السوريون.. الحياة تحت رحمة القنابل

دمشق تنام مبكرا.. وسكانها يحلمون بالكهرباء والماء

السوريون.. الحياة تحت رحمة القنابل
TT

السوريون.. الحياة تحت رحمة القنابل

السوريون.. الحياة تحت رحمة القنابل

«ابني على الخط.. أبلغني بأن مياه الخزان خلصت.. المشكلة أن المياه مقطوعة منذ ثلاثة أيام». بهذا الحوار انتهت سهرة نيرمين مع صديقاتها، والتي كن خططن لها قبل أسبوع، للذهاب إلى أحد المقاهي في حي أبو رمانة لتناول القهوة والنرجيلة. لم يخرجن للاستمتاع بمساء دمشق الرطب منذ فترة طويلة.. لكن مشكلة المياه وغيرها من المشاكل اليومية كانقطاع الكهرباء، وصعوبة التنقل، والانفجارات المتتالية، جاءت لتنغص عليهن اللقاء، فعدن باكرا كل واحدة إلى منزلها للانخراط في حلها بعد أن فشلن في الهروب منها ولو لبعض الوقت.
هي المشكلات التي باتت جزءا لا يتجزأ من حياة السوريين عموما. يقول «نزار ت»: «لقد اعتدنا عليها حتى بتنا لا نعرف العيش خارجها». فهو يضطر للنوم مبكرا للاستيقاظ ليلحق بموعد وصول المياه، ويشغل محرك استجرار المياه لملء الخزان، فإذا حصل وتأخر في السهر قد تحرم عائلته في اليوم التالي من المياه. ويلفت إلى أنه في حياته كلها لم يكن يوما ملتزما بمواعيد نومه واستيقاظه كما هو الآن في ظل انقطاع المياه والكهرباء.
أما عن المناسبات العامة والخاصة مثل طقوس رمضان والعيد، والزواج والأفراح عموما، فيهز رأسه ساخرا بأسف ويقول «نسيناها منذ ثلاث سنوات».. ويتابع أن جاره أخبره بصدور فواتير الهاتف قائلا «انتبه وأنت تقرأها، فقد تفسد عليك يومك»، ثم يؤكد «كل أسباب إفساد الحياة تكالبت علينا». وعن كيفية قضاء الحاجيات من الأسواق يقول «العام الحالي هو الأفقر في كل شيء منذ ثلاث سنوات، فبالكاد أفطر مع عائلتي المتوافر لدينا من طعام وشراب، ثم يستلقي كل واحد منا على أريكة مستسلما للصمت وكأننا نمارس رياضة اليوغا، فإذا حصل وجرى حديث فيكون شجارا حول توزيع المهام في البيت مثل مراقبة خزان المياه، وتأمين بنزين للمولد، وشراء شموع وتبديل أنبوبة الغاز، ودفع فواتير الكهرباء والنت.. إلخ. عدا ذلك فإننا نصارع الضجر والانتظار في حال انقطاع الكهرباء، وفي حال توافرها ننصرف إما إلى التلفزيون أو الإنترنت».
«رياض ن»، شاب مقبل على الزواج لكنه متردد خشية أن يزيد إلى حياته أعباء جديدة. يقول «نسينا السهر خارج المنزل.. وتناول الطعام في المطاعم منذ سنوات، بسبب غياب الأمن. في المناسبات مثلا خاصة رمضان عام 2011.. أسقطنا الحلويات واللحوم والنقل والموالح والمسليات، وكل ما له علاقة بالرفاهية، كما ألغينا من قاموسنا احتفالات الأعراس، واختزلت تجمعات العزاء في ساعتين وقت الظهيرة، وبات توفير ما يصرف على الرفاهية يذهب إلى إعانة النازحين والمشردين من أهلنا ومعارفنا.. وتقاسم الرغيف أحد أبرز همومنا. وفي رمضان عام 2012 ألغينا الأطباق المنوعة بسبب الغلاء الفاحش، ودعوات الأهل الأصدقاء، ولم يعد لدينا ما يجعلنا نفكر في تقاسم الرغيف والمنزل مع أهلنا المشردين، فقد أصبحنا جميعنا محتاجين، نحلم بالسفر واللجوء والنزوح. العام الحالي أضفنا إلى قائمة الممنوعات قائمة إجبارية.. يتحكم فيها انقطاع المياه والكهرباء». وفي رمضان 2015 قد تتحقق النكتة الرائجة في سوريا اليوم عن «التمني بأن يكون شهر رمضان مثل المونديال مرة كل أربع سنوات ولا تشترك فيه سوريا».
