نجحت جماعة الإخوان عبر تاريخها الممتد لأكثر من 80 عاما في أن تحول الموت إلى «صناعة»، وأن تشيد له المصانع التي تنتجه وتصدره للعالم كله. تاجروا بالموت لتحيا الجماعة وتتوالد عنها ومنها جماعات أخرى طورت منتج «الموت»، وحدّثت في وسائل إنتاجه حتى وصلنا إلى «آخر العنقود»؛ «داعش».. التجلي الأخير للبذرة الإخوانية.
علاقة «الإخوان» بالعنف وبالتطرف والإرهاب كانت ولا تزال وستبقى محل جدل وخلاف واتهام طوال تاريخ الجماعة، وهي تاريخ ممتد منذ تأسيس مركزها العام الأول في ضاحية الحلمية (شرق القاهرة)، وصولا إلى تداعياته المتمثلة في حصار قوات تنظيم داعش الإرهابي لمدينة كوباني السورية، فالجماعة التي أسسها حسن البنا عام 1928، اعترفت، على خجل واستحياء، بعنفها في أربعينات القرن الماضي، كانت قمة إجرامها اغتيال محمود فهمي النقراشي باشا رئيس وزراء مصر (1946 - 1948)، وهي الجريمة الأشهر في تاريخ الجماعة، التي كان ثمنها حياة مؤسسها نفسه. وليس أدل على هذا الاعتراف بالعنف مما جاء في مذكرات «أبيها الروحي» الحالي يوسف القرضاوي، حيث قال نصا: «ولقد قابلنا - نحن الشباب والطلاب - اغتيال النقراشي بارتياح واستبشار؛ فقد شفى غليلنا ورد اعتبارنا». وبلغ الشيخ حماسه مادحا عبد المجيد أحمد حسن، قاتل النقراشي، شعرا بقوله:
عبد المجيد تحية وسلام
أبشر.. فإنك للشباب إمام
وبين ذاك الزمان وزماننا، لم تكفّ الجماعة عن التبرؤ من «تهمة» العنف، ولم تترك سبيلا ولم تدع فرصة لتنبذ الإرهاب وتلفظ التطرف، إلى أن خرج الشيخ نفسه في الأيام الماضية ليجدد الحديث، دون أن يدري، عن «صناعة الموت» عند «الإخوان»، وكان كلامه هذه المرة، للمفارقة، عن شاب جديد، ولكن في جماعة أخرى، هو مَن فضح علاقتها بالجماعة الأم، وهو من أوصل النقاط بين عبد المجيد حسن وأبو بكر البغدادي، وربط بين شاطئين يقف عليهما جميع «صناع الموت»، وبينهما سالت بحور من الدماء البريئة.
يؤكد القرضاوي في مقطع الفيديو أن زعيم تنظيم داعش أبو بكر البغدادي كان في سن الشباب من الإخوان المسلمين، وهو ما دفعنا لنعيد تحليل هذه العلاقة المؤكدة بين «الإخوان» والعنف، بحثا عن رؤى جديدة في علاقة قديمة ومستمرة نجحت الجماعة في أن تخفيها لسنوات طويلة، لكنها تذكّرنا بها بين الحين والآخر.. لا ندرك مدى قصديتها، وهو ما يفسره قيادي إخواني سابق بقوله لـ«الشرق الأوسط»: «لا أستطيع أن أجزم بعدم براءة تصريحات الشيخ القرضاوي الأخيرة حول الانتماء السابق لأبو بكر البغدادي (الداعشي) لجماعة الإخوان المسلمين، قبل أن أشير لما عهدناه دوما في رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين من أنه لا ينطق عن هوى أو يعبر عن رأي شخصه، بل هو يوسف القرضاوي (الفرد الإخواني) الطيع الملتزم الذي يؤمر فيطيع.. يُستَنطق فيقول.. يُدفع ليفتي.. فيسقط في شر أحاديثه».
ويوضح القيادي السابق (الذي طلب عدم ذكر اسمه) أن «القرضاوي يلوح بحديثه عن انتماء البغدادي، مثلما فعلها من قبله فرد إخواني أقل قدرا ومقاما منه، هو محمد البلتاجي، الذي سُجّل له تلفزيونيا حديثه عن وقف الإرهاب في سيناء مقابل عودة الرئيس الأسبق الإخواني محمد مرسي لحكم مصر. إنها رغبة (الإخوان) الدائمة في الإيحاء للغرب بطريقة غير مباشرة بأنهم قادرون على أن يخمدوا فتنة الإرهاب والعنف في العالم.. أحاديث كثيرة تشير إلى ذلك لن يكون آخرها تصريح فضيلته، لكنه حديث متصل منذ نشأة الجماعة في عهد الإمام المؤسس وحتى نكستها البديعة في عهد مرشدها الأخير».
