الحلف الذي أسقط صنعاء لم يعد لغزا

صالح استغل الحوثيين واجهة لتثبيت نفوذه.. وربما إعادته لكرسي الحكم

الحلف الذي أسقط صنعاء لم يعد لغزا
TT
20

الحلف الذي أسقط صنعاء لم يعد لغزا

الحلف الذي أسقط صنعاء لم يعد لغزا

من أسقط العاصمة اليمنية صنعاء بيد المتمردين الحوثيين؟ سؤال يردده اليمنيون منذ 21 سبتمبر (أيلول) الماضي، لكنه لم يعد بلا جواب بعد أن اتضحت الصورة رويدا.. رويدا، وتكشفت بعدها اليد التي سلمت عاصمة بلدهم إلى جماعة مسلحة، فظهور القيادات العسكرية والأمنية والحزبية الموالية للرئيس السابق علي عبد الله صالح بأسمائها ومسلحيها في صنعاء و5 مدن أخرى، يكشف عن قدرة صالح على بناء تحالف جديد مع من قاد ضدهم 6 حروب، وكان المستهدف من هذا التحالف خصومه الذين أسقطوه من على كرسي الحكم عام 2011. ورغم ذلك، فإن صالح ظل ينفي وجود هذا التحالف ويعده ضمن محاولات خصومه لتشويه صورته.

لطالما ردد صالح عبارته المشهورة «الحرب من طاقة إلى طاقة»، وقد نجح في ذلك إلى حد كبير، فقد تحولت معظم مدن الشمال إلى مناطق عنف سقط فيها قتلى وجرحى، ويقابل ذلك تمكن صالح الذي يوصف بأنه «مراوغ وماكر» من تضليل الرأي العام والمجتمع الإقليمي والدولي بخروجه من السلطة، لكنه ظل يمتلك زمام السلطة عبر منظومة الحكم التابعة له من قيادات عسكرية وأمنية وحزبية موالية له كان يديرها بعيدا عن سلطة الدولة من خلال غرف تحكم مركزية كان يستخدمها أثناء حكمه، سواء في منزله المحصن بالضاحية الجنوبية للعاصمة صنعاء أو من مسقط رأسه في مديرية سنحان حيث احتفظ بمعسكرات في منطقة «ريمة حُميد»، وتضم جميع أنواع الأسلحة الثقيلة والمتوسطة ورفض تسليمها الدولة. ويقول نجل رئيس سابق في حديث جانبي مع «الشرق الأوسط»: «في أحد لقاءاتنا مع صالح، نصحناه بترك العملية السياسية وترك الشعب يختار طريقه، لكنه رفض وقال لنا: (علي وعلى أعدائي)».
لم يعد صعبا التوصل إلى حل لغز سقوط صنعاء، فشهادات كثير من العسكريين والجنود تؤكد أن السلطات العسكرية والأمنية سلمتها للحوثيين وبتوجيهات رسمية من قيادة وزارة الدفاع، التي كانت تؤكد مرارا أن الجيش مؤسسة محايدة، فيما يعتبر الحياد في هذه الظروف نوعا من الخيانة كما يقول الخبراء العسكريون، فالسيطرة على العاصمة صنعاء وقبلها سقوط مدينة عمران بيد الحوثيين، كانت بصمات صالح وأنصاره تظهر فيها، مستندا إلى منظومته الإعلامية والمالية والعسكرية والقبلية الذين كانوا يظهرون بأسمائهم وأسلحتهم لمساندة المتمردين الحوثيين. وقد أثبتت لجنة العقوبات التابعة لمجلس الأمن ذلك، إذ يسعى المجلس حاليا إلى معاقبة زعماء هذا التحالف الذين حددتهم اللجنة بـ5 أشخاص، يتصدرهم علي عبد الله صالح ونجله أحمد الذي يعمل سفيرا لبلاده لدى الإمارات، وعبد الملك الحوثي وشقيقه عبد الخالق، إضافة إلى القائد الميداني للحوثيين عبد الله الحاكم.