يعيش سكان دمشق أزمة مياه خانقة اشتدت منذ أشهر مع حلول شهر رمضان. تقول «ناديا م» إن «أزمة المياه أنستنا أزمة الكهرباء التي اعتدنا عليها منذ ثلاث سنوات، وتمكنا إلى حد ما من إيجاد بدائل» سواء بمولدات كهربائية أو بطاريات ساكنة تسد بعض الاحتياج وليس كله كتشغيل الإنارة والتلفزيون.. أما «البراد فقد أصبح نملية (خزانة طعام بدائية)». وتعتبر ناديا انقطاع المياه «كارثة» لعدم القدرة على توفير بدائل سهلة وبالأخص في المباني العالية، حيث لا تصل المياه إلى الطبقات الرابعة والخامسة إلا بشق الأنفس، مشيرة إلى أن هذا العام يمر قاسيا جدا بسبب انقطاع الماء والكهرباء، مما اضطرها إلى جلب طعام جاهز من الأسواق على غير عادتها، كما ألزمت أولادها بعدم استخدام صحون وأدوات طعام كي لا يتراكم الجلي. وتقول «تناولنا الطعام في المنزل على ضوء الشموع من دون ملاعق وشوك وسكاكين وصحون وكأننا في رحلة إلى صحراء قاحلة».
لكن هذا الحل المؤقت الذي لجأت إليه عائلة «ناديا م» لا يمكن أن يكون حلا دائما لارتفاع كلفته، فليس من السهل الاعتماد على الطعام الجاهز يوميا لكلفته الباهظة قياسا بمستوى الدخل المتدني، لغالبية السوريين الذين بالكاد يؤمنون قوت يومهم وبالأخص العائلات الكبيرة. ويشير أبو عمار إلى حل آخر لكنه أكثر كلفة وهو الخروج إلى المطاعم، فهو مكتف ماديا إلى حد ما، ولكن لم يعد بإمكانه ارتياد المطاعم مع عائلته كالسنوات السابقة، فكل شخص يكلف وسطيا ألفي ليرة في مطعم عادي، أي أن عائلته المؤلفة من ستة أفراد ستحتاج إلى 12 ألف ليرة كأقل تقدير. وقال إن بإمكانه ارتياد المطعم مرة أو مرتين خلال الشهر، لكن بالتأكيد ليس أكثر، لذلك قرر مع عائلته الذهاب مرتين خلال الأسبوع إلى متنزه شعبي في منطقة الربوة غرب دمشق لشرب الشاي والقهوة والتمتع بالهواء البارد عندما تكون الكهرباء مقطوعة، كحل لتجاوز الأمسيات الصعبة في المنازل.
وتواجه الحكومة السورية واحدة من أعقد المشكلات الخدمية التي تتعرض لها منذ ثلاث سنوات، ومع أن أزمة المياه ليست مستجدة ولا وليدة الظروف الأمنية الراهنة، فإن الأحداث الدامية فاقمتها إثر استهداف خطوط تغذية الكهرباء على عمليات ضخ المياه، والتي تزامنت مع حالة جفاف لم تمر مثلها منذ عام 1932، بالإضافة للمشكلة الأهم والأكبر وهي غياب التخطيط والفساد في إدارات الدولة عبر العقود الماضية التي أنهكت البنية التحتية وراكمت مشكلاتها في قطاع الخدمات كالمياه والكهرباء والاتصالات والصحة وغيرها، لتتفجر الأزمات واحدة تلو الأخرى في السنوات الثلاث الأخيرة تحت وطأة القصف والاشتباكات العنيفة.
