عودة روائية إلى العلاقة الشائكة بين الشرق والغرب

«ترنيمة امرأة.. شفق البحر» لسعد محمد رحيم

غلاف الرواية
غلاف الرواية
TT

عودة روائية إلى العلاقة الشائكة بين الشرق والغرب

غلاف الرواية
غلاف الرواية

لا شك في أن الكثير من النصوص الأدبية الرصينة مُراوِغة بعض الشيء، مُستغلقة، وعصيّة على الفهم في بعض الأحيان ما لم يبذل القارئ جُهداً مُضاعفاً يُتيح له الولوج إلى متاهة النص الإبداعي بهدف استكشافه، وفكِّ طلاسمه ورموزه، والتأمل في معانيه العميقة التي تمنح المتلقي شيئاً من المتعة والفائدة، وبعض الإدهاش.
إن «ترنيمة امرأة.. شفق البحر» لسعد محمد رحيم هي رواية ماكرة في بنائها، ومثيرة في لغتها الشعرية، وجريئة في نبوِّها عن السائد والمألوف. قد يتساءل البعض عن سرِّ نجاح هذا النص وتألقه كعمل روائي تجاوز حدود الروي أو السرد ليلج إلى غابة الأسئلة الوجودية والفلسفية التي يطرحها راوي النص وسارده «سامر» الذي يحمل كثير من البصمات والخصائص والأفكار التي تعود لكاتب النص الروائي نفسه، فلا غرابة في أن يكون الراوي هو الكائن السيري نفسه لشخصية الكاتب سعد محمد رحيم، أو أنه يحمل الكثير من تجليات هذه الشخصية المثقفة والشاعرية التي تبحث عن كنهها بين طرفي الأبيض المتوسط وشاطئيه المُتباعدَين حيناً، والمتُقاربَين في أحيانٍ كثيرة.
قد يتماهى الواقع بالخيال كثيراً، كما في هذه الرواية، إلى الدرجة التي يصعب فيها التمييز بين الحدود الفاصلة بينهما. وهذا ما نتلمسه في تساؤل الراوي أو الروائي نفسه حينما يقول: «أليس العمل الروائي في نهاية المطاف محض تلفيق طالما هو وليد المخيّلة؟»
لابد من تتبّع البناء السردي، ونموّ الأحداث، وتطور الشخصية الرئيسة التي تتحرك في فضاءات مكانية متعددة تبدأ من العراق، وتمر بليبيا وتونس وتنتهي بإيطاليا، ثم تعبر المتوسط ثانية وتنتقل إلى ساحلها الأفريقي، حيث تجد العالم كله في داخلها لتكتب روايتها التي تتمحور حول الشرق والغرب، هذه الثيمة التي كتب عنها بعض الأدباء العرب لعل أبرزهم توفيق الحكيم في روايته «عصفور من الشرق» ويحيى حقي في «قنديل أم هاشم» والطيب صالح في روايته ذائعة الصيت «موسم الهجرة إلى الشمال».
لقد كتب سعد محمد رحيم روايته عن الشرق والغرب من دون أن يعيش في الغرب الأوروبي ويتمثل قيمه الثقافية والفكرية والأخلاقية لكنه نجح في رسم معالم شخصيات أوروبية وأميركية من بينها الإيطالية كلوديا وأبيها وأمها والأميركيين مايكل ونيكول إضافة إلى روبرت وكاترين وغيرها من الشخصيات التي تظهر وتختفي على مدار النص.
لا غرابة في أن يتسيّد الحكي في هذه الرواية. فرحلة الكلام تبدأ مع كلوديا، والكلام مع كلوديا، كما يذهب السارد، «هو مُبتدأ الرواية ومُنتهاها»، وأكثر من ذلك فإن هذا الكائن السيري إن صحّت توقعاتنا هو «واحد من المولعين باللعب في جسد اللغة» كما شعرت محدثتهُ كلوديا التي نحتَ اسمها غيرَ مرة حينما صعدت من أعماق البحر على ساحل سوسة التونسية التي جاءها سائحاً مُستجماً من ليبيا. وفي أثناء هذا اللقاء الحميم دعته لعبور «الأبيض المتوسط» وتعهدت بتسهيل إجراءات الدخول إلى إيطاليا، فوالدها يعمل في ظل المافيا وإن لم يكن منهم، وسوّغت له هذه المغامرة بحجة العمل أو إكمال الدراسة أو كتابة روايته كما ادعى في مستهل اللقاء، «فهي رواية أناه في مواجهة العالم». وعلى الرغم من جوازه المزوّر وجنسيته العراقية غير المرحّب بها أوروبياً يخوض المغامرة بحثاً عن فردوسه المفقود ومحاولته الجدية لسبر أغواره ومعرفة الآخر. فالرواية باختصار شديد هي «نحن والآخرون»، وبمعنى أشمل هي «الشرق والغرب».
ونظراً لتعدد شخصيات هذه الرواية من جهة، وثراء ثيماتها من جهة أخرى، وغِناها من الناحية الدلالية من جهة ثالثة فإن هذه الدراسة ستنصّب على الشخصيتين الرئيستين سامر وكلوديا مع الأخذ بنظر الاعتبار أن كل الشخصيات الأخرى مهمة ولا تقل شأناً عن الشخصيتين المحوريتين اللتين بني عليهما هيكل النص الروائي. فحنان، الفتاة الجنوبية التي أحبها تقف بموازاة كلوديا وتشيّد عالمها الخاص بها الذي يحتاج وحده إلى دراسة منفردة بوصفها أنموذجا للشخصية العراقية، تماماً كما هو الحال بالنسبة لمايكل ونيكول، وروبرت وكاترين وخالد وغيرهم من الشخصيات التي أسست فضاء النص الروائي حيث تحتاج كلها إلى دراسة مستقلة تغطي الأدوار التي لعبتها في سياق الأحداث الدرامية المتصاعدة.
لا شك في أن جمال هذه الرواية يكمن في الوهم الذي صنعاه سامر وكلوديا ومضيا فيه إلى آخر المطاف. فالأوهام تساعدنا على تحمل وطأة الحياة أو تزويقها في الأقل.
لقد نجح سعد محمد رحيم في بناء الشخصيتين المحوريتين، كما نجح في بناء هيكلية الرواية نفسها. فكلوديا مسحورة بالشرق وتتطلع لعبور الصحراء على ظهور الخيل والجِمال. من هنا بدأ الاحتكاك بين الشخصية الشرقية والشخصية الغربية فهي ترى فيه الإنسان الحالم والبدوي، بينما يرى هو الآخر فيها إنسانة حالمة وغجرية متوحشة، لكن الراوي لم يحدد لنا منذ البدء منْ هو الصياد ومنْ هي الطريدة؟ لا يخرج سامر عن إطار الشخصيات الإشكالية التي تعاني من السأم والتوحد، وتشعر بالعبث واللا جدوى خصوصاً بعد خسارته الجسيمة لحبيبته الأولى حنان التي واجهت مصيرها المحتوم بسبب القنابل المطليّة باليورانيوم المنضّب التي ألقتها القوات الأميركية على جنوب العراق تحديداً.
يحيطنا سامر علما بأن أحد أسباب عبوره إلى الضفة الأخرى هو كتابة روايته المرتقبة لكنه ينبئنا بأن الكتابة عسيرةٌ ومتمنِّعة ولا تأتي عند الطلب. وما إن يحتدم الكلام بينهما حتى تصفه بالعُصابي الحامل لألف عقدة، والمازوشي الذي لا يرتاح له بال، والباطني المتكتم الذي لا يبوح بشيء، والمسكون بالكوابيس، والعاجز عن الكتابة، والمجنون، والمحيّر، والمتناقض، والغازي وما إلى ذلك من أوصاف مرضية. ولعل الوصف الأخير هو الذي يقودنا إلى ذروة الاحتكاك ما بين الطرفين ويُذكِّرنا بمصطفى سعيد الرجل الأسطورة الذي ذهب إلى إنجلترا غازياً ومتباهياً بفحولته الجنسية، بينما لا يجد سامر ضيراً في القول بأنه إنسان بسيط يبحث عن الدفء في صقيع أوروبا فوجده في عيني كلوديا. كما يضفي سامر أوصافاً جديدة على شخصيته «فهو مسجون داخل نفسه وعقله، ومنفي في بيته ومدينته وبين أقرب الناس إليه في هذا العالم». تُرى، كيف سيحاور كلوديا شخص يحمل كل هذه المواصفات والأعباء الثقيلة على منكبيه؟
تبدو كلوديا امرأة مثقفة مغامرة، تحب السفر، ولا تتردد في تحقيق مُتعها الذاتية سواء في إيطاليا أو في خارجها. ولا تختلف كثيراً في ثقافتها عن سامر فهي تحدثه عن دافنشي ومايكل أنجلو وجوتو وبوتشيللي، وعن متحف أوفيزي وفلورنسا عصر النهضة، كما أنها امرأة متحررة، فهي تختار الرجل الذي تستلطفه من دون حرج عائلي أو اجتماعي. وقد تكون المساحة المشتركة بين الطرفين هي المشكلات الأسرية التي تحملتها على مضض أم سامر، بينما لم تتحملها أم كلوديا فقررت الانفصال عن زوجها وحوّلت حياتها وحياة العائلة الصغيرة إلى جحيم لا يُطاق.
تكشف الاستعادات الذهنية حياة أسرة سامر برمتها حيث نتعرف على الأم الصبورة والأب المتهور والبنت المضحية التي كانت تنصح أخيها بالسفر إلى ليبيا والزواج من فتاة أخرى بعد أن فقد حبيبته الأولى حنان التي تعد بمثابة الجنة الأرضية في جحيم العراق. كما نكتشف خالد الصديق الأقرب إلى سامر، حيث سيموت هو الآخر غرقاً إثر مغامرة سفر غير ناجحة على مقربة من الساحل الأسترالي.
وبغض النظر عن حجم الفروقات التي نكتشفها بين البطلين المحوريين إلا أننا نتوصل إلى الرؤية الذكية لسامر الذي يرفض أن تصفه كلوديا بالشرقي، حيث يرد عليها قائلاً: «لو تنسي هذا التحديد المفبرك فنعود لطبيعتنا بشراً على كوكب واحد». ربما هذه رغبة الكائن البشري في العالم الثالث الذي يستجدي هذه المساواة ليلغي الفروق الثقافية والحضارية والاجتماعية والأخلاقية القائمة بين الشرق والغرب.
لقد كتب سامر بعض النتف والقصاصات والمَشاهد المبعثرة التي لم يستطع لملمتها إلا في الطرف الآخر من الأبيض المتوسط بعد أن أعلن بالفم الملآن أنها «قريبة منه، وربما أقرب الآن، من أي كائن آخر». ومع ذلك فسيحملها في قلبه فهي مبتدأ الرواية ومنتهاها.
لقد مالت الكفة كثيراً لمصلحة سامر، حيث عرفناه طفلاً، ثم صبياً يافعاً، ثم طالباً يتوج دراسته بالحصول على درجة الماجستير. كما نراه جندياً يشارك في الحرب انزرعت في جسده أكثر من ست وثلاثين شظية أخرجوا أكثر من نصفها وظل محتفظاً بالبقية الباقية التي تلمست بعضها أصابع كلوديا فضاعفت من حنوّها عليه. يمكن القول باطمئنان كبير أن «ترنيمة امرأة.. شفق البحر» لسعد محمد رحيم هي رواية جديرة بالقراءة وقد سدّت بعض الفراغ الكبير في مكتبتنا العربية التي تفتقر كثيراً إلى رصد العلاقة الشائكة بين الشرق والغرب.