* هادي لغز محير

* لا يزال موقف الرئيس عبد ربه منصور هادي من التحالف بين صالح والحوثيين لغزا محيرا، فهناك روايات متعددة حول صمته الأولي من سيطرة الحوثيين على صنعاء وعدم اتخاذه قرارات حازمة ضد من أسقط صنعاء واقتحم ونهب معسكرات الجيش بما فيها من الأسلحة الثقيلة. وعلى الرغم من أن خطاباته فيها الكثير من الوعيد والهجوم على الحوثيين، لكنها تبقى حبرا على ورق، كما يقول كثير من المحليين. فوزير الدفاع محمد ناصر أحمد علي، المقرب من هادي، أصدر التعليمات للجيش بتسليم المعسكرات للحوثيين بصنعاء، وهناك روايات أخرى مفادها أنه (هادي) ربما هو نفسه ضمن هذا التحالف الذي أسقط هيبة الدولة. ويلاحظ في خطابات هادي أنه كان دائما ما يردد مقولته الشهير: «إن محافظة عمران خط أحمر، وصنعاء خط أحمر»، لكن الحوثيين تجاوزوا هذه الخطوط ووصلوا إلى بوابة قصره الرئاسي بصنعاء وذهبوا إلى أبعد من ذلك عبر مد نفوذهم إلى مدن ذمار والحديدة وإب والبيضاء وحجة.
لقد كان وزير الخارجية اليمني، جمال السلال، واضحا عندما اتهم أنصار صالح بمساعدة المتمردين الحوثيين للسيطرة على العاصمة صنعاء، فقد أكد في كلمته أمام الدورة الـ69 للجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك الشهر الماضي: «ما كان لذلك أن يحدث لولا الدعم السياسي والتنسيق اللوجيستي من قبل بعض عناصر النظام السابق». وتؤكد الإحصاءات الخاصة بالمعسكرات والمنازل التي تم اقتحامها من قبل الحوثيين وقوف صالح وراء ذلك، فالمعسكرات والمنازل كانت لخصوم صالح، أبرزهم الجنرال علي محسن الأحمر، ورجل الأعمال حميد الأحمر، إضافة إلى مقرات ومنازل قادة حزب الإصلاح الذي قاد ثورة الشباب عام 2011 التي نجحت في إسقاط صالح من الحكم. وتشير الإحصاءات الخاصة بما تم اقتحامه ونهبه من قبل الحوثيين، إلى رصد أكثر من 211 مقرا من المنشآت الحكومية والعسكرية والخاصة، منها 29 مقرا لحزب الإصلاح، و62 منزلا لقياداته أو الموالين له، إضافة إلى 26 مؤسسة تعليمية، و8 مؤسسات إعلامية. وفي المقابل، تركت معسكرات الحرس الجمهوري المنحل وألوية العمليات الخاصة كما هي ولم يتم اقتحامها أو الاقتراب منها، ويعرف عن هذه المعسكرات ولاؤها الكبير لأحمد نجل صالح الذي كان قائدا لها قبل تعيينه سفيرا لدى الإمارات.
ورغم الشواهد الكثيرة التي تثبت تحالف الحوثيين مع صالح، فإن الناطق باسم «المؤتمر» والأحزاب المتحالفة معه ينفي وجود هذا التحالف، واعتبر الناطق الرسمي للحزب عبده الجندي، أن ما حدث بصنعاء كان بين طرفين متصارعين هما الحوثيون وحزب الإصلاح، موضحا أن التحالف مع الحوثيين هو مجرد «أخبار واتهامات ووقائع مكذوبة ولا أساس لها من الصحة وتهدف إلى الإساءة إلى (المؤتمر الشعبي العام) وقيادته ومواقفه»، لكن قيادات محلية معارضة للحوثيين، في صنعاء، ومحافظات الحديدة وإب والبيضاء أكدت وجود قيادات من أنصار صالح وجنود من الحرس الجمهوري الذي كان يقوده أحمد نجل صالح، في صفوف الحوثيين، وأغلبهم يسيطرون على المقرات العسكرية والحكومية في صنعاء، فأغلب المسلحين فيها يدينون بالولاء لصالح ونجله أحمد الذي يعتبرونه الرئيس المقبل لليمن، ويضعون صوره على بنادقهم وعرباتهم.