وبينما تختلط أسباب انقطاع الكهرباء والماء بين تقنين تتبعه الحكومة بسبب الشح وأعمال هجومية تستهدف محطات الكهرباء والماء، أعلنت الحكومة السبت الماضي أن «محطات توليد المنطقة الجنوبية توقفت عن العمل بسبب قطع إمدادات الوقود عنها نتيجة قطع خط الغاز المغذي لها في منطقة شرق جيرود في ريف دمشق من قبل المجموعات المسلحة». وقالت وزارة الكهرباء في بيان صحافي إن «توقف هذه المحطات أدى إلى زيادة ساعات تقنين الكهرباء في المنطقة الجنوبية، وإن وزارة النفط والثروة المعدنية تعمل على معالجة الموضوع». أما مؤسسة المياه والصرف الصحي في دمشق وريفها فلم تفلح تطميناتها وإعلانها عن مشاريع لحل أزمة المياه في تبديد القلق الذي ازداد في الأسبوع الأخير، وبحسب تصريحات إعلامية لمدير عام مؤسسة المياه والصرف الصحي المهندس حسام حريدين فإن الحكومة بدأت مشروع المنطقة الغربية، وهو رديف لريف دمشق للمساعدة في حل مشكلة ريف دمشق في المنطقة الغربية على مرحلتين تؤمن المرحلة الأولى منه 800 لتر في الثانية، والمرحلة الثانية تؤمن 1430 لتر في الثانية.. و«إنه يتم العمل حاليا على إحداث توازنات بين الريف والمدينة ضمن إطار وجود عدالة في تأمين كميات المياه للجميع في مختلف المناطق»، وإن «وضع الريف متابع بشكل جيد».
وتعاني المناطق الخاضعة لسيطرة النظام في ريف دمشق من تنامي ضغط الاستهلاك بسبب نزوح السكان من المناطق المجاورة الساخنة، مما يجعل تأمين كل الخدمات صعبا جراء الاختلال الذي أصاب التوزع الديموغرافي. وحاول حريدين طمأنة مواطنيه إلى أن «وضع مياه الشرب مستقر خلال المرحلة المستقبلية».‏ لكنه لم يوضح كيف سيتم تجاوز الأزمة المتفاقمة حاليا، بل انصرف للحديث عن إنجاز دراسات متعلقة بمصادر المياه الدائمة في المنطقة العربية، و«عزم» الحكومة تنفيذ مشاريع آبار تكفي الزيادة السكانية لنهاية 2040، وأن «الآبار المقرر تنفيذها توفر مياه الشرب بغزارة 1400 لتر/ الثانية، وهي كافية لتأمين مياه الشرب لنحو 14 تجمعا سكانيا في ريف دمشق»، وإنه تم البدء في استثمار بئرين في منطقة الريمة في جبال الحرمون توفران 500 متر مكعب ويستفيد من المصدرين الجديدين المشتركون في كل من جديدة عرطوز وصحنايا.
كلام مدير مؤسسة المياه إن دل على شيء فهو يدل على أنه لا انفراج قريبا في أزمة المياه، إن لم تكن متجهة لمزيد من التفاقم، فثمة مناطق في ريف دمشق وأحياء أطراف العاصمة تغيب المياه عنها لعدة أيام، بل إن أحياء وسط العاصمة راحت تعاني من المشكلة ذاتها. ويشير «نزار ت» إلى أنه تمكن إلى حد ما من التغلب على مشكلة الكهرباء بأن تبادل مع جيرانه خطوط الكهرباء و«النت»، بحيث يعطيهم من منزله في حال كانت متوافرة عنده ومقطوعة عندهم، والعكس بالعكس، بحيث أصبحت مهمته طوال اليوم تبديل قواطع توصيل الكهرباء، لكن ليس بإمكانه فعل ذلك بالنسبة للمياه. ويقول «بالإمكان شراء مياه للشرب لكن ماذا بخصوص الحمام والمطبخ؟ إنها كارثة».
