأوسط»)
ليبيون ينتظرون ذويهم أمام مطار طبرق المدني في شرق البلاد، وهو من المطارات القليلة التي تعمل في ليبيا بسبب حرب الجيش ضد المتطرفين («الشرق الأوسط»)
TT

يوميات الحرب الليبية (الحلقة السابعة والأخيرة) «الإخوان» متهمون بعرقلة فرص الحوار بين الفرقاء الليبيين

ليبيون ينتظرون ذويهم أمام مطار طبرق المدني في شرق البلاد، وهو من المطارات القليلة التي تعمل في ليبيا بسبب حرب الجيش ضد المتطرفين («الشرق الأوسط»)
ليبيون ينتظرون ذويهم أمام مطار طبرق المدني في شرق البلاد، وهو من المطارات القليلة التي تعمل في ليبيا بسبب حرب الجيش ضد المتطرفين («الشرق الأوسط»)

يدير الشيخ حسن عبد الله، أحد أبناء قبيلة «ورفلة» كثيرة العدد في ليبيا، دكانه تحت اسم «تشاركية السلام»، في ضاحية تطل على ميناء طبرق البحري. وتنعقد في هذه المدينة جلسات البرلمان، ويوجد بالقرب منها مقر قيادة أركان الجيش الجديد. ويستمع عبد الله إلى نشرة الأخبار من مذياع قديم معلق على الجدار. وكانت النشرة تتضمن حديثا عن مساعي الصلح بين ميليشيات المتطرفين التي تقودها جماعة الإخوان في طرابلس، من جانب، وقوات الجيش والبرلمان، من الجانب الآخر. ويقول «يتعاملون مع ليبيا وكأن فيها هذين الطرفين فقط. أين نحن من معادلة المصالحة؟ ما زالوا يتجاهلوننا».
وتعد قبيلة ورفلة، ومركزها الرئيس في مدينة بني وليد، واحدة من قبائل ليبيا التي اتهمها «ثوار 17 فبراير 2011» بموالاة العقيد معمر القذافي أثناء حكمه للبلاد طيلة 42 سنة، مع قبائل أخرى من بينها «القذاذفة» و«المقارحة»، إضافة للآلاف من عائلات وبيوت عدة مدن ترى أنها تعرضت للغبن جراء «الثورة»، مثل مدينة تاورغاء التي جرى تهجير سكانها بالكامل عقب مقتل القذافي. ويضيف الشيخ عبد الله قبل أن يغلق تشاركيته في ذلك المساء أن الجميع يحصر مساعي المصالحة بين حكام «17 فبراير» الذين انقسموا على أنفسهم و«يتقاتلون على السلطة الآن»، بينما هناك الألوف في السجون، ونحو مليون اضطروا للهجرة للدول المجاورة ولا يتحدث عنهم أحد، ويجري اتهامهم بأنهم «من أتباع القذافي».

