زحفت المراكز الثقافية الخاصة بعيدا عن وسط العاصمة القاهرة، وشكلت جغرافيا جديدة لمنمنمات تحتفي بجماليات المكان، لتشكل ملامح ثقافة بديلة للخروج من قلاع مؤسسات الدولة التي تعاني من التصدع والإهمال. ابتكرت هذه المراكز وسائلها لجذب مستهلكين جدد لمنتجات طازجة، بداية من الكتاب وانتهاء بالحقيبة التي ستحتويه، كما دمجت المقهى بالمكتبة بقاعات العرض، واستنبتت «حفلات التوقيع» في أرض القراءة الجدباء، ودعمت جهودها برهانات «قوائم الكتب الأكثر مبيعا».
لكن ليست القاهرة وحدها، كما يقول الشاعر والناقد محمد كشيك، تشهد ذلك، «فهذا النوع من المراكز تمدد إلى الأقاليم، ستجده في دمياط والمنصورة وبنها والإسكندرية وفي محافظات بالصعيد. هذه المراكز كسرت احتكار العاصمة للمشهد الثقافي وأفرزت كتابا ومبدعين على قدر كبير من الأهمية».
وكان كشيك ضحية أزمة تفجرت مطلع القرن حين أطيح به وبمسؤولين آخرين في وزارة الثقافة بعد ما عرف حينها بأزمة «الروايات الثلاث («أحلام محرمة» لمحمود حامد، و«أبناء الخطأ الرومانسي» لياسر شعبان، و«قبل وبعد» لتوفيق عبد الرحمن)»، التي نشرت في هيئة قصور الثقافة التابعة لمؤسسة الدولة. فتقدم برلماني ينتمي إلى جماعة الإخوان المسلمين باستجواب لوزير الثقافة، انتهى بمصادرة الروايات التي اتهمت بـ«انتهاك الآداب العامة لاحتوائها على مشاهد وألفاظ خادشة». وبينما كان جيل جديد من الكتاب يستعد لقبض الريح، ولدت دور نشر خاصة أكثر جرأة وتسامحا مع «المختلف»، لحقت بها مكتبات بنكهة جديدة بعيدا عن الروح التقليدية لمكتبات وسط القاهرة.
في حي الزمالك بطبيعته الكزموبولوتانية بدأت تلك المكتبات في النشاط محققة رواجا باستقطاب المهتمين بالكتاب إلى شوارع الحي الأرستقراطي على الضفة الأخرى من النيل، وانتقلت بسرعة إلى أحياء الدقي والمهندسين، والمعادي وجاردن سيتي، في استجابة على ما يبدو لشغف لم يكن مشبعا حتى ذلك الزمن. مع مطلع الألفية الجديدة كانت ثمار مكتبات الدولة التي انتشرت بشكل ملحوظ في عدة أماكن في القاهرة والمحافظات، بالإضافة إلى ثمار مشروع مكتبة الأسرة، قد هيئت مناخا جديدا للقراءة بعد تراجع حاد سنوات السبعينات والثمانينات.
يقول مسؤول مرموق في وزارة الثقافة لـ«الشرق الأوسط»: «إن الاتجاه العام الذي طغى على الرؤية السياسية في البلاد في حقبة التسعينات بشأن ضرورة خلخلة القطاع العام وانسحاب الدولة من القطاعات الخدمية للبدء في خصخصتها وجدت صدى داخل وزارة الثقافة، هذا الحركة لم تنجُ أيضا من آثار شبكات الفساد التي عششت في أركان القاهرة، وجرت صفقات عززت مواقع بعض دور النشر الخاصة، لكن رغم ذلك كانت المحصلة النهائية لصالح الحالة الثقافية، رغم أن منتجها النهائي ليس في قيمة إصدارات الدولة».
يتفق الشاعر والباحث مسعود شومان، المسؤول بهيئة قصور الثقافة، مع الرأي السابق في كون إصدارات الدولة أكثر تنوعا وأهمية من إصدارات معظم دور النشر الخاصة، لكنه يرى أن المراكز الثقافية الجديدة قدمت إسهاما كبيرا في إثراء الحياة الثقافية في البلاد.
ويقول شومان إن تلك المراكز الثقافية التي انتشرت في أرجاء القاهرة وتخطت حدودها باتجاه المحافظات المختلفة أجبرت مؤسسات الدولة على مغادرة مقعدها ومحاولة اللحاق بالآليات الجديدة التي طرحتها.
أما كشيك فيشير إلى أن الهيئة العامة للكتاب تعمل حاليا على تبني فكرة إقامة حفلات التوقيع التي لعبت دورا بارزا في خلق اتصال مباشر بين الكاتب وجمهوره وعززت من حضور المكتبات كمراكز ثقافية، متجاوزة بذلك أدوراها التقليدية.