* تسليم صنعاء

* يشرح الخبير العسكري العميد محسن خصروف أن «علي عبد الله صالح ضالع في دعم الحوثيين لإسقاط صنعاء وبقية المدن، من أعلى الرأس إلى أخمص قدمه»، ويضيف لـ«الشرق الأوسط»: «كان لصالح شخصيا وقياداته العسكرية السابقة من الحرس الخاص وقيادات من (المؤتمر الشعبي العام)، مخطط تم إعداده منذ سنتين، ولهم علاقة بما حصل في عمران واقتحام صنعاء وبقية المدن ونهب أسلحة الجيش، وقد كان الحوثيون مجرد غطاء لصالح وأنصاره». وأوضح أن مؤشرات هذا الدعم يكمن في «المشاركة المباشرة لقيادات عسكرية وأمنية وبرلمانيين بأسمائهم ومراكزهم في حصار صنعاء، وهم معروفون للجميع». وحول سهولة دخول الحوثيين وسيطرتهم على المدن، يقول العميد خصروف: «صنعاء والمدن الأخرى لم تسقط، ما حدث ببساطة أنه جرى تسليم وتسلم، عبر اتفاق مسبق بين القيادات العسكرية والأمنية والسياسية، وما حدث من معارك أثناء اقتحام صنعاء كان بهدف التغطية على ذلك، لكن مع الأسف كان الضحية الجنود والمدنيين الذين سقطوا فيها حتى تكتمل التمثيلية الإجرامية». وعد خصروف ما يحدث في اليمن «عملية معقدة، وهي نتاج اتفاق محلي وإقليمي ودولي، حيث تم تعطيل سلطات الدولة بفعل فاعل، وصدرت الأوامر بتحييد قوات الجيش والأمن وترك الميدان للحلف الحوثي الصالحي، ليتسلموا المدن». ويتابع خصروف: «لا يفترض أن يكون الجيش محايدا، ولا أن يكون منحازا إلى أي طرف، بل عليه أن يوقف ما يهدد الأمن القومي للبلاد الذي تم تجاوزه خلال هذه الأحداث، فالجيش من واجباته إيقاف الصراع بين طرفين أو فئتين، ويضرب بيد من حديد الجماعات المسلحة التي تنشر العنف في أي منطقة بالبلاد».
ويرجع الخبير العسكري سبب هذا التحالف بين صالح والحوثيين إلى رغبة الأول في العودة للحكم، ويقول: «كان الهدف الرئيس من هذا الحلف هو العودة للحكم، لكن المتضرر المباشر من ذلك هي العملية السياسية التي تم إحباطها وإعاقتها وخلط أوراقها، إضافة إلى أن هذا التحالف يستهدف جهود الدول الشقيقة والصديقة، خاصة المملكة العربية السعودية، التي رعت العملية السياسية ودعمت انتقال السلطة». وأشار إلى أنه ليس في صالح اليمن استمرار هذا التحالف الذي يقود البلاد إلى «مستقبل مدمر» ويخلق جماعات محلية مضادة كما حدث في محافظتي البيضاء، وإب. وبحسب العميد خصروف، فإن «تمدد الحوثيين كان له رد فعل لإقامة حلف مضاد من قيادات مجتمعية وسياسية، وهم على استعداد للوقوف مع أي قوة تواجه ما يسمى بالحلف الصالحي - الحوثي، وذلك سيدخل البلاد في دوامة صراع وحروب أهلية، تكون المذهبية والطائفية هي عنوانها، وربما نصل إلى طريق التجربة السورية والعراقية إذا لم يتم إيقافها».
من جانبه، يرى الكاتب السياسي ياسين التميمي أن الأحداث التي شهدها اليمن وأعادت صياغة المشهد السياسي فيه، بدءا من دماج ومرورا بعمران وانتهاء بسقوط العاصمة صنعاء بيد الحوثيين، ليست إلا مشروعا تبناه الرئيس السابق علي عبد الله صالح، بالتعاون مع الحوثيين، من أجل استعادة السلطة، عبر اللعب بالأوراق الخطرة وأخطرها الورقة المناطقية والطائفية.
ويقول التميمي لـ«الشرق الأوسط»: «التقدم العسكري الذي أحرزه الحوثيون كان بفضل التحاق مئات العناصر من الحرس الجمهوري المنحل الذي لا تزال وحداته المندمجة ضمن ألوية عسكرية جديدة، تدين بالولاء لقادتها السابقين من أبناء الرئيس وأقاربه والمحسوبين عليه، هذا بالإضافة إلى الأسلحة الحديثة والمتطورة»، مضيفا أن «حلف الثورة المضادة (صالح + الحوثيين)، يتمثل في 3 مستويات، الدعم العسكري، والدعم الإعلامي والدعم الاجتماعي، فعملية الاستقطاب الواسعة التي جرت في الأوساط القبلية برعاية صالح، عبر استخدام الحشد القبلي في حصار صنعاء وانضمامهم إلى حركة الاحتجاجات التي عبارة عن غطاء لمخطط الانقلاب على الدولة».
ويؤكد التميمي أن «مشروع استعادة السلطة كان واضحا في خطابات زعيم الحوثيين عبد الملك الحوثي، الذي كان يظهر قدرا من الود تجاه حزب المؤتمر الشعبي العام الذي يتزعمه صالح، ويتبنى خطابا حادا تجاه خصوم صالح الذين أطاحوا به، وعلى رأسهم حزب الإصلاح واللواء علي محسن وغيرهم من القادة العسكريين والساسة الذين دعموا الثورة الشعبية، بالإضافة إلى مشايخ حاشد من آل الأحمر، الذين كانوا أهدافا للحرب الحوثية، التي هي الوسيلة المعتمدة في مشروع استعادة السلطة». وحذر التميمي من خطورة هذا التحالف على اليمن بين صالح والحوثيين لأنه «يستند إلى أسس مذهبية ومناطقية، سيكون من نتائجها إذكاء حرب أهلية وطائفية في اليمن، يصعب التكهن بمآلاتها».