تتبنى الأمم المتحدة الدعوة إلى الحوار بين الخصوم الليبيين، من خلال مبعوثها الخاص إلى ليبيا، برناردينو ليون، لكن مساعيه ما زالت تقتصر، على ما يبدو، على محاولة جمع رؤوس قيادات «ثورة فبراير»، من خلال «حوار غدامس» بين وفد من البرلمان وعدد من النواب الذين يقاطعون جلساته، في حين تتواصل محاولات أخرى، تبدو أكثر شمولية، تقوم بها الجزائر، للاستماع إلى وجهات نظر جميع الفرقاء، بمن فيهم المحسوبون على نظام القذافي، قبل الدعوة إلى اجتماع موسع للمصالحة، إلا أن مصادر سياسية تقول إن جماعة الإخوان المسلمين التي تقود ميليشيات المتطرفين في البلاد تعرقل مساعي لم الشمل وترفع شعارات متشددة وتقدم نفسها كأنها الوصي على الشعب الليبي، رغم قيامه بإسقاط مرشحيها للبرلمان الصيف الماضي.
وفي أول إجراء عملي لدعوات الحوار والمصالحة التي أطلقها رئيس البرلمان الليبي، عقيلة صالح، خصص البرلمان لجنة من لجانه سماها «العدل والمصالحة الوطنية». وتسعى اللجنة إلى استلهام تجارب بعض الدول التي شهدت نزاعات مماثلة لما تمر به ليبيا، لوضع أسس لحوار شامل يبني لمرحلة جديدة في البلاد التي تشهد حربا بين المتطرفين، والجيش. ويعد من أكبر هذه الميليشيات ما يسمى بـ«قوة فجر ليبيا» التي يقودها إخوان متشددون ينتمون لمدينة مصراتة الواقعة على بعد نحو 200 كيلومتر شرق العاصمة.
ويقول عضو لجنة «العدل والمصالحة الوطنية»، النائب عن مدينة بنغازي، إبراهيم عميش «نسعى للتعلم من التجارب السابقة للعديد من الدول التي مرت بحروب محلية أو بثورات داخلية، مثل ليبيا». ويوجد إدراك لدى عدد من أعضاء هذه اللجنة لأن الصراع في جوهره «صراع قوى سياسية وكيانات مسلحة على قضية السلطة والديمقراطية والممارسة ومن يحكم وبأي طريقة، والعلاقة بالنظام السابق وغيرها».
ويعلق عميش قائلا «كل هذه التقاطعات تضع البلاد في حالة من الصراع الذي يمتد إلى أن يصل إلى قضية الصراع المسلح، وتبدأ أعمال القتل والتدمير، وهذا ما نمر به الآن»، مشيرا إلى أن التجارب التي مرت بها العديد من الدول وعلى رأسها جنوب أفريقيا، أكدت على أنه لا بد، في النهاية، من أن يستقيم الأمر، وأن تكون هناك دولة وشعب يريد أن يطمئن على مستقبله في دولة ذات سيادة. ولهذا - كما يقول «لا بد أن تجلس جميع الأطراف على طاولة حوار، وتطرح فيه كل القضايا، ويجري الاتفاق على الحد الأدنى لتحقيق السلم الاجتماعي وتحقيق مراحل بناء الدولة، والتوافق حول الكثير من المسائل الأخرى».
ودعا البرلمان نوابه الذين يقاطعون جلساته للحضور، ولم يستخدم بحقهم اللائحة الداخلية والقوانين التي تعطيه الحق في فصلهم بسبب الانقطاع عن الجلسات. ويبلغ عدد النواب المقاطعين أقل من 25 غالبيتهم من جماعة الإخوان ومدينة مصراتة. ويتحجج هؤلاء النواب بأن البرلمان انعقد في غير المكان الذي ينص عليه الإعلان الدستوري، وهو مدينة بنغازي، ويقول عميش «طبعا البرلمان انعقد في غير مكانه لأسباب كثيرة أمنية، ونملك وثائق وشهادات وتقارير صادرة عن عسكريين ومن الاستخبارات ومن وزير الداخلية، تقول إنه لا يمكن انعقاد المجلس في مدينة بنغازي أو مدينة طرابلس بسبب الأوضاع الأمنية، وبالتالي تم اختيار مدينة طبرق باعتبارها مدينة آمنة ومؤمنة».