وأصبح لافتا تفاعل المثقفين والمبدعين العرب مع الجغرافيا الثقافية الجديدة في البلاد، وحرصهم على زيارة مرافئها والتعرف على مكتباتها، بأحياء الزمالك والمعادي ومصر الجديدة التي أصبحت بمثابة مزارات محتملة لهواة القراءة.
ومعروف أن هذه الأحياء تعد من الأحياء الراقية في القاهرة، وهو ما يجعل ارتيادها مقصورا على فئة معينة غالبا. لكن الناشرة كرم يوسف لا تقيم وزنا لطبيعة المكان. وتقول إنها اختارت حي المعادي لخدمة منطقة واسعة بين حلوان والمعادي (غرب القاهرة) تفتقر إلى وجود المكتبات، وتضيف: «الأصل أن توجد في كل منطقة مكتبة، لتكريس عادة القراءة ودمجها ضمن الممارسة اليومية للناس، يأتون للمكتبة للقراءة، لحضور ورشة عمل، للمذاكرة، هذا ما نحاول تحقيقه في الكتب خان».
من جانبه، يعتقد شومان أن انتشار المراكز الثقافية دليل على محورية الثقافة، ويشير إلى الدور التي لعبته، خصوصا في المجال الإبداعي، لكنه يأسف على غياب أي دراسات حول علاقة نوع الكتاب بالمكان والفئات العمرية والطبقة الاجتماعية التي تقبل عليه.
وترى كرم يوسف أن المراكز الثقافية الجديدة حركت المياه الراكدة في المشهد الثقافي «إلى حد ما»، وأمدته بالحيوية، خصوصا بعد أن بدأت الكتب خان بشكل خاص في إقامة ورش الكتابة الإبداعية، التي انتشرت بعد ذلك، لكن كرم يوسف تدرك أيضا أن جهودها وجهود الآخرين لا تزال «فردية»، ولم تتحول بعد إلى «تيار» يمكن أن ينتج آثارا ملموسة في واقع معقد يعاني أصلا من غياب عادة القراءة.
خلال العقد الأول من الألفية الجديدة بدا أن جيلا جديدا يتشكل خارج المركز الضيق للقاهرة، وبنهاية العقد الأول كان هذا الجيل يستعد للعودة إلى ميدان التحرير ليحرر واقعه من «عقدة أوديب»، بعد أن تمرد بالفعل على الأنماط السائدة في الموسيقى والمسرح والسينما، وتجاوب مع إيقاعاته الخاصة التي وفرتها له مراكز ثقافية عنيت بفنون العرض.
كانت ساقية عبد المنعم الصاوي في الزمالك قد عززت حضورها في المشهد الثقافي، لكنها ألهمت الكثير من المراكز الأخرى، وأجبرت الدولة أيضا على اللحاق بها من خلال افتتاح مراكز ثقافية في مواقع أثرية في أحياء الحسين والسيدة زينب وشارع المعز.
تتجاوب المراكز الثقافية الجديدة ببساطة مع تقنيات عصرها، ويمكن لمرتادي المواقع الخدمية على شبكة الإنترنت التي توفر معلومات عن مراكز الفنون والثقافة في القاهرة أن يدرك ذلك سريعا. وفي إشارة إلى هذه الروح التي تستهدف جمهورا خاصا يقدم أحد تلك المواقع في حي الدقي تعريفا له، لافتا إلى أنه «يتحدى الدوشة وقلة المزاج وطول المسافة اللي بتقطعها لما بتحب تروح أي مكان سواء أحببت أن تقرأ، أو تسمع مزيكا حلوة، أو تشرب فنجان قهوة بمزاج، أو حتى تحضر حفلة، أو أمسية شعرية».
وتقول سها محمد التي تشارك حاليا في ورشة للإنشاد الديني في «بيت السناري» بحي السيدة زينب ضمن أنشطة أخرى تحرص على التفاعل معها، إن أنشطة المراكز الثقافية وفرت لها خارطة أكثر تعقيدا ورحابة.. «كانت مساراتي اليومية مغلقة ورتيبة وتعيد إنتاج نفسها.. لكني أجد الآن نوافذ مفتوحة أطل منها على نفسي وعلى الأمكنة».
جغرافيا الثقافة الجديدة في القاهرة.. العبور إلى الضفة الأخرى
كسرت رتابة المؤسسة وتؤشر لثقافة بديلة
جغرافيا الثقافة الجديدة في القاهرة.. العبور إلى الضفة الأخرى
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة