تركيا.. الخوف من «المستنقع السوري»

أنقرة تخشى ارتدادات عربية لدخول جيشها إلى سوريا.. واتفاق أضنة السر الكبير

تركيا.. الخوف من «المستنقع السوري»
TT

تركيا.. الخوف من «المستنقع السوري»

تركيا.. الخوف من «المستنقع السوري»

ليس الحشد العسكري التركي، عند الحدود السورية، هو الأول من نوعه في تاريخ العلاقات بين البلدين الجارين في التاريخ والجغرافيا، القريبين في التركيبة الاجتماعية والدينية، والمتباعدين في السياسة. ولأن العلاقات الحميمة بين البلدين، التي نسجها رجب طيب إردوغان (رئيس الوزراء التركي آنذاك) مع الرئيس السوري بشار الأسد، كانت «استثناء» وليست القاعدة، فسرعان ما انتهى الود الذي لم يدم طويلا ليعود التنافس والعداء الرسميان إلى سابق عهدهما.
الحشد العسكري الأول كان في عهد رئيس الوزراء الراحل عدنان مندريس، وهو أول الأتراك الإسلاميين في «جمهورية أتاتورك». ففي عام 1958، أرسلت تركيا جنودها إلى الحدود مع سوريا، مهددة باجتياح أراضيها بسبب ما قالت إنه الدعم الكبير من النظام السوري لمقاتلي تنظيم حزب العمال الكردستاني. لكن الغزو لم يحدث، إذ تدخل أكثر من طرف لمنع المواجهة.
أما الحشد العسكري الثاني فكان بعد ذلك بأربعين سنة، وللسبب نفسه تقريبا، إذ هددت أنقرة بغزو الأراضي السورية بذريعة الدعم السوري للتنظيم، وإيواء زعيمه عبد الله أوجلان. آنذاك نفى الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد أن يكون أوجلان في سوريا، لكن منذ أن غادر تركيا في عام 1980، لجأ إلى سوريا، التي سهلت له ولقياداته الإقامة في لبنان الذي كانت تسيطر عليه آنذاك سياسيا وعسكريا، فأقيمت له مراكز تدريب في سهل البقاع اللبناني، أقفلت في وقت لاحق ليختفي أوجلان بعد أن رفعت أنقرة من ضغوطها على دمشق. وقد وصلت هذه الضغوط إلى ذروتها في عام 1989. ويقول وسيط اطلع على مسار هذه الأزمة إن الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك كان قد انتقل إلى دمشق حاملا التحذير التركي. وقيل إنه التقى الرئيس السابق حافظ الأسد باسم القيادة التركية ليطالبه بتسليم أوجلان، فكان رد الأسد أن أوجلان ليس في سوريا، ليعود الجانب التركي فيزود مبارك بصورة لأوجلان خارجا من منزله القريب من السفارة الإماراتية في دمشق، ثم تظهر الحشود التركية على الحدود مع سوريا، ويقال إن القوات التركية قد دخلت بالفعل جزءا من الأراضي السورية انطلاقا من نقطة غازي عنتاب الحدودية.
عندها اتخذ الأسد الأب قرارا بالتضحية بأوجلان لصالح تحسين العلاقة مع تركيا التي رأى فيها سندا مهما لخليفته بشار الذي كان يتهيأ للحكم. غادر أوجلان إلى روسيا، لكنه سرعان ما أعيد إلى أوروبا، فحلّ في إيطاليا ضيفا على الحكومة التي يتمتع فيها الشيوعيون بنفوذ قوي، ثم إلى اليونان التي كانت تحظى بعلاقات مميزة مع روسيا، قبل أن يغادر إلى أفريقيا نتيجة الضغط التركي والمطالبة بتسليمه. وأخيرا استطاعت الاستخبارات التركية القبض عليه في مطار نيروبي في عملية لا يزال يكتنفها الغموض، ويقال إن الاستخبارات الإسرائيلية لعبت دورا كبيرا فيها.