* أطماع متجددة

* لقد جاء الحوثيون من بلدة مران في أقصى شمال اليمن إلى صنعاء مرورا بمدن الوسط والغرب، تحت لافتة حركة احتجاجية ضد الحكومة. لكن الكثير من اليمنيين يقرون بأن إمكانات وقوة الحوثيين لا تمكنهم من تحقيق ذلك، دون التحالف مع صالح. ويفسر المحلل السياسي الدكتور عبد الباقي شمسان ما يحدث باليمن بأنه تكرار لتجارب سابقة، ويقول لـ«الشرق الأوسط»: «بقراءة مقارنة بين اتفاقية التسوية بين الملكيين والجمهوريين في منتصف السبعينات من القرن السابق والتسوية الخليجية عام 2011، نجد أنه لا فرق بينهما، رغم الفارق الزمني، فنجد عودة الملكيين مقابل تجديد شرعية نظام صالح وعودته، ثم الاستفتاء على شكل الدولة مقابل إقامة حكومة مناصفة»، موضحا «تلك التسوية جعلت الحقل السياسي اليمني مضطرب حتى يومنا هذا، أما التسوية الثانية فلم تستفد من علم الانتقال الديمقراطي والتجارب الدولية التي تقتضي إجراء مصالحة مع الذاكرة الوطنية وانسحاب طوعا وجبرا لعدد من الفاعلين السياسيين من الحقل السياسي، خاصة إذا جاءت التسوية بعد احتراب». واعتبر أن «بعض البلدان الراعية اعتقدت أن كل خيوط اللعبة بيدها، فكانت تترك الحقل السياسي يتفاعل باستقلال محفوف بالمخاطر وانساق الجميع في مسار سياسي مضمون بمواد التسوية، لكن في الوقت نفسه استمر الصراع بمختلف الوسائل»، على رأسها المسلحة.
ويؤكد شمسان أن «عودة النظام السابق كان مخططا لها، من قبل صياغة التسوية التي كانت بداية لتجديد شرعية النظام السابق، وفي مرحلة ثانية تركت السلطة الانتقالية دون دعم، لكي تواجه الأزمات الاقتصادية والأمنية وعمال تخريب تمهيدا للانقضاض عليها». وتابع: «لم تكن الأطراف الراعية تدرك مقدار الاحتقان ونزوع العودة للسلطة ودرجة تشابك جماعات المصالح، والأهم من ذلك مدى توغل إيران في اليمن وتحالفاتها مع الجماعات المتصارعة التي تجمعت براغماتيا حول جملة من الأهداف المشتركة المتمثلة في تصفية الخصوم والعودة إلى السلطة بشكليها السلالي الإمامي والعائلي الصالحي». وينتقد شمسان بعض الدول التي كان لها ما وصفه بـ«قصر نظر» تجاه المخاطر التي تحدث في اليمن، إثر تسليم العاصمة صنعاء في 21 سبتمبر، رغم ما بيده من قدرات مالية وتحالفات وإمكانات استخباراتية. ويقول إن كان على تلك دول «أن تراهن على الشعب اليمني وليس على أشخاص، أو جماعات». ولفت إلى أهمية اهتمام الدول الخليجية بما يدور في اليمن، قائلا: «اليمن هو عمقها الاستراتيجي، وعليها أن تفكر في كيف تحمي ذلك، وتتدخل بقوة فاعلة لإعادة الاستقرار إلى البلاد التي قد تنحدر إلى صراعات قد تمتد عقدين أو ثلاثة».



ترسيم حدود لبنان وسوريا يشكّل الاختبار الأول لعلاقاتهما

الأمير خالد بن سلمان وزير الدفاع السعودي يتوسط الوزيرين منسى وابو قصرة في لقاء التوقيع بمدينة جدة (واس)
الأمير خالد بن سلمان وزير الدفاع السعودي يتوسط الوزيرين منسى وابو قصرة في لقاء التوقيع بمدينة جدة (واس)
TT
20

ترسيم حدود لبنان وسوريا يشكّل الاختبار الأول لعلاقاتهما

الأمير خالد بن سلمان وزير الدفاع السعودي يتوسط الوزيرين منسى وابو قصرة في لقاء التوقيع بمدينة جدة (واس)
الأمير خالد بن سلمان وزير الدفاع السعودي يتوسط الوزيرين منسى وابو قصرة في لقاء التوقيع بمدينة جدة (واس)

شكّلت الاشتباكات التي شهدتها الحدود الشرقية للبنان منتصف شهر مارس (آذار) الحالي أول اختبار للدولتين اللبنانية والسورية الجديدتين، في مقاربة الملفات المعقّدة والمتراكمة التي كان النظام السوري السابق كما الحكومات اللبنانية التي كان يسيطر عليها «حزب الله» تفضّل أن تبقى مجمّدة على حالها تبعاً لمصالح الطرفين. الحدود اللبنانية - السورية تمتد على طول أكثر من 375 كلم. ويُجمع الخبراء على أن تأخر ترسيمها، ووجود عوامل جغرافية واجتماعية تضاف إليها عوامل أخرى سياسية وأمنية، أمور تجعل منها «خاصرة رخوة» للبلدين، قد تشهد تجدد المواجهات العسكرية في أي وقت كان، وبخاصة أن فيها عشرات المعابر غير الشرعية التي تُستخدم لتهريب الأفراد والسلع والسلاح منذ سنوات طويلة.

شهد ملف ترسيم الحدود اللبنانية - السورية خلال الساعات الماضية خرقاً كبيراً بالإعلان من مدينة جدّة عن توقيع اتفاق برعاية ووساطة المملكة العربية السعودية بين وزير الدفاع اللبناني ميشال منسّى ووزير الدفاع السوري مُرهف أبو قصرة، جرى فيه التأكيد على «الأهمية الإستراتيجية لترسيم الحدود بين البلدين، وتشكيل لجان قانونية ومتخصصة بينهما في عدد من المجالات، وتفعيل آليات التنسيق بين الجانبين للتعامل مع التحديات الأمنية والعسكرية على أن يُعقد اجتماع متابعة في المملكة العربية السعودية خلال الفترة المقبلة».

الأمير خالد بن سلمان وزير الدفاع السعودي يتوسط الوزيرين منسى وابو قصرة في لقاء التوقيع بمدينة جدة (واس)
الأمير خالد بن سلمان وزير الدفاع السعودي يتوسط الوزيرين منسى وابو قصرة في لقاء التوقيع بمدينة جدة (واس)

مصادر مطلعة رأت أن دخول المملكة العربية السعودية على خط الوساطة بين البلدين «يجعل أي اتفاق أو تفاهم أمكن التوصل إليه ملزِماً للطرفين ويعطيه بُعداً أكثر جدية». وما تجدر الإشارة إليه هنا أن الجيش اللبناني ينشر 4 أفواج على طول الحدود اللبنانية - السورية بعدد عناصر يبلغ نحو 4838 عنصراً، يتوزّعون على 108 مراكز من بينها 38 برج مراقبة مجهزين بكاميرات وأجهزة استشعار ليلية، كما كان قد أعلن رئيس الحكومة السابق نجيب ميقاتي. إلا أن هذا الواقع لم يحُل دون مواجهات عنيفة شهدتها هذه الحدود بدأت بين العشائر، وانضم إليها «حزب الله» قبل أن تتحوّل بين الجيش اللبناني وقوات الأمن السورية؛ ما أدى إلى مقتل 7 أشخاص في لبنان و3 من الجانب السوري.

التطورات الميدانية

المناطق الحدودية – في شمال شرقي لبنان بالذات - كانت قد شهدت، بعد سقوط النظام السابق في دمشق، اشتباكات متفرقة بين مهرّبين من الطرفين. وأطلقت قوات الأمن السورية خلال شهر فبراير (شباط) الماضي حملة أمنية في محافظة حمص التي تحدّ شمال لبنان وشماله الشرقي؛ بهدف إغلاق الطرق المستخدمة في تهريب الأسلحة والبضائع. وتتهم هذه القوات «حزب الله» بأنه ينشط في رعاية عصابات التهريب عبر الحدود، وأن المواجهات المسلحة التي خاضتها على الحدود الشرقية للبنان شارك فيها عناصر الحزب بشكل مباشر. غير أن قيادة «حزب الله» نفت أي علاقة له بالموضوع.

وفي منتصف الشهر الحالي، بعد مواجهات دامية بين الطرفين على أثر اتهام سوريا عناصر «حزب الله» بدخول أراضيها وخطف وقتل ثلاثة من أفراد الجيش السوري، دخل الجيش اللبناني على الخط بإيعاز من رئيس الجمهورية العماد جوزيف عون الذي أعطى توجيهاته بالردّ على مصادر النيران والانتشار في بلدة حوش السيد علي التي شهدت أعنف المواجهات. ومن ثم، أوكل الرئيس عون وزير الخارجية اللبناني يوسف رجّي التواصل مع السلطات السورية لحل الأزمة، قبل أن يتسلّم وزير الدفاع منّسى الملف.

الترسيم أولاًفي أي حال، يرى كثيرون أن حل الأزمة الحدودية بين البلدين تبدأ بترسيم الحدود. وحقاً، هذا ما نصّ عليه قرار مجلس الأمن الدولي في عام 2006، وحمل الرقم 1680، ولحظ إلى جانب الترسيم إقامة علاقات دبلوماسية رسمية بين البلدين، كما أكد على وجوب نزع سلاح الميليشيات. غير أن سوريا رفضت، يومذاك، القرار، واعتبرته تدخلاً في شؤونها الداخلية، بينما رحّب به عدد من الدول الغربية بجانب الحكومة اللبنانية.