ويقول إنه بالإضافة إلى دعوة الأمم المتحدة لوقف إطلاق النار والبدء في الحوار حول هذا الأمر، كانت الاستجابة من مجلس النواب (البرلمان) بأن وجه الدعوة للنواب الذين امتنعوا عن الحضور والذين هم محسوبون على قوى ما يعرف بـ«فجر ليبيا»، وأيضا بعض الأطراف التي اتخذت موقفا في هذا الخصوص ومنحازة للصراع الموجود في المنطقة الغربية، وقلنا لهم أن يأتوا وأن يحلفوا اليمين وأن يتولوا مهامهم البرلمانية من أجل تحقيق مرحلة بناء الدولة وفتح قضايا الحوار، وهو ما أكد عليه أيضا الأمين العام للأمم المتحدة، بان كي مون، حين حضر لليبيا أخيرا، إلى جانب استمرار جهود ممثله الخاص، ليون، الذي أشرف على «لقاء غدامس» وجرى الاتفاق فيه على وقف إطلاق النار وإتاحة الفرصة لاستخدام المطارات التي دمرت، وعلاج جرحى المواجهات وإتاحة الفرصة لعودة النازحين.
ويزيد عميش موضحا أنه بدأ بالفعل وضع قواعد لهذا الحوار، لكن العقبة الحقيقية تكمن في أن الذين شاركوا فيه «كانوا من النواب الذين انحازوا للطرف الآخر (الإخوان المتشددين) ولم يحضروا»، مشيرا إلى أن «عددهم قليل، وغيابهم لم يؤثر على الإطلاق في قضية النصاب القانوني لجلسات البرلمان، أو حتى على سير جلسات مجلس النواب نفسه».
ويتخذ البرلمان الليبي مواقف مبدئية من أي حوار، قائلا إنه يتمسك بشروط إلقاء السلاح والاعتراف بالمسار الديمقراطي قبل المصالحة.. وبينما تواصل الجزائر الاستماع للفرقاء الليبيين قبل «الحوار الشامل»، اتهم أنصار القذافي جماعة الإخوان بمحاولة إفشال كل محاولات لم الشمل، ويقولون إن الجماعة مثلها مثل رؤساء الميليشيات المسلحة، يرفضون تقديم تنازلات، ويعتمدون في موقفهم على قوة السلاح، وعلى دعم بعض الأطراف الإقليمية والدولية التي لها قنوات اتصال مع قوى ما يعرف بـ«الإسلام السياسي»، وقادته من «الإخوان» والجماعات الليبية المقاتلة و«أنصار الشريعة» التي صنفتها الولايات المتحدة كمنظمة إرهابية.
وتجري جهود الأمم المتحدة والجزائر بالتزامن مع جهود يقوم بها سياسيون ليبيون، من الداخل والخارج، لوضع حد للفوضى الجارية في البلاد. وأبدى البرلمان مجددا، وكذا عدة أحزاب وشخصيات سياسية، الاستعداد للتحاور وتجاوز الماضي وفتح صفحة جديدة لإنقاذ ليبيا، بشرط ترك السلاح جانبا، والارتضاء بما يقرره الشعب بالوسائل الديمقراطية وبشكل سلمي، ورحبوا باللقاء الذي عقد في «غدامس». لكن ما هي قدرة مثل هذا اللقاء على وقف الاقتتال الداخلي خاصة في المناطق الغربية؟ يجيب نائب بنغازي قائلا «الذين حضروا (حوار غدامس) هم نواب، ولم يستطيعوا أن يلتزموا بأي شيء يمكن أن يفرضوه على الأطراف المسلحة. بل بالعكس.. الأطراف المسلحة أدانتهم واتخذت مواقف ضدهم بهذا الخصوص، بسبب مشاركتهم في الحوار، وهذا طبعا يثبت أن الجماعات المسلحة لا تريد الحوار، وأنها (جماعات إرهابية). مثلا تنظيم ما يعرف بـ(أنصار الشريعة) لا يعترف حتى بقضية الدستور، ولا بكيانات الدولة، ولا يريد قيام جيش وشرطة، و(...).. هذا الأمر مرفوض».
ويقول فرج بوهاشم، الناطق الرسمي باسم البرلمان الليبي، إن عدد النواب المقاطعين لجلسات مجلس النواب يتراوح بين 20 و25 نائبا، وإن من بين هؤلاء من يتردد على المجلس بشكل غير منتظم.. أي أنه يأتي ثم يذهب ويغيب لفترات طويلة، ومنهم من جاء وانقطع عن الحضور، ومنهم من لم يأت منذ البداية، وأغلب هؤلاء المقاطعين محسوبون على التيار المتشدد، وعلى جماعة الإخوان المسلمين. أي أنهم من «الإخوان» ومن مجموعة أخرى تتستر بالدين أو ما يعرف بـ«الإسلام السياسي».
ويتكون البرلمان من 188 نائبا، وليس 200 نائب كما هو مفترض وفقا للإعلان الدستوري، لكن بوهاشم يقول إن هناك دوائر لم تجر فيها الانتخابات من الأساس بسبب الظروف الأمنية، وتشمل 12 مقعدا، وستجرى الانتخابات فيها في حال توافرت الظروف المناسبة، مشيرا إلى أن «هؤلاء لا تستطيع أن تدخلهم في عملية جمع وطرح لإجمالي عدد النواب، كما يحاول البعض أن يفعل، وذلك بأن يضيف عدد الدوائر التي لم تجر فيها الانتخابات على دوائر النواب المقاطعين». وبالنسبة لتقييمه لـ«حوار غدامس» مع عدد من أولئك النواب، يقول بوهاشم إن الأمر الإيجابي هو «الروح التي سادت اللقاء والحوار الذي كان يسير بشكل جيد».
ويبدو الضغط في اتجاه الحوار قويا، رغم اتهام أنصار القذافي وأطراف أخرى لجماعة الإخوان بالعمل على عرقلته، وتهديد الجماعة لبعض دول الجوار بأنها لن تشارك في أي عملية تفاهم من هذا النوع يمكن أن يوجد فيها محسوبون على النظام السابق. ومن مظاهر الضغط من جانب السياسيين المعتدلين لحل الاحتقانات القاتلة بين الأطراف الليبية، وجود لجنة جرى تشكيلها سريعا لتعمل بشكل مؤقت إلى أن تتحول إلى لجنة دائمة للحوار، وهذه اللجنة تعمل أيضا تحت إشراف مجلس النواب، وهي برئاسة محمد شعيب، النائب الأول لرئيس البرلمان، وحضر شعيب الاجتماع الذي عقده «بان كي مون» في طرابلس.
ويقول عميش إن الهدف من لجنة المصالحة والحوار ليس فقط محاولات جمع الخصوم حول مائدة واحدة، ولكن ستتولى قضية العدالة الانتقالية، وتطبيق قضايا العدل، ويشمل ذلك الأطراف الذين في السجون، ويشمل أيضا قضية التعويضات وجبر الضرر والمصالحة، بما يعني إنهاء قضية الصراع واللجوء للقضاء، لتسوية جميع القضايا العالقة سواء خلال فترة الحرب ضد القذافي أو بعدها. كما أنها تنطبق أيضا على فترة القذافي، خاصة قضايا النزاع على الأملاك والأراضي، وغيرها، إلى جانب موضوع المهجَّرين ممن كانوا يحسبون على النظام السابق، ومنهم نازحون خارج ليبيا ونازحون داخل ليبيا، وهذا الأمر يشمل مدنا بالكامل مثل تاورغاء.
ومع ذلك، تبدو فرص الحل في ليبيا شديدة التعقيد، بسبب الخلفيات والقرارات التي اتخذت على عجل من جانب قادة الثورة في الأيام الأخيرة لنظام القذافي. ويقول عميش «في الحقيقة هناك أمر مهم جدا.. وهو أن هذه الحالة التي تمر بها البلاد، منذ بدايتها، كان يمكن ألا تصل إلى هذا الحد. أي منذ المجلس الانتقالي (2011) ثم المؤتمر الوطني (البرلمان السابق 2012 - 2013 حتى منتصف 2014)، كان يمكن أن تمر حالة ليبيا مثلها مثل أي بلد عادي فيه جماعات مسلحة وغيره، أي أن تنتهي الأمور سريعا بالمصالحة الوطنية، لكن الصراعات داخل المؤتمر الوطني (البرلمان السابق)، والأجنحة الأخرى التي أرادت أن تكون لها أذرع عسكرية، أفسدت كل شيء»، مشيرا إلى أن العديد من الأطراف حاولت استغلال الميليشيات المسلحة لصالحها، ليس من جماعة الإخوان والمتطرفين فقط، ولكن من أطراف محسوبة على نظام القذافي أيضا.
ويشير عميش إلى الممارسات السابقة التي تسببت في استفحال مشكلة الميليشيات والمتطرفين الرافضين للحوار والذين لا يعرفون غير لغة السلاح للهيمنة على السلطة بالقوة. ويقول «للأسف أن هناك بعض الكتائب المسلحة السابقة، أيا كانت السلطة أو الوسائط التابعة لها.. كانت تصرف لهم رواتب ضخمة. بعضهم كان يقول إن عدد من معه من عناصر الميليشيا التي يقودها يبلغ 11 ألف عنصر، لكن في الحقيقة لم يكن العدد يزيد على 3 آلاف، ومع ذلك تصرف الرواتب لـ11 ألفا، لدرجة أن البنوك اشتكت وقتها من هذا الأمر. كما تشكلت جماعات أخرى قوية كانت تُدعم بالسلاح والمال من أجل «تحرير مناطق» بعينها (من الخصوم السياسيين) بمقابل مالي يصل أحيانا إلى 20 مليون دينار (الدولار يساوي 1.3 دينار ليبي). وأصبح كل من يملك السلاح يريد أن يتحكم في كل شيء لتحقيق السلطة والمال.