وتتشابك خطوط علاقة «الإخوان» والتنظيمات التي أفرزتها لاحقا، وإن تنصلت منها الجماعة الأم في العلن، وكأنهم أبناء غير شرعيين، مع فكرة «سيكولوجية الموت».. تلك الفكرة التي تدل شواهد كثيرة على أن الجماعة نجحت في زرعها داخل عقول كوادرها، ليتحول الفرد إلى «قنبلة موقوتة» جاهزة للحظة «نزع فتيلها». وربما توجز جملة قالها القيادي الجهادي نبيل نعيم في أحد أحاديثه الإعلامية كثيرا من الأفكار التي تتوارثها الجماعة في كلمات قليلة: «إن الفرد الإخواني يتربى في جماعة الإخوان على أن خطأ القيادي في الجماعة أحسن من صواب الفرد».
ويشير مراقبون لفكر «الإخوان»، عبر تاريخها، إلى أن الجماعة ترسخ داخل أفرادها فكر الولاء والطاعة أكثر من أي شيء آخر. ويقول خبير نفسي بارز، طالبا عدم تعريفه: «كنت من أبناء (الإخوان) في فترة دراستي الجامعية، لكنني انتزعت ذاتي من الجماعة لاحقا، حين تبينت أن أخطر ما تزرعه القيادة داخل الفرد هو الطاعة العمياء. بل إن عملية غسل المخ تصل إلى حد أن الفرد يكون مستعدا للتضحية بنفسه من أجل خدمة الجماعة، حتى وإن لم يكن يدري كيف يخدمها».
ويستمر الخبير النفسي في تحليله قائلا: «نفسية الفرد الإخواني في الأغلب تكون مهيأة لتلك النوعية من العلاقات التي تمزج بين السادية والمازوخية؛ فهو يتعاطف مع أغلب ما ترتكبه كثير من القوى الظلامية بحجة مقاومة الظلم، كما أن مفهوم المظلومية التاريخية الذي تبثه الجماعة في عقول أبنائها يعضد من تلك النتيجة، بما لا يدع مجالا للشك.. يغذون عقله بما يفيد بأنهم ظُلموا، وأن طريق الحق من وجهة نظرهم يحتمل التصرف بأي طريقة، على غرار نظرية (الغاية تبرر الوسيلة)»، ويتوقف قليلا ليتابع: «شعرت في لحظة أنني يُصنع مني انتحاري محتمل، فهربت من الجماعة وتأثيرها ونفرت منها، وأعتقد أن هذا كان أحد أهم الأسباب، التي دفعت الكثيرين للمغادرة، وأعتقد أن أغلبهم قاوموا نتيجة عدم تلاؤمهم النفسي مع فكرة المازوخية».
حديث الخبير النفسي دعمته شواهد ودلائل تاريخية عدة، ويقول الباحث في شؤون الجماعات الإسلامية أحمد بان: «في تقديري، إن جماعة الإخوان طوال الوقت كانت تمضي على مسارين في وقت واحد، على أمل أن يفتح أحدهما المجال لمشروعها؛ إما مسار التقية السياسية من خلال النشاط للنفاذ عبر مؤسسات الدولة القومية، سواء الجامعات أو النقابات أو البرلمانات أو حتى الوصول إلى الحكم. أو الخط الآخر الموازي، وهو دعم بعض المجموعات، مع نفي الصلة بها. والأخير كان تكتيكا متوفرا منذ البداية، وظهر في كلام حسن البنا عندما تبرأ ممن قتلوا (القاضي أحمد) الخازندار (الذي كان ينظر بعض قضايا ضد الإخوان)».. وقال البنا: «ليسوا إخوانا وليسوا مسلمين». وكذلك حديث عبد المنعم عبد الرؤوف (أحد الضباط الأحرار المنتمين إلى جماعة الإخوان) لمرشد الإخوان آنذاك حسن الهضيبي، عندما قرر القيام بانقلاب ضد (الرئيس الأسبق جمال) عبد الناصر، وقال وقتها «تستطيعون إعلان مسؤوليتكم إذا نجح الانقلاب، وتستطيعون التنصل مني إذا فشل الانقلاب. لذا يبدو أن ذلك اتفاق غير مكتوب تناقلته الأجيال داخل قيادات الجماعة، وظل هو التكتيك المفضل، الذي يمكن أن نسميه التقية السياسية، التي برع فيها تنظيم الإخوان منذ بداياته».
ويظهر من خلال تلك المشاهد أن فكر التقية السياسية يصل إلى حد استعداد الفرد للتضحية بذاته من أجل الجماعة، ولا ينعكس فقط في تصرفات أحادية؛ بل يتعدى ذلك إلى تصرفات جمعية.. ويقول الخبير النفسي إن «ما شهده التاريخ القريب في ثورة يناير عام 2011 يعكس ذلك بوضوح، حيث أعلنت جماعة الإخوان في بيان واضح أنها لن تشارك في مظاهرات يوم 25 يناير، لكن كوادرها الصغرى شاركت بحماس؛ وكانت هذه الكوادر مستعدة لأن تنفي الجماعة الأم صلتها بها إذا فشلت التحركات.. وهي تصرفات لا يقوم بها إلا من صنعوا للموت».
ويؤكد الخبير النفسي أن عمليات الجماعات الإرهابية لا تختلف حالا عن تصرفات الإخوان: «فالفرد الانتحاري في (داعش) على سبيل المثال لا يتورع عن تفجير نفسه من أجل فكرة زرعت داخله. والمعتصمون في رابعة كان أغلبهم على ذات الشاكلة، إذ كانوا على استعداد للموت دفاعا عن أفكار القيادات، دون نقاش أو تفكير».
ويرى بان أن «(نائب المرشد) خيرت الشاطر يظهر جليا في أدائه الشخصي، النفَس التكفيري الواضح في مفرداته الشخصية، وهو ما يبرز صلاته بكل مجموعات السلفية والسلفية الجهادية». كما يوضح أن «إشارة (القيادي الإخواني) محمد البلتاجي إلى توقف العنف بمجرد عودة (الرئيس الأسبق الإخواني) محمد مرسي إلى الحكم، أو ما سماه بالشرعية، هو ربما أبعد من زلة لسان، ويعكس درجة من درجات التنسيق.. إضافة إلى أن فشل الجماعة في تحريك المشهد في الداخل المصري، قد يدفعها إلى أن تستخدم هذه الورقة، وتنشط قنوات قديمة بينها وبين هذه المجموعات لكي تهدد أمن الدول والأنظمة، بعدما فشلت في فرض كلمتها من خلال العمل السياسي».
ويؤكد بان أن «التنظيم الدولي للجماعة له شبكات معقدة راكمها خلال عقود من الوجود. فإن أيمن الظواهري (الزعيم الحالي لـ«القاعدة») نفسه كان إخوانيا في إحدى مراحله، وأسامة بن لادن (الزعيم السابق لـ«القاعدة») كان تلميذا نجيبا لعبد الله عزام، الذي كان وظل إخوانيا حتى مات. وهي صلات قديمة امتدت حتى (القيادي الإخواني السوري) منير الغضبان، وشكري مصطفى (مؤسس جماعة التكفير والهجرة) ورفاقه، وصالح سرية (مؤسس جبهة التحرير الفلسطينية) ورفاقه، وبالتالي ظلت هذه الصلات موجودة».
ويرى الخبير النفسي، الإخواني السابق، أن «كون قيادات التنظيمات الإرهابية البارزة كانوا على صلة وثيقة بالإخوان في مراحل تكونهم الأولى، يفسر تماما استعدادهم للموت، أو القيام بعمليات انتحارية، على شاكلة ما قام به التنظيم السري الذي ألهمه حسن البنا فكره في بداية نشأة الإخوان، والذي قام بأغلب العمليات الدموية للجماعة آنذاك، دون أن تتلوث يدا (البنا الدعوي) بالدماء».
ومنذ أيام، كشف تنظيم داعش عما مثل مفاجأة لكثير في الشارع المصري، مفادها أن أحد أبرز قادته الذين قاموا بعمليات انتحارية في العراق تحت كنية «أبو معاذ المصري»، هو نفسه الضابط المصري السابق أحمد الدروي، الذي كان يعتقد حتى وقت قريب أنه توفي في تركيا إثر إصابته بمرض عضال. وكان الدروي وقت وجوده في مصر من المساندين والمؤيدين لجماعة الإخوان، قبل فراره إلى تركيا بعد فض اعتصام الجماعة في ميدان رابعة العدوية الصيف الماضي.