قوات في المنطقة الحدودية بين سوريا ولبنان (آ ب)
قوات في المنطقة الحدودية بين سوريا ولبنان (آ ب)

العميد المتقاعد خليل الحلو، الباحث اللبناني في الشؤون السياسية والاستراتيجية، يرى أن «مسألة ترسيم الحدود مع سوريا ليست مسألة طوبوغرافية حصراً، إنما لها بُعد اجتماعي باعتبار أن لدى كثيرين من اللبنانيين أملاكاً في الجهة السورية من الحدود، ما يتطلب نقاشات ومفاوضات طويلة». ويلفت الحلو في لقاء مع «الشرق الأوسط» إلى أن «القضية لا تُحل على مستوى وزيري الدفاع أو الجيشين اللبناني والسوري، بل تحتاج إلى مؤتمر قمة بين رئيسي جمهورية البلدين يضم وزراء متخصصين، وهي ورشة إذا ما انطلقت قد تستمر لسنوات».

وفق الحلو، فإن «تطبيق القرار الدولي 1680 مرتبط بشكل أساسي بقدرة الجيش اللبناني على الانتشار لضبط الحدود. وراهناً لديه 4 أفواج حدود برّية وعشرات أبراج المراقبة، كما يمتلك سلاح جو. وبالتالي، إذا ما كُلّف فعلياً ضبط الحدود عبر قرار سياسي واضح، لا بالكلام وحده، فهو قادر على ذلك، من دون تناسي أدوار الأجهزة الأمنية الأخرى في هذا المجال».

للعلم، تربط لبنان وسوريا 6 معابر نظامية، هي:

- معبر المصنع الذي يربط بين بيروت ودمشق من جهة البقاع الشرقي

- معبر جوسية الواقع بين بلدة القاع اللبنانية ومدينة القصير السورية

- معبر مطربا شرقي مدينة الهرمل اللبنانية

- معبر الدبوسية بشمال لبنان

- معبر تلكلخ غربي محافظة حمص، مقابل منطقة وادي خالد في عكار

- ومعبر العريضة قرب الشاطئ الذي يؤدي من شمال لبنان إلى مدينة طرطوس السورية.

أما المعابر غير الشرعية فتعدُ بالمئات.

الرؤية السورية

في هذه الأثناء، ترى جهات رسمية لبنانية، فضَّلت إغفال ذكر هويتها، أن السلطة الجديدة في سوريا «لا تبدو متحمسة أو مستعجلة» لبت الملفات العالقة مع لبنان، سواء الملف الحدودي أو ملف اللاجئين أو سواها من الملفات؛ نظراً لأن أولوياتها لا تزال محصورة بضبط الوضع في الداخل السوري، ومعالجة مئات الملفات لتسهيل أمور الناس داخل البلاد. وتشير مصادر في تصريحات لـ«الشرق الأوسط» إلى وجود علامات استفهام حول قدرة السلطات الجديدة هناك من الإمساك بكامل الأراضي السورية وضمناً الحدود.

في المقابل، توضح السياسية والباحثة السورية - الأميركية الدكتورة مرح البقاعي لـ«الشرق الأوسط» أن «الدولة الجديدة في سوريا لا تزال في مرحلة التأسيس؛ إذ لم يتجاوز عمرها ثلاثة أشهر». ومن ثم تتطرق إلى «الكثير من القضايا والمشكلات العالقة في الداخل السوري، خصوصاً بعد سقوط نظام استبدّ بالحكم لمدة خمسين سنة ونصف السنة. لذلك؛ حتى الآن، لم يكتمل المشهد الداخلي السوري بصورته الرسمية والإجرائية».

وترى البقاعي أن «الاشتباكات عبر الحدود هي في منطقة لطالما كانت غير مستقرة لعقود. ثم أنها كانت تحت سيطرة النظام السابق في سوريا، شهدت تفاعلات معقدة، إذ كانت بعض العشائر المحلية على وفاق مع النظام الذي رحل، كما كان لها علاقات مع (حزب الله) في لبنان. هذه العشائر كانت تعمل على طرفي الحدود، وتعتمد بشكل أساسي على التهريب مصدراً للموارد».