ويعول الكثير من السياسيين الليبيين على المتغيرات التي جرت في مصر وتونس، والتي نتجت عنها خسارة جماعة الإخوان لتعاطف الرأي العام وللانتخابات. وبدأت نتائج هذه المتغيرات تنعكس على الواقع الليبي، من خلال اتجاه بعض المتشددين إلى تعديل في مواقفهم، مما تسبب في خلافات، على سبيل المثال، بين قيادات مدينة مصراتة التي تضم أبرز الداعمين لجماعة الإخوان وعملية «فجر ليبيا»، وتدور هذه الخلافات حول مستقبل ارتباط مصراتة بـ«الإخوان» وباقي التيارات المتشددة، ومنها جماعة «أنصار الشرعية» الموالية لتنظيم القاعدة. ويرى بعض قادة المدينة وأغلبهم من رجال الأعمال والعواقل القبليين، أن «الإسلاميين» يستغلون مصراتة وشبابها وقوتها العسكرية في عمليات ضيقة تسببت في خصومات بين مصراتة والعديد من القبائل والمناطق، خاصة في محيط طرابلس إضافة لمدينتي بني وليد وتاورغاء وغيرهما.
كما دخل أكثر من خمسين من الأدباء والفنانين والمثقفين في مصراتة على الخط، وأصدروا نداء لرأب الصدع والتصالح والعيش السلمي بين الليبيين، من خلال «رسالة مفتوحة من مثقفي مصراتة لمثقفي الشرق الليبي»، قالوا فيها «من هنا نبدأ.. وهل من مبتدأ أعظم أثرا وأكثر دلالة في مقام الإصلاح ودرء الخصام من النهي عن تقطيع الأرحام ليكون الجواب نعم للسلام والوئام ولا للخصام وتقطيع الأرحام؟». وتضمنت الرسالة كلمات مشجعة للمثقفين والأدباء في شرق ليبيا، وجاء فيها «أساتذتنا وإخواننا وزملاؤنا من المثقفين والفنانين والإعلاميين والمسرحيين، وكل أهل الثقافة والأدب، في شرقنا الحبيب، شرق الإبداع والتألق، منابت الجود والكرم، أشقاء المصير».
وتقول رسالة مثقفي مصراتة لمثقفي شرق ليبيا أيضا «هذا نداء من قلوب تتحرق شوقا إلى التصافي، ليس عن طمع ولا جشع ولا هلع بل عن يقين بأن كل الليبي على الليبي حرام، دمه وماله وعرضه، وأن إطفاء النار في أي مرحلة من اشتعالها خير من انتظارها لتنطفئ بفعل الزمن أو الوهن أو بعد أن تأكل أخضر الوطن ويابسه ثم تأكل بعضها لتسفر عن الهشيم والرماد. ولأنكم أهل الوعي والتوعية، وأهل الصحوة في الفكر كما القول، ندعوكم لنجعل من قاسم الثقافة والأدب والكلمة والصورة واللوحة، علامة على رقي الإحساس بالوطن والمواطن، وأن نستعلي على الحزازات الضيقة المؤقتة الرديئة، عبر رؤى ثقافية وفكرية وفنية، تقدم للبلد أروع ما فيه».
وجاء هذا الموقف الذي يعضد مساعي الحوار والسلام بين أبناء الوطن الواحد، بالتزامن مع حضور العديد من الشخصيات الأوروبية إلى مصراتة خلال الأسابيع الأخيرة في محاولة لتهدئة الموقف بين الأطراف المتشددة فيها (من «الإخوان») وباقي الأطراف خاصة البرلمان والجيش الوطني، وذلك قبل أن ينفذ هذا الجيش تهديداته بالتدخل لطرد ميليشيات «فجر ليبيا» بالقوة من العاصمة، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى سقوط أعداد كبيرة من الضحايا ونزوح ألوف الأسر عن العاصمة.
وفي المقابل، تحاول الأطراف الدولية الحصول على تنازلات من البرلمان والجيش أيضا، وهي تتعامل، في بياناتها، خاصة تلك التي تصدرها الولايات المتحدة وألمانيا وبريطانيا، على اعتبار أن ليبيا فيها برلمانان وحكومتان وقوتان مسلحتان، وهذا ما يرفضه البرلمان الشرعي الذي انبثقت منه حكومة عبد الله الثني، وأيد عمليات الجيش ضد المتطرفين، حيث يتمسك البرلمان بشرعيته التي اعترفت بها الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية.
ويعلق عميش على بعض البيانات الغربية التي تطالب «جميع» الأطراف الليبية بأن تضع السلاح جانبا وأن تدخل في حوار، وتحاول أن تساوي في التعامل بين الميليشيات والجيش، قائلا «تلك البيانات تتحدث عن كل الأطراف المسلحة التي تستخدم القوة والسلاح والعنف، وتحثها لكي تلجأ إلى الحوار، لكنها لم تذكر اسم الجيش الوطني صراحة.. صحيح أن تلك البيانات الغربية لم تحدد من الذي ينبغي عليه أن ينحي السلاح جانبا، إلا أنه لا يمكن لأي جهة دولية أن توجه نداء مثل هذا (بوضع السلاح جانبا) إلا لقوات غير شرعية تملك السلاح، لكن بالنسبة للجيش الوطني، ومن بعد ترشيح وتعيين اللواء عبد الرازق الناظوري رئيسا للأركان، بدأ الحديث يدور عن عملية محددة تتعلق بعمليات للقوات المسلحة الشرعية ضد المتطرفين».
وعلى الجانب الآخر، بدأ البرلمان في تقديم بوادر حسن نوايا إضافية تجاه المصالحة الشاملة بطريقة بدا أنها تعطي بعض الطمأنينة للعديد من الأطراف الليبية الفاعلة، ومن بينها تلك القطاعات التي كانت مؤيدة للقذافي، والتي كانت تعارضه أيضا، واضطر معظم قادتها للخروج من البلاد منذ أواخر 2013 حتى الآن، والإقامة في تونس ومصر، بسبب تهديدات المتطرفين لهم. ومن بينهم وزراء ونواب سابقون، ورجال أعمال وفنانون ومثقفون وصحافيون، وغيرهم.
وقرر البرلمان، في خطوة يراها الكثيرون مشجعة لجهود المصالحة والحوار، إدخال تعديلات على قانون العزل السياسي، أو إلغاءه في ما بعد بشكل كامل. وكان هذا القانون قد أصدره المتطرفون أثناء هيمنتهم على البرلمان السابق، وأجبروا باقي النواب على تأييده تحت تهديد السلاح، وهو قانون يمنع كل من عمل مع نظام القذافي، منذ عام 1969 حتى مقتله في 2011، من العمل السياسي أو العمل الرسمي في الدولة، وينطبق هذا القانون حتى على المعارضين الذين كانوا قد انشقوا عن نظام القذافي في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي، وأيضا من انشق عن نظام القذافي والتحق بـ«ثورة فبراير».
ومن جانبه، يقول عقيلة صالح، رئيس البرلمان، إنه يتعهد بعدم إقصاء أي طرف من الأطراف الليبية من الحوار الوطني الذي يسعى إليه مجلس النواب. ويضيف «لن نقصي أحدا، بشرط أن يترك السلاح، وأن يرتضي بالعملية الديمقراطية»، مشيرا إلى أنه يوجد على جدول أعمال مجلس النواب قانون العدالة الانتقالية الذي يهدف إلى رد الحقوق إلى أصحابها، ومعالجة الأوضاع التي وقعت في الماضي، بما فيها تعديلات ستشمل ما يخص الأراضي والمساكن والشركات سواء أجنبية أو محلية.
وبينما يعزز الجيش من مواقعه في حربه على المتطرفين في بنغازي ودرنة، تمكّن أخيرا من الوجود بقوة عبر قواعد عسكرية مهمة في كل من جنوب غربي العاصمة وشمال غربي العاصمة، وقام بتجديد قاعدة «الوطية» العسكرية التي تعد قوة ضاربة يمكنها أن تحدد مصير من يسيطر على طرابلس. ومن جانبها، تسعى حكومة الثني أيضا لترك أبواب الحوار مفتوحة مع من لا يحملون السلاح، ومع من يرتضون بنتائج انتخابات مجلس النواب، ولهذا تواصل ليبيا اتصالاتها مع دول الجوار لمساعدتها في بسط الاستقرار والأمن والخروج من النفق المظلم الذي فرضته عليها الميليشيات المتطرفة.
وتعد تونس من بين دول الجوار المهمة بالنسبة لليبيا رغم وجود حزب النهضة الإخواني وزعيمه راشد الغنوشي في ذلك البلد. لكن رئيس البرلمان الليبي يتعامل بأريحية مع جارته ومع تصريحات الغنوشي الداعية للمصالحة، قائلا «تونس دولة جارة لنا، ولدينا نازحون ليبيون هناك، ولهذا نحن نشكرهم على عنايتهم بالأسر الليبية وعلاج الجرحى الليبيين. حتى بالنسبة لجماعة النهضة، وحسب ما نعلم، هي تؤيد الاستقرار وتؤيد المصالحة في ليبيا. كما أن السيد الغنوشي يدعو للمصالحة، وأذكر حين التقيت بفخامة الرئيس التونسي أكد لي أنه رجل ديمقراطي ويؤيد الشرعية والديمقراطية في ليبيا».
ويدير الشيخ عبد الله ابن قبيلة «ورفلة» رأسه يمينا ويسارا قبل أن أين يقول مجددا «ما زالوا يتجاهلوننا»، ويختفي في شارع الكورنيش المطل على الميناء، ومن هناك بدت أضواء السفن تنعكس على صفحة البحر، وهي تودع يوما استعدادا لاستقبال يوم جديد.

يوميات الحرب الليبية (الحلقة السادسة): ميليشيات الإخوان تتجه جنوبا للسيطرة على حقول النفط
يوميات الحرب الليبية (الحلقة الخامسة) خريطة ولاءات القبائل في الصراع مع المتطرفين
يوميات الحرب الليبية (الحلقة الرابعة): مقتل قيادات مهمة في أنصار الشريعة بينهم جزائريون ومصريون في معركة «جسر بنينة الأول»
يوميات الحرب الليبية (الحلقة الثالثة): زعيم «إمارة درنة» يتحصن بضاحية «لميس التركية» ويستخدم طيور الكناري لمراقبة هجمات الجيش
يوميات الحرب الليبية (2): «إخوان» ليبيا أسسوا جهاز مخابرات في طبرق.. وسعوا لاغتيال نواب من البرلمان الجديد ترصد خط النار بين مصراتة وبنغازي
يوميات الحرب الليبية (الحلقة الأولى): عناصر الأمن أكثر من المسافرين على حدود ليبيا.. وتحذير من «بوابات» للمتطرفين


ملاهي سوريا وحاناتها تعيد فتح أبوابها بحذر بعد انتصار فصائل المعارضة

سوري يصب شراباً محلياً في سوق باب توما بدمشق (رويترز)
سوري يصب شراباً محلياً في سوق باب توما بدمشق (رويترز)
TT

ملاهي سوريا وحاناتها تعيد فتح أبوابها بحذر بعد انتصار فصائل المعارضة

سوري يصب شراباً محلياً في سوق باب توما بدمشق (رويترز)
سوري يصب شراباً محلياً في سوق باب توما بدمشق (رويترز)

احتفل سكان دمشق بسقوط نظام بشار الأسد بعد حرب وحشية استمرت 13 عاماً، لكن أصحاب أماكن السهر في المدينة اعتراهم القلق وهم يعيدون فتح أبواب حاناتهم وملاهيهم.

فقد قادت «هيئة تحرير الشام» فصائل المعارضة التي أطاحت بنظام الأسد، وكانت هناك خشية لدى بعض الناس من أن تمنع الهيئة شرب الكحول.

ظلت حانات دمشق ومحلات بيع الخمور فيها مغلقة لأربعة أيام بعد دخول مقاتلي «هيئة تحرير الشام» المدينة، دون فرضهم أي إجراءات صارمة، والآن أعيد فتح هذه الأماكن مؤقتاً.

ما يريده صافي، صاحب «بابا بار» في أزقة المدينة القديمة، من الجميع أن يهدأوا ويستمتعوا بموسم عيد الميلاد الذي يشهد إقبالاً عادة.

مخاوف بسبب وسائل التواصل

وفي حديث مع «وكالة الصحافة الفرنسية» في حانته، اشتكى صافي، الذي لم يذكر اسم عائلته حتى لا يكشف عن انتمائه الطائفي، من حالة الذعر التي أحدثتها وسائل التواصل الاجتماعي.

فبعدما انتشرت شائعات أن المسلحين المسيطرين على الحي يعتزمون شن حملة على الحانات، توجه إلى مركز الشرطة الذي بات في أيدي الفصائل في ساحة باب توما.