وحادثة الدروي، الذي وصفه من عرفه بأنه «كان شخصا دمث الخلق ووديعا» أثناء وجوده في مصر، تكشف بوضوح عما يمكن تسميته «عقلية الفرد الإخواني»، وكذلك المتعاطفون معهم والمؤدلجون بفكرهم؛ والذين يمكن أن يتحولوا - إذا واتتهم الظروف - إلى «قنابل بشرية». ويرى مراقبون أن «فكر الموت» و«صناعة الانتحاري» هي فكرة أصلتها الجماعة منذ نشأتها. ويقول الخبير الأمني اللواء فؤاد علام، وهو قيادي شرطي سابق في جهاز أمن الدولة المصري، وكانت له صولات كبرى مع جماعة الإخوان وغيرها من التيارات المتشددة، إن «كل هذه التيارات المتطرفة تندرج تحت فكر واحد، ألا وهو أنهم يعتقدون أنهم «جماعة المسلمين، ومن عداهم ليسوا بمسلمين»، والأهم من ذلك أن جماعة الإخوان، لا تعلن ذلك، لكن كل الباحثين المنقبين في فكر حسن البنا نفسه سيجدون نفس المبادئ والمعتقدات. وكل هذه المجموعات تدور في نفس الفلك، فقط تختلف حول الزعامة أو أسلوب تحقيق دولتها وتحقيق أهدافها».
وبالوصول إلى اسم حسن البنا، نعود إلى البدايات للنظر في قصة الموت. وتحمل ذاكرة التاريخ مقالا هاما لمؤسس الإخوان، نشر في مجلة «النذير» بتاريخ 26 سبتمبر (أيلول) من عام 1938 عنوانه صريح، وهو «صناعة الموت». وقال فيه: «أجل صناعة الموت، فالموت صناعة من الصناعات؛ من الناس من يحسنها فيعرف كيف يموت الموتة الكريمة، وكيف يختار لموتته الميدان الشريف والوقت المناسب، فيبيع القطرة من دمه بأغلى أثمانها، ويربح بها ربحا أعظم من كل ما يتصوَر الناس، فيربح سعادة الحياة وثواب الآخرة، ولم تنتقص عن عمره ذرة، ولم يفقد من حياته يوما واحدا، ولم يستعجل بذلك أجلا قد حدَده الله. ومن الناس جبناء أذلة؛ جهلوا سرَ هذه الصناعة، وغفلوا عن مزاياها وفضائلها، فمات كل واحد منهم في اليوم ألف موتة ذليلة، وبقي وموتاته هذه حتى وافته الموتة الكبرى ذليلة كذلك، لا كرمَ معها ولا نبلَ فيها، في ميدان خامل خسيس ضارع، وقضى ولا ثمن له، وأهدر دمه ولا كرامة».
ويكمل البنا: «ثم جاءت من بعد ذلك خلوف من المسلمين ركنوا إلى الدنيا في العبث واللهو، وأهملوا مواد القوة، وجهلوا صناعة الموت، وأحبوا الحياة، وتنافسوا على لقبٍ كاذبٍ، وجاهٍ زائلٍ، ومالٍ ضائعٍ، ومظهرٍ زائفٍ، وتعس عبد الدينار؛ عبد الدرهم؛ عبد القطيفة، فوقعوا في الذلة، واستمكن منهم العدو، وخسروا سيادة الدنيا، وما أعظم تبعتهم في الآخرة، وحق عليهم قول الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فقد تداعت على المسلمين الأمم، ونزع الله من قلوب أعدائهم المهابة منهم، وقذف في قلوبهم الوهن، وإنما الوهن حب الدنيا وكراهة الموت. لكن الساعة ساعة العمل.. احتجوا بكل مناسبة وبكل طريق.. قاطعوا خصوم القضية الإسلامية مهما كانت جنسياتهم أو نِحَلهم. تبرَعوا بالأموال للأسر الفقيرة والبيوت المنكوبة والمجاهدين البواسل.. تطوعوا إن استطعتم - لا عذر لمعتذر - فليس هناك ما يمنع من العمل إلا ضعف الإيمان. ولا يهلك على الله إلا هالك».
وحين تتشابك الخطوط حول فكرة مسؤولية الجماعة الأم عن «صناعة الموت»، فإن مشهدا بارزا في ذاكرة مصر الحديثة من شأنه أن يفكك قليلا من هذا التشابك. ففي احتفال «الدولة الرسمية» في عام حكم الإخوان لمصر بنصر أكتوبر عام 2012. نرى في صفوف المحتفلين عددا من رموز التطرف، ومن بينهم بعض ممن سبقت محاكمتهم في قضية اغتيال الرئيس الأسبق أنور السادات نفسه، صاحب قرار الحرب في عام 1973. والذي اغتيل على يد تكفيريين من ناتج الجماعة في حادث المنصة الشهير عام 1981 خلال احتفاله بذات الذكرى.
وبحسب الإخواني السابق، فإن مثل هذا المشهد لا يؤكد فقط على علاقة الإخوان بالإرهاب، لكنه يفضح صناعتهم لفكر الموت، ويؤصل أن حلفاء الجماعة وخلفاءها جميعا يؤمنون بذات الصناعة.