وبحسب البقاعي، «تكمن المشكلة الأساسية في هذه المنطقة الحدودية - وتحديداً في المنطقة الشرقية - في غياب الأمن والسيطرة الفعلية، حيث تنتشر عصابات التهريب التي اعتاشت لعقود على هذه الأنشطة في ظل غياب أي تنمية حقيقية. ومع الواقع الجديد في البلدين، أتت الاشتباكات نتيجةً مباشرة لمحاولة الأطراف الجديدة فرض سيطرتها».

أما عن رؤيتها للحل، فتقول الباحثة السورية - الأميركية إنه «من الضروري البدء بوقف عمليات التهريب، لكن الحل الجذري يتطلب العودة إلى مسألة ترسيم الحدود بين البلدين. وهذا أمر معقّد وسيأخذ وقتاً؛ إذ إنه مرتبط بالوضع الإقليمي ككل، وليس فقط بالحدود اللبنانية - السورية، بل يشمل أيضاً الحدود اللبنانية مع إسرائيل».

وللعلم، تعدّ مصادر نيابية لبنانية أن وضع الحدود السورية الراهن مرتبطاً إلى حد كبير بوضع الحدود الجنوبية. وتشير لـ«الشرق الأوسط» إلى «وجود قرار أميركي - إسرائيلي حاسم بتضييق الخناق على (حزب الله)، وقطع كل طرق إمداده بكل الوسائل، ومن هنا تُفهم عمليات القصف الإسرائيلي التي نشهدها للحدود الشرقية بين الحين والآخر».

ولادة متعسّرة

في الحقيقة، بعد سقوط النظام في سوريا، كانت هناك خشية لبنانية كبيرة من تفلّت أمني ينسحب على لبنان. وظلّت السلطات في بيروت تراقب من بعيد التطورات إلى أن قرّر رئيس الحكومة السابق نجيب ميقاتي زيارة دمشق للقاء الرئيس السوري أحمد الشرع منتصف يناير (كانون الثاني) الماضي، إلا أن اللقاء بقي دون نتائج. وعملية.

أيضاً، عُقد لقاء بين الشرع وعون على هامش القمة العربية في مارس (آذار) الحالي، شدَّدا خلاله على ضرورة ضبط الحدود بين البلدين. لكن المواجهات المسلحة التي تلت اللقاء أكدت أن الملف يتطلب معالجة أعمق وعلى المستويات كافة.

هنا لا تُنكر مرح البقاعي أن «العلاقات السورية - اللبنانية تشهد ولادة متعسّرة، سواءً في سوريا بعد سقوط النظام، أو في لبنان بعد الفراغ الحكومي الطويل. وكلا البلدين في حاجة ماسة إلى التعاون في مختلف المجالات، وأهمها المجال الأمني».

وهي ترى أيضاً أن «ما يمنح الدولة السورية الجديدة شرعية كبيرة، ويجعل المجتمع الدولي، بما في ذلك الولايات المتحدة الأميركية، يثق بها، هو أن بعض المجموعات التي كانت في السلطة سابقاً والمصنّفة على قوائم الإرهاب لم تعُد جزءاً من المشهد». وتتابع أن «الدول الأوروبية بدأت بالتعامل بشكل إيجابي مع الدولة الوليدة في سوريا. والسبب الرئيس لهذا التغير هو قدرة السلطات الجديدة في سوريا على إنهاء وجود حزب الله والميليشيات الإيرانية في البلاد خلال وقت قياسي... وهذا إنجاز يحسب لها، ليس فقط على المستويين الدولي والإقليمي، بل أيضاً بالنسبة للشعب السوري نفسه. إذ تم تحرير سوريا، وحياتها العامة، ومجتمعها من قبضة النفوذ الإيراني، الذي تسبّب في حالة من الفساد وانعدام الاستقرار لعقود طويلة».