يشار إلى أن مناطق واسعة من ريف دمشق ذات الكثافة السكانية العالية ازدهرت فيها تجارة بيع المياه في السنوات العشر الأخيرة، كبلدات صحنايا وأشرفية صحنايا وجرمانة والديماس وغيرها من المناطق، لكنها لأول عام تنشط داخل العاصمة. رغم أن تقنين المياه بدأ منذ أكثر من أربعة عشر عاما في أحياء الأطراف، كالعباسيين والقابون وبرزة والحجر الأسود والقدم وكفرسوسة والمزة، فإن التقنين لم يكن يتسبب في أزمة خانقة كالأزمة الراهنة، إذ لم يك التقنين يتجاوز بضع ساعات باليوم يمكن تعويضها من خزانات المياه، التي تملأ بواسطة محركات استجرار مياه، وبالأخص سكان الطبقات العلوية التي تعتمد عليها الغالبية العظمى من السوريين لتأمين المياه، ومع تفاقم الأزمة هذا العام ازدهرت تجارة المياه، التي تباع بالمتر المكعب بسعر تجاوز الألف ليرة سورية (الدولار يعادل 170 ليرة) وهو مبلغ باهظ قياسا لسعر المياه الرسمي.
وذلك بينما تغيب أي بارقة أمل بقرب انتهاء الحرب والفوضى الجارية في سوريا. فمعظم السوريين في الداخل باتوا على قناعة بأن الحرب لن تتوقف قبل عشر سنوات على أقل تقدير، أما عودة الحياة إلى سابق عهدها فلن تكون قبل خمسين عاما.
لذا يقول «نبيل د» إنه لم يعد يشغل باله موعد انتهاء الحرب، وما يشغله الآن كيف يمكنه البقاء والتغلب على المشكلات الحياتية اليومية التي لا تنتهي. ويقول بأسف «أمس سرقت وأبنائي مياها من خزان الجيران. كنت مضطرا.. فعلت هذا خلال شهر رمضان!! لأن الضرورات تبيح المحظورات. هكذا نبرر انعدام الأخلاق.. لا بأس إنها أخلاق الحرب».
التغلب على الظروف القاسية بات الشغل الشاغل لمعظم السوريين في المناطق الآمنة الخاضعة لسيطرة النظام، والتي بدت الأسبوع الماضي في حالة استرخاء قياسا لفترات سابقة، مع قيام النظام في الأسبوع الأول من رمضان بإزالة عدد من الحواجز من شارع المجتهد وصولا إلى ساحة كفرسوسة، وهو الذي يمر بمقار أمنية كبيرة ودوائر حكومية، ومن شارع بيروت عند جسر الرئيس حتى ساحة الأمويين، وهو من أكثر المناطق حساسية لقربه من مبنى نادي الضباط ومبنى هيئة الأركان العامة الذي تعرض لتفجير في عام 2012، بالإضافة لشوارع أخرى. بالإضافة لعودة الناس إلى ارتياد المتنزهات في مناطق ريف دمشق الخاضعة لسيطرة النظام وعودة جزئية للحركة إلى شوارع العاصمة في ساعات متأخرة من الليل، مع مشهد الجنود المدججين بالسلاح على الحواجز في حالة استرخاء يتابعون برامج رمضان عبر أجهزة الموبايلات أو يجرون دردشات (واتس أب) مع ذويهم وصديقاتهم، ناهيك عن مشاهد أخرى مستجدة باتت رائجة لشبان عساكر مدججين بالسلاح يتمشون مع صديقاتهم في الحدائق أو يختلون تحت ظلال الأشجار ليلا. فيما يستلقي المشردون من منازلهم في الحدائق وعلى الأرصفة بعد يوم حار وطويل بانتظار انفراج لا يبدو أنه قريب.. مع ترداد دائم لقول «ضاقت فلما استحكمت حلقاتها فرجت.. وكنت أظنها لن تفرج».



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.