وانتهت الاجتماعات التي عقدت في وقت لاحق، وبوساطة مصرية وإيرانية، إلى اتفاق أضنة الشهير الذي نظم العلاقة بين الطرفين. وينص هذا الاتفاق في الجزء السري منه على حق تركيا في ملاحقة «الإرهابيين» داخل الأراضي السورية وحتى مسافة 5 كيلومترات، ويقال إن هذا الاتفاق نص أيضا على وقف المطالبة السورية بإقليم هاتاي الحدودي التركي الذي تسكنه غالبية ناطقة بالعربية، وكانت سوريا تعده حتى ذلك الحين «أرضا محتلة».
وقد توج هذا التحرك بزيارة مبارك إلى أنقرة في أكتوبر (تشرين الأول) 1998 على رأس وفد أمني وسياسي كبير للاجتماع مع الرئيس التركي سليمان ديميريل، ورئيس وزرائه بولاند إيجويد، حاملا معه موافقة النظام السوري على المطالب التركية كلها، بما في ذلك تنازل دمشق عن مطالبتها بلواء إسكندرون. وانتهت زيارة مبارك إلى أنقرة بصياغة مسودة للاتفاقية مع 4 ملاحق سرية يقال إن من بينها حق التوغل، والتنازل عن المطالبة باللواء «السليب» كما كان يوصف في الإعلام السوري.
ويقول متابعون، إن الأسد الأب، كان يريد إنهاء ملف الخلاف مع تركيا بأي ثمن من أجل تعبيد الطريق أمام نجله في الحكم، خصوصا أن حاله الصحية كانت في تدهور مستمر، وهو يريد أن يورثه استقرارا لا نزاعا ولهذا وافق على كل الطلبات التركية، التي ازدادت في مرحلة التوقيع لتعطي الأتراك المزيد من المكاسب
بعدها دخل الطرفان في شهر عسل طويل، كان خلاله الرئيس التركي الحالي رجب طيب إردوغان يصر على مناداة الأسد بـ«شقيقي»، إلى أن أتت الأزمة السورية، فحاول الأتراك التدخل لدى الأسد، ليذهبوا بعد فشلهم إلى الخصومة معه، ثم إلى العداء بعد تفاقم الأزمة.
ومع بداية الأزمة السورية، طرحت تركيا موضوع «المنطقة الآمنة» في الشمال السوري لحماية المعارضين السوريين من غارات طيران النظام، وهو سلاح التفوق الرئيس، وفيما كان المعارضون السوريون يأملون بالتدخل العسكري التركي، وقف الأتراك مترددين، حيال ما قالت مصادر تركية آنذاك إنه الخشية من تداعيات دخول الجيش التركي أراضي عربية. كما أن ضغوطا هائلة مورست من قبل روسيا وإيران على تركيا، تلا ذلك تحريك ملف تنظيم «الكردستاني» الذي اتهمت أنقرة سوريا باستدعاء قادته من الخارج وتأمين موطئ قدم لهم في سوريا.
وما زاد المخاوف التركية من نوايا دمشق، هو إقدام الجيش السوري على الانسحاب السلس من المناطق ذات الغالبية الكردية، في رسالة واضحة لأنقرة تفيد بإمكانية قيام كيان كردي مستقل على حدودها، قد يثير شهية أكرادها بعد استقلال جزئي لأكراد العراق.
ويشير ينار دونماز مدير مكتب جريدة عقد في أنقرة إلى أن «تركيا تطالب بإنهاء جميع المنظمات الإرهابية وليس داعش فقط، وكان هذا جليا في خطاب رئيس الجمهورية إردوغان عندما تساءل لماذا فقط التحالف ضد داعش مع أنه يوجد حركات إرهابية أخرى في سوريا والعراق، ولهذا السبب تريد تركيا أن تكون ضمن مكونات التحالف للقضاء على الإرهاب وإعادة الاستقرار للمنطقة».