الشاعر السوري أدونيس يدعو إلى «تغيير المجتمع» وعدم الاكتفاء بتغيير النظام

أدونيس لدى تسلمه جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس (إ.ب.أ)
أدونيس لدى تسلمه جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس (إ.ب.أ)
TT

الشاعر السوري أدونيس يدعو إلى «تغيير المجتمع» وعدم الاكتفاء بتغيير النظام

أدونيس لدى تسلمه جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس (إ.ب.أ)
أدونيس لدى تسلمه جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس (إ.ب.أ)

دعا الشاعر السوري أدونيس من منفاه في فرنسا الأربعاء إلى "تغيير المجتمع" في بلده وعدم الاكتفاء بتغيير النظام السياسي فيه بعد سقوط الرئيس بشار الأسد.

وقال أدونيس (94 عاما) خلال مؤتمر صحافي في باريس قبيل تسلّمه جائزة أدبية "أودّ أولا أن أبدي تحفّظات: لقد غادرتُ سوريا منذ العام 1956. لذلك أنا لا أعرف سوريا إذا ما تحدّثنا بعمق". وأضاف "لقد كنت ضدّ، كنت دوما ضدّ هذا النظام" الذي سقط فجر الأحد عندما دخلت الفصائل المسلّحة المعارضة إلى دمشق بعد فرار الأسد إلى موسكو وانتهاء سنوات حكمه التي استمرت 24 عاما تخلّلتها منذ 2011 حرب أهلية طاحنة.

لكنّ أدونيس الذي يقيم قرب باريس تساءل خلال المؤتمر الصحافي عن حقيقة التغيير الذي سيحدث في سوريا الآن. وقال "أولئك الذين حلّوا محلّه (الأسد)، ماذا سيفعلون؟ المسألة ليست تغيير النظام، بل تغيير المجتمع". وأوضح أنّ التغيير المطلوب هو "تحرير المرأة. تأسيس المجتمع على الحقوق والحريات، وعلى الانفتاح، وعلى الاستقلال الداخلي".

واعتبر أدونيس أنّ "العرب - ليس العرب فحسب، لكنّني هنا أتحدّث عن العرب - لا يغيّرون المجتمع. إنّهم يغيّرون النظام والسلطة. إذا لم نغيّر المجتمع، فلن نحقّق شيئا. استبدال نظام بآخر هو مجرد أمر سطحي". وأدلى الشاعر السوري بتصريحه هذا على هامش تسلّمه جائزة عن مجمل أعماله المكتوبة باللغتين العربية والفرنسية.

ونال أدونيس جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس وتحمل اسم شاعر كتب باللغتين الكتالونية والإسبانية.