لم يعد من الممكن فهم الوضع في ليبيا من أول نظرة.
أنت لست أمام فريقين لكرة القدم، ولا أمام جبهتي قتال. الحرب هنا تسير عبر طرق متقاطعة.. أفقية وأخرى رأسية، وفي الخلفية توجد مسارات متباينة. وتوجد على السطح جبهتان تتقاتلان، جبهة المتطرفين بقيادة شخصيات تنتمي إلى جماعة الإخوان المسلمين وأخرى إلى «الجماعة الليبية المقاتلة» وجهاديين كُثُر، وجبهة قوات اللواء المتقاعد خليفة حفتر. ويبدو مستقبل ليبيا «على كف عفريت»، فرغم ظهور تصدع في جبهة المتطرفين، ومكاسب للجناح المدني، فإن الوصول إلى الاستقرار ما زال بعيد المنال.
ومنذ انتهاء نظام القذافي وتشكيل مؤتمر وطني (برلمان مؤقت) وحكومة مؤقتة، ظهر على واجهة الأحداث فريقان متنافسان في السياسة، لكن لكل منهما تسليحه الذي لا يستهان به.. الأول يمثل تيار المتشددين وتقوده جماعة الإخوان، والثاني التيار الليبرالي وكان يقوده محمود جبريل، رئيس أول حكومة للثوار. وكان القذافي قبل ثورة «17 فبراير» (شباط) 2011، يدير الأمور وهو يتحسب في خطواته للثقل القبلي والجهوي في البلاد ذات الطابع العشائري والتحيز الجغرافي، وكان أيضا يضع اعتبارا لهذا في تشكيل الحكومة والأجهزة الأمنية المتعددة، والوزارات السيادية وغيرها. وفجأة انفرط العقد، لأن هناك فرقا جوهريا بين ليبيا وباقي دول ما يعرف بـ«الربيع العربي» يتعلق أساسا بالجيش وبالسياسة.
يوجد جيش وقوى سياسية في كل من مصر وتونس، لكن ليبيا، حين قامت «ثورة فبراير» لم يكن فيها جيش مماثل، ولا قوى سياسية منظمة.. وبينما جرى تحريم العمل الحزبي في البلاد منذ سبعينات القرن الماضي، كانت القوات المسلحة الليبية أيضا عبارة عن مجموعة من الكتائب التي يقف على رأس كل منها قائد قائم بذاته تقريبا، ويعمل دون تنسيق يذكر مع غرفة العمليات الرئيسة، بينما كانت وزارة الدفاع الليبية المفترض أنها تمثل عصب الجيش، مجرد اسم، ووزير دفاع لا حول له ولا قوة، وإن ظل صديقا مخلصا للقذافي حتى قُتل معه بسرت في خريف 2011.
وظلت كتائب القذافي تحارب وتقاتل في الشوارع والمدن، بعد أن تحولت الهبَّة الشعبية لانتفاضة مسلحة، غاب عنها السياسيون والحزبيون الفاعلون على الأرض وفي جبهات القتال، وفي المقابل شارك في تأجيج الانتفاضة الكثير من قادة التيارات المتطرفة، خاصة أولئك الذين خرجوا من السجون بعفو من القذافي ونجله سيف الإسلام، مثل قادة بـ«الجماعة المقاتلة» التي تأسست أصلا في أفغانستان في أواخر ثمانينات القرن الماضي، وقادة من «الإخوان»، وآخرون من حركات جهادية كانت كامنة في الظل.
ولهذا، كما يقول عبد الله ناجي، وهو عضو في حزب التحالف الديمقراطي: «في نهاية المطاف، كما نرى اليوم، تغلب الصراع بالأسلحة على الصراع السياسي.. القيادات المتطرفة تدربت في السابق في أفغانستان والعراق، ولدى البعض منهم خبرات في العمل السري والتنظيمي وحروب العصابات»، مشيرا إلى أن الإسلاميين هم من بدأوا هذا النوع من الصراع الدامي مع الطبقة السياسية التي بدأت الظهور على السطح بعد مقتل القذافي.
لكن الإسلاميين من جانبهم يدافعون عن أنفسهم بالقول إنهم «يحرسون ثورة فبراير من الليبراليين والعلمانيين وأنصار النظام السابق»، كما يقول أحد المقربين من محمد الزهاوي، رئيس جماعة أنصار الشريعة، وهي واحدة من الميليشيات التكفيرية التي يتركز وجودها في كل بنغازي ودرنة، ولديها صواريخ ومخازن أسلحة ضخمة وقامت أخيرا بإعلان موالاة فرع الجماعة في درنة لـ«داعش».