وأكد دونماز لـ«الشرق الأوسط» أن «تركيا ليست بدولة جانبية في المنطقة بل هي دولة عريقة تاريخيه لها مكانتها في العالم العربي والإسلامي». وقال: «كما أعلن رئيس الوزراء داود أوغلو أنه من حق تركيا أن تنظر إلى مصالحها الوطنية، وبناء على هذا تتخذ تركيا مواقفها وتخط خريطة طريقها، ولا يمكن لتركيا أن تقبل أي ضغوطات خاصة من أميركا لأننا نعد سياستنا حسب المبادئ والمصالح التركية، فمثلا تركيا اتخذت مواقف مغايرة للغرب وأميركا حول الانقلاب في مصر وحول ما يجري في العراق وسوريا لأن المتضرر بعد تلك الدول مباشرة ليس الغرب وإنما تركيا». وأضاف: «حسب معلوماتي فإن خريطة الطريق التي ستتبعها الحكومة حتى الآن غير جاهزة وحتى مسودتها لم تعد بعد، لأنها ستتشكل بعد اجتماع رئيس الأركان مع أعضاء الحكومة، كما أن مستشار المخابرات سيذهب إلى القصر الجمهوري ليقدم تقريرا عن الوضع لرئيس الجمهورية ومن ثم سيلتقي مع داود أوغلو وأيضا سيناقش داود أوغلو مع إردوغان آخر التطورات ومن ثم سيناقش البرلمان تمديد فترة مذكرة إرسال الجيش لخارج الحدود باختصار ستشهد هذا الأسبوع أنقرة الكثير من الاجتماعات الحساسة التي سيترتب عليها موقف وقرارات الحكومة». ولكن دونماز أعرب عن اعتقاده أن تركيا لن تشارك بقواتها البرية لدخول الأراضي العربية، لأنه لن يقتصر على ردود فعل مؤقتة بل سيكون لها ردود فعل يمكن أن تستمر لعدة قرون، عادا أن «التدخل البري للجيش التركي لن ولم يخدم المصالح الوطنية التركية قط، كما أن قادة الجيش التركي لا يرغبون في دخول وحل مناطق الصراع في المنطقة، ولكن تركيا ستقوم بمساندة القوات البرية الأجنبية التي يمكن أن تخوض الحرب البرية بالدعم اللوجستي فقط، وستقوم تركيا بالسماح باستخدام القواعد البحرية للطيران الأجنبي وأنا أؤكد أن تركيا لن تتدخل بأي شكل من الأشكال في الوضع الداخلي لكل من سوريا والعراق، ولكن تركيا ستقوم بالرد على أي تجاوز لحدودها فقط».
ويقول مصطفى أونال، الكاتب في صحيفة زمان المعارضة، أن هناك احتمالية كبيرة تشير إلى أن الجيش التركي ربما يقوم بعملية عسكرية على الجانب الآخر من الحدود إذا ما جرت الموافقة على إحدى المذكرتين المعروضتين على البرلمان، وأن المنطقة «العازلة» أو «الآمنة» ستكون داخل الأراضي السورية وليست على الأراضي التركية، وهذه هي أطروحة تركيا، غير أن هذه الأطروحة لم تحصل على دعم المجتمع الدولي حتى الآن، وكانت الولايات المتحدة أعلنت أن إقامة منطقة عازلة داخل الأراضي السورية لا تندرج ضمن أولوياتها، ومن الصعب جدًا أن تنجح تركيا في القيام بهذه المهمة دون قرار من الأمم المتحدة ودعم من واشنطن، وحينها سيقع على عاتق الجيش التركي «تأمين» المنطقة العازلة المحتملة، وهذا يتطلب مذكرة من البرلمان التركي، ويمكن أن نفسر تصريحات زعيم المعارضة التركية كيلتشدار أوغلو على أنها بمثابة «لا» في وجه هذه المذكرة من الآن. وليس من الصعب أن نخمن أن المذكرة الأخرى لن تقول «الحرب» صراحة، وستتضمن هذه المذكرة وجوب استعداد الجيش التركي لمواجهة أي احتمال ممكن.
ويشير أونال إلى وجود تعارض بين رئيسي الجمهورية والوزراء. ويقول: «في الوقت الذي يتصرف فيه رئيس الوزراء التركي أحمد داود أوغلو بحذر، نجد أن الرئيس إردوغان يؤيد فكرة الحرب»، موضحا أن المذكرة التي ناقشها البرلمان التركي قبيل الحرب على العراق في مارس (آذار) 2003، وكان إردوغان، الذي كان وقتها قد تولى رئاسة حزب العدالة والتنمية، متقدمًا بخطوة عن حكومته، وكان من أكثر المتحمّسين للموافقة على المذكرة. أما داود أوغلو، الذي كان مستشارًا آنذاك، فكان ضد هذه المذكرة، ولم يكن من السهل أن يوافق حزب العدالة والتنمية على مذكرة تتضمن في الوقت نفسه الخيار العسكري، ولا شك في أن نواب الحزب في البرلمان سيفكرون كثيرًا قبل أن يوافقوا على المشاركة في حرب محتملة ضد داعش في صف الولايات المتحدة. أما وضع النواب الأكراد فمثير؛ إذ إنهم في الوقت الذي كانوا فيه قريبين من رفض مذكرة مارس 2003، فإنهم هذه المرة قريبون من الموافقة على المذكرة لقتال داعش.