وقال صافي بينما كان يقف وخلفه زجاجات الخمور: «أخبرتهم أنني أملك حانة وأود أن أقيم حفلاً أقدم فيه مشروبات كحولية».

وأضاف أنهم أجابوه: «افتحوا المكان، لا مشكلة. لديكم الحق أن تعملوا وتعيشوا حياتكم الطبيعية كما كانت من قبل»، فيما كانت الموسيقى تصدح في المكان.

ولم تصدر الحكومة، التي تقودها «هيئة تحرير الشام» أي بيان رسمي بشأن الكحول، وقد أغلق العديد من الأشخاص حاناتهم ومطاعمهم بعد سقوط العاصمة.

لكن الحكومة الجديدة أكدت أيضاً أنها إدارة مؤقتة وستكون متسامحة مع كل الفئات الاجتماعية والدينية في سوريا.

وقال مصدر في «هيئة تحرير الشام»، لـ«وكالة الصحافة الفرنسية»، طلب عدم كشف هويته، إن «الحديث عن منع الكحول غير صحيح». وبعد الإلحاح عليه بالسؤال شعر بالغضب، مشدداً على أن الحكومة لديها «قضايا أكبر للتعامل معها».

وأعيد فتح «بابا بار» وعدد قليل من الحانات القريبة، لكن العمل محدود ويأمل صافي من الحكومة أن تطمئنهم ببيان يكون أكثر وضوحاً وقوة إلى أنهم آمنون.

في ليلة إعادة الافتتاح، أقام حفلة حتى وقت متأخر حضرها نحو 20 شخصاً، ولكن في الليلة الثانية كانت الأمور أكثر هدوءاً.

وقال إن «الأشخاص الذين حضروا كانوا في حالة من الخوف، كانوا يسهرون لكنهم في الوقت نفسه لم يكونوا سعداء».

وأضاف: «ولكن إذا كانت هناك تطمينات (...) ستجد الجميع قد فتحوا ويقيمون حفلات والناس مسرورون، لأننا الآن في شهر عيد الميلاد، شهر الاحتفالات».

وفي سوريا أقلية مسيحية كبيرة تحتفل بعيد الميلاد، مع تعليق الزينات في دمشق.

في مطعم العلية القريب، كان أحد المغنين يقدم عرضاً بينما يستمتع الحاضرون بأطباق من المقبلات والعرق والبيرة.

لم تكن القاعة ممتلئة، لكن الدكتور محسن أحمد، صاحب الشخصية المرحة والأنيقة، كان مصمماً على قضاء وقت ممتع.

وقال لـ«وكالة الصحافة الفرنسية»: «كنا نتوقع فوضى عارمة في الموقف»، فيما كانت الأضواء تنعكس على ديكورات المطعم، مضيفاً: «لكننا عدنا سريعاً إلى حياتنا، حياتنا الليلية، وحقوقنا».

حفلة مع مغنٍ

وقال مدير المطعم يزن شلش إن مقاتلي «هيئة تحرير الشام» حضروا في ليلة إعادة الافتتاح ولم يغلقوا المكان.

وأضاف: «بدأنا العمل أمس. كانت الأمور جيدة جداً. كانت هناك حفلة مع مغنٍ. بدأ الناس بالتوافد، وفي وسط الحفلة حضر عناصر من (هيئة تحرير الشام)»، وأشار إلى أنهم «دخلوا بكل أدب واحترام وتركوا أسلحتهم في الخارج».

وبدلاً من مداهمة المكان، كانت عناصر الهيئة حريصين على طمأنة الجميع أن العمل يمكن أن يستمر.

وتابع: «قالوا للناس: لم نأتِ إلى هنا لنخيف أو نرهب أحداً. جئنا إلى هنا للعيش معاً في سوريا بسلام وحرية كنا ننتظرهما منذ فترة طويلة».

وتابع شلش: «عاملونا بشكل حسن البارحة، نحن حالياً مرتاحون مبدئياً لكنني أخشى أن يكون هذا الأمر آنياً ولا يستمر».

ستمارس الحكومة الانتقالية الجديدة في سوريا بقيادة «هيئة تحرير الشام» عملها حتى الأول من مارس (آذار). بعد ذلك، لا يعرف أصحاب الحانات ماذا يتوقعون.