ويبدو أن المتطرفين كانوا يعززون من قدراتهم العسكرية والقتالية منذ وقت مبكر.. أي منذ بدأ المئات من قادتهم يعودون من الخارج للاشتراك في قتال قوات القذافي. ويقول محمد عايزينة، وهو ضابط انشق بعدد من جنوده سريعا من كتيبة الكويفي شرق بنغازي، أثناء أحداث 2011، إنه منذ الأسبوع الأول للثورة وحتى مقتل القذافي في أكتوبر (تشرين الأول) من تلك السنة.. «كان جميع المنخرطين في قتال النظام يعملون جنبا إلى جنب دون تفرقة مع الإخوة المجاهدين ومع باقي الناس العاديين، سواء من الشبان المدنيين المتطوعين في الحرب ضد القذافي، أو من الجنود النظاميين والضباط الذين انضموا إلى الثورة».
ويضيف: «كانت هناك أمور لم نفهمها في وقتها، لكن بدأنا نفهمها الآن.. ففي بداية الثورة، كان قادة المجموعات المتطرفة يأمرون أنصارهم بجمع الأسلحة من معسكرات القذافي ثم يختفون بها في مخازن وفي مواقع تخصهم، وزادت هذه الظاهرة حتى بعد مقتل العقيد معمر، وانتهاء الحرب، حيث أصبح تحت أيديهم ألوف الصواريخ العابرة للمدن، بالإضافة إلى أعداد مهولة من القذائف والأسلحة والآليات العسكرية كالمدرعات والدبابات».
وبعد انهيار النظام القديم، ألقى معظم المتطوعين المدنيين أسلحتهم، وعادوا إلى بيوتهم وأعمالهم. كما بدأ ألوف الجنود والضباط العودة للالتحاق بمعسكراتهم، لكن قطاعا بعينه من هؤلاء «الثوار» ظل متمسكا بأسلحته وقواته وميليشياته، تحت زعم الدفاع عن الثورة وحمايتها من الانقلاب عليها من جانب الموالين للقذافي. وقاد عدد من المتشددين في كل من جماعة الإخوان و«الجماعة المقاتلة»، وقطاعات جهادية أخرى، هذا التوجه الذي عززته أوامر أصدرها المجلس الانتقالي في أواخر 2011 تتلخص في إلزام الدولة صرف رواتب لهذه الميليشيات نظير حمايتها المنشآت العامة والمؤسسات الرسمية والحدود وغيرها.
ويقول الباحث الليبي أحميدة علي، إن صرف رواتب من الدولة للميليشيات، منذ البداية، أغرى قطاعات مختلفة من الشباب صغار السن للانخراط فيها، بغض النظر عن توجهات قادتها، سواء كانوا سياسيين أو جهاديين، كما دفع عاطلين وطامحين إلى تشكيل ميليشيات إضافية وإرغام الحكومة على صرف رواتب لهم مقابل أي أعمال يكلفون إياها حتى لو كانت غير ذات أهمية.
ويضيف: «بدأت هذه الميليشيات، أو الكتائب كما يطلق عليها البعض، تشعر بخطورة السماح بوجود مؤسسة قوية للجيش والشرطة، لأن وجود مثل هذه المؤسسة يقضي على السبب الذي تتقاضى من أجله تلك الميليشيات رواتب شهرية بملايين الدولارات. ولهذا، كانت ملامح الصدام تلوح في الأفق بين من يريدون استمرار الفوضى ومن يريدون بناء الدولة كما ينبغي، خاصة مع ارتفاع أصوات السياسيين والناشطين المدنيين بالمطالبة بحل الميليشيات وجمع الأسلحة منها.
وبدأت على هذا عملية جديدة مضادة وواسعة لعرقلة بناء المؤسسات الأمنية، كان أهم مظاهرها تكاثر عدد الميليشيات من مختلف المشارب، جهاديون ومتطرفون أجانب ولصوص، وإن ظل أقواها وأكثرها تنظيما تلك التي تهيمن عليها جماعة الإخوان و«الجماعة المقاتلة». وجرى استهداف ضباط الجيش والشرطة الذين كانوا يحاولون الانتظام في معسكراتهم وإداراتهم، دون أي تشجيع حقيقي من وزارة الدفاع التي سيطر على مقاليد الأمور فيها محسوبون على التيار المتطرف. وقُتل في عمليات الاغتيال تلك أكثر من 140 من القادة العسكريين في مدينة بنغازي وحدها.
وتزامنت مع ذلك عمليات نفي لكل من كانت له صلة بالنظام السابق، كان أبرزها إصدار قانون العزل السياسي في مطلع عام 2013 ليتخذ الوضع في ليبيا ما يشبه محاولات الاجتثاث الجذري لكل من عمل في الدولة أيام القذافي منذ عام 1969 حتى 2011 بما فيه من قادة عسكريين وسياسيين وكوادر لديها خبرة بإدارة الدولة. وتمكن التيار المتطرف بأذرعه الميليشياوية المسلحة، منذ تشكيل «المؤتمر الوطني» والحكومة الجديدة في 2012، من الهيمنة على مقدرات الدولة، حتى ارتفعت أصوات دول الجوار وبعض دول العالم وهي تشكو وتحذر من خطر استفحال وجود المتطرفين في ليبيا. ولم يكن اسم حفتر قد ظهر على الساحة السياسية بعد.
وطوال نحو عامين فشلت كل محاولات ترويض الميليشيات، وكان من بين هذه المحاولات اقتراح بضم ألوف المسلحين في جهاز مستحدث تحت اسم «الحرس الوطني»، لكن جرى إفشال هذه المحاولة أيضا. وحين استشعر المتطرفون تململ الشارع الليبي، جرى التلويح باستخدام السلاح ضد المحتجين، بالتزامن مع إشاعة وجهة نظر تقول إن الميليشيات «هم الثوار الذين أسقطوا النظام السابق، وأنهم لا يريدون الانخراط في جيش يتولى القيادة في معسكراته ضباط كانوا يعملون في القوات المسلحة في عهد القذافي»، ويقولون أيضا إنه «توجد محاولات من أنصار النظام السابق للعودة للحكم والانقلاب على الثورة».
ومن جانبه، يقول حسين عبد الله، وهو ضابط كبير في الجيش الوطني الليبي، إن الإسلاميين استغلوا مواقعهم الرسمية في الدولة، خلال العامين الماضيين، وفتحوا الباب واسعا لعمليات تهريب شحنات ضخمة من الأسلحة إلى داخل البلاد، ووفروا ملاذا آمنا لألوف الجهاديين من مختلف دول العالم، خاصة الفارين من مالي والجزائر ومصر وتونس وسوريا والعراق والشيشان وغيرها.
ويضيف: «بكل بساطة، تستطيع أن تقول إن القلق تمكن من قطاعات كبيرة من الليبيين، منذ نحو سنة، أي مع اقتراب انتهاء المدة القانونية لعمل (المؤتمر الوطني)»، مشيرا إلى أن هذا «المؤتمر» حاول باستماتة ترحيل موعد إجراء الانتخابات البرلمانية الجديدة، ولوح عدد من قادته بالعنف من أجل أن يستمر في إدارة شؤون الدولة، بوصفه أعلى سلطة في البلاد. وعلى هذا، انتشرت أعمال التوقيف والاعتقال والخطف والقتل أكثر من السابق.
ويقول الباحث أحميدة علي: «في تلك الأثناء، أي في الشهور الأخيرة من العام الماضي والأسابيع الأولى من هذا العام، بدأ عدد من قادة الجيش السابقين وبعض الوجهاء والقادة السياسيين المخضرمين، يعقدون لقاءات في العاصمة طرابلس، بشكل علني، بحثا عن حلول لإنقاذ الدولة الليبية». وكان حفتر من بين من يحضرون في تلك اللقاءات، وخرج عقب واحد من هذه الاجتماعات، ودعا إلى ضرورة تكاتف الليبيين من أجل إعادة «ثورة فبراير» إلى مسارها الذي قامت من أجله، أي بناء دولة ديمقراطية تنعم بالحرية والعدالة والمساواة.
ويضيف علي: «هنا، سارع المتشددون، في (المؤتمر الوطني) وحكومته، باتهام حفتر، في لهجة ذات طابع إخواني، بأنه كان يحاول القيام بالانقلاب العسكري على الثورة. وصدر أمر من السلطات بتوقيف حفتر وكل من كان يحضر معه اجتماعات طرابلس، على أساس أنهم خونة.
وهنا، كما يقول علي، بدأت الأمور تزداد وضوحا في البلاد، خاصة مع تزايد رغبة الليبيين في التخلص من المتطرفين الذين يهيمنون على «المؤتمر» والحكومة، وبينما أطلق حفتر النفير لتجميع ما تبقى من قوات الجيش الوطني، لشن ما سماه «عملية الكرامة» ضد الإرهاب، كان الضغط الشعبي أجبر «المؤتمر» على إجراء انتخابات للبرلمان، وقام فيها الناخبون بإسقاط الإسلاميين بطريقة مهينة.
وعلى هذا الأساس، بدأت الحرب السافرة والمدمرة بين الطرفين منذ أكثر من 5 أشهر حتى اليوم. الجبهة الأولى التي يقودها «الإخوان» و«الجماعة الليبية المقاتلة»، تضم ميليشيات كل من قوات «فجر ليبيا» و«غرفة ثوار بنغازي» و«درع الوسطى». والجبهة الثانية تشمل قوات الجيش الوطني الذي يقوده حاليا بشكل رسمي اللواء عبد الرزاق الناضوري، ويسهم فيه بشكل غير رسمي اللواء حفتر (على أساس أنه لواء متقاعد)، وتعمل بالتنسيق معه أيضا ميليشيات الزنتان التي كانت تتولى تأمين وحراسة مطار طرابلس الدولي.
وطيلة الشهرين الأخيرين، أخذ كل فريق يضع المتاريس الحربية والسياسية في محاولة لكسب الشارع الليبي والدولي أيضا. وتمكنت الجبهة الأولى من طرد الزنتان من مطار طرابلس في اقتتال أدى إلى تدميره، وعدت هذا مكسبا فأعادت «المؤتمر الوطني»، الذي كانت ولايته انتهت، للانعقاد في طرابلس، وشكلت حكومة بقيادة عمر الحاسي. بينما تمكنت الجبهة الثانية من تحقيق نتائج؛ أهمها النجاح في عقد جلسات البرلمان الجديد للبلاد في مدينة طبرق الهادئة في الشرق، واعترف بالجيش الوطني، وعين رئيس أركان له، وتمكنت هذه الجبهة من الحصول على تأييد دولي على أساس أنها تمثل الشرعية في ليبيا.
ويبدو أن الحظ بات قليلا بالنسبة للجبهة الأولى، التي تقودها جماعة الإخوان و«الجماعة المقاتلة»، لأن الخلافات بدأت تظهر على الكتل الرئيسة المكونة لها، رغم الحروب المستمرة التي تشنها حتى الآن في جنوب غربي طرابلس. وقامت جماعة أنصار الشريعة التي كانت تؤيد عملية «فجر ليبيا» و«كتائب الدروع» باتهامهما بالكفر في حال مطالبتهما بالديمقراطية والحوار، وأعلن بعض قادة «أنصار الشريعة» تأييد جماعة «داعش» في درنة. كما بدأ بعض قادة مصراتة يعترضون على الاستمرار في ركوب حصان جماعة الإخوان إلى النهاية، وشارك عدد منهم بالفعل في حوار مع نواب بالبرلمان الجديد، وهو ما أدى إلى خلافات أخرى داخل الجبهة المتشددة.
ويقول العقيد إدريس العيقوري، من الجيش الوطني الليبي في طبرق، إنه، وفي المقابل تمكنت الجبهة الثانية التي يحلو لوسائل الإعلام الإخوانية تسميتها «جماعة الانقلابي حفتر» في حشد تعاون دول الجوار وبعض دول العالم، لبناء المؤسسات الليبية والقضاء على الفوضى والتطرف والإرهاب، مشترطة على من يريد أن يشارك في المستقبل أن يضح السلاح جانبا، ويدخل في الحوار سواء برعاية محلية أو إقليمية أو دولية.
ويضيف أن البرلمان الوليد يحاول أن يعزز قدراته بمساعدة دول الجوار، ويحاول التوصل لحلول مع شركاء الوطن في الداخل، من خلال وضع الاعتبارات القبائلية والجهوية في الحسبان أيضا، مشيرا إلى أن «قوات الجيش الوطني، تقوم أيضا بمواصلة الغارات الحربية على مواقع المتشددين في كل من درنة وبنغازي، بالإضافة إلى وصول بعض وحدات الجيش إلى مشارف طرابلس، لاستعادة العاصمة بالحوار أو بالقتال، ولو بعد حين».