ويتهم معارضو تركيا، الأخيرة بأنه دعمت تنظيم «داعش» وسواه من الحركات المتشددة، بغية إحباط أي حلم انفصالي كردي في سوريا. وهذا قد يفسر أيضا الحروب التي شنتها المعارضة السورية المدعومة من أنقرة ضد الأكراد، وعداء الآخرين لهؤلاء في المقابل.
واتهم الأكراد السوريون - والأتراك، أنقرة بأنها دفعت التنظيم المتشدد إلى اجتياح مناطقهم مؤخرا بغية القضاء على الإدارة الذاتية التي أنشأوها، وقد لوح هؤلاء بأن عملية السلام التركية - الكردية التي بدأت قبل عامين، سوف تنهار لهذا السبب.
وقال عضو المجلس التنفيذي لاتحاد الجماعات الكردية مصطفى كاراصو، فيما يتعلق بعملية السلام الحالية بين الحكومة والعمال إن زعيم المنظمة عبد الله أوجلان هو من أطلق هذه المرحلة عبر خطابه التاريخي يوم عيد النيروز في عام 2013، مطالبا الحكومة باتخاذ خطوات جدية من أجل تحقيق الديمقراطية في البلاد، غير أنها لم تتخذ أي خطوات جدية إزاء ذلك سوى أنها طالبت باستمرار الوضع الحالي وإنهاء الاشتباكات والتخلي عن السلاح وانسحاب المقاتلين من الأراضي التركية، من دون تنفيذ الإصلاحات المطلوبة.
وأكد كاراصو أن الحكومة لم تتخذ أي إجراء حقيقي لإنهاء الصراع، ولم تظهر أي تقارب فيما يخص المفاوضات، داعيًا إياها إلى إبداء مرونة في المفاوضات واتخاذ خطوات جدية لإنهاء الصراع، وإلا فإن موقفها الحالي سيزيد من حالة التوتر.
وكان النائب المستقل بالبرلمان التركي إدريس بال، الذي يُعدّ أحد الخبراء في الشؤون الأمنية والمنظمات الإرهابية، حذر الحكومة التركية والمجتمع الدولي من المبادرات الرامية إلى فتح الطريق أمام منظمة حزب العمال الكردستاني الإرهابية وإضفاء الشرعية عليها في الوقت الذي استنفر فيه العالم لمكافحة منظمة إرهابية أخرى، هي تنظيم «داعش».
ويقول دونماز إن تركيا عانت لعدة عقود من الإرهاب وما ترتب عليه، وتعد من أكثر دول العالم التي تضررت من الإرهاب، ولكن اليوم المنطقة تعيش حالة من الفوضى لم تشهدها منذ 10 أعوام والسبب في ذلك تنظيم داعش ومقاتلوه.
وأضاف: «الهجوم الذي شنه داعش على مناطق شمال سوريا ترتب عليه هجرة عشرات الآلاف من سوريا إلى تركيا وهذا يؤثر تأثيرا مباشرا على الدولة التركية ويجعلها تغير موقفها من داعش». أما السبب الثاني فهو - يضيف دونماز - أن «لتركيا علاقات تجارية واقتصادية هائلة جدا مع سوريا والعراق، ولكن بسبب سيطرة داعش على مناطق شاسعة من البلدين توقفت هذه التجارة مما أدى إلى انعكاسات سلبية على الاقتصاد التركي. واستمرار هذا الوضع الفوضوي وسيطرة داعش وإرهابه على المنطقة سيكبد الاقتصاد التركي يوميا خسائر فادحة، ولهذا تركيا مجبرة على أن تكون ضمن هذا التحالف ضد داعش، كما أن تركيا تمتلك أطول حدود مع سوريا والعراق بقرابة 1400 كلم ومن غير الممكن أن تسمح بأن يكون داعش هو المسيطر على تلك الحدود».



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.