يرتكز الواقع الموسيقي التربوي في المدارس اللبنانية عموما - والذي لا يزال حتى اللحظة في طور بنائي أولي، على تطبيق شامل وأحادي للمبادئ الأساسية الموجودة في منظومة التربية الموسيقية الغربية.
وانطلاقا من إمكانية اعتبار أن الموسيقى «لغة» تكتب وتعلم، وحرصا على الهوية الثقافية المحلية، برزت حاجة ملحة اليوم تتمثل في طرح متكامل لنمط موسيقي مشرقي يعوض ذلك الجانب المفقود في العملية التربوية برمتها، لذلك أبصر كتاب «منهج التربية الموسيقية المشرقية» النور هذا العام.
ويقول الدكتور هيّاف ياسين، منسق المعهد العالي للموسيقى بالجامعة الأنطونية في مجدليا، ومدير عام «بيت الموسيقى» في النجدة الشعبية اللبنانية، في حديث لـ«الشرق الأوسط» التي التقته في المعهد «المنهج هو عبارة عن دليل للمربي الموسيقي في لبنان والمشرق، مطروحٌ لتغذية الجانب التربوي الموسيقي الناقص اليوم في المدارس اللبنانية، جنبا إلى جنب المناهج الأخرى التي تناولت الموسيقى الغربية (أو الموسيقات الغربية)، دون أي تعارض منهجي أو علمي، وذلك بهدف الوصول إلى تربية موسيقية متكاملة».
ويضيف ياسين أن «الكتاب مطروح ليغطي احتياجات الحلقة الأولى من التعليم الأساسي، أي الصفوف الأول والثاني والثالث الابتدائي. ويمكن له أن ينفّذ بطريقة تواترية وتناوبية مع منهاج آخر يتناول الجانب الغربي، دون ضرورة لطرحه متواصلا إلزاما».
ويتكامل هذا المسار مع المسارات المعتمدة حاليا في معظم المؤسسات التربوية في لبنان (كما في العالم العربي). ويمتد هذا المسار على مدار اثني عشر أسبوعا للسنة الواحدة من كل صف (ما يعادل فعليا ثلاثة أشهر).
ومن المفيد ذكره أنّ المعهد العالي للموسيقى في الجامعة الأنطونية قد ارتكز بقوة على خطوات من توصيات المؤتمر الدّولي المنعقد في سنة 2003 «أي تربية موسيقية للبنان (1)؟»، لتأليف منهجه الجديد.
ومما تضمنته تلك الخطوات «دفع المعهد أكثر بأبحاثه العلميّة - خصوصا ميدانيا – إلى تشخيص الواقع التربوي الموسيقي اللبناني، وتطبيق المنهجيات العلمية العصرية لهذه الغاية؛ وتفعيل دورات دورية ومستدامة في كيفية تفعيل واستخدام أصول التربية الموسيقية المشرقية، وتفعيل استخدام آلة السنطور كإحدى الآلات الموسيقية التربوية النموذجية التي تسمح للطلاب بتنفيذ كل الجوانب اللحنية والعزفية بطريقة صحيحة».
وحتى اليوم قام المعهد بإطلاق أرصدة موسيقية من أغان وعدّيّات أطفال مشرقية، وذلك من خلال إنتاجه لمجموعة كتب مع أقراصها المدمجة ومنها «بدنا نغني - أنا والميجانا..)، إضافة إلى تنظيمه مسابقات في صناعة أغاني الأطفال المشرقية، ومؤتمرات موسيقية، فضلا عن رعايته لأمسيات موسيقية - غنائيّة تدعم هذا التوجه.
ومن أجل الوصول إلى منهجية علمية أكاديمية لهذه النواحي المترابطة، كان لا بد من ولادة كتاب «منهج التربية الموسيقية المشرقية»، كي يكون في حوزة المربي كدليل تفصيلي له في هذه المسيرة التعليميّة.
وتوضح الدكتورة بشرى بشعلاني (مديرة قسم التربية الموسيقية في المعهد العالي للموسيقى) التي تشاركت والدكتور هياف في تأليف هذا الكتاب، أن المنهاج يتطرّق إلى طرح سير ذاتيّة لثلاثة موسيقيين لبنانيين (مطربين و/أو عازفين)، واحدٌ لكل صف، بطريقة بسيطة وطريفة تناسب المخيّلة الطفولية، إضافة إلى فقرات مصورة تشرح الألعاب والرقصات بطريقة واضحة، مع التعريف بـ9 آلات موسيقية مشرقية.
ويرتكز المنهج على تشريب الطفل اللبناني لأمهات المقامات الأساسية، خاصة في بناها اللحنية العميقة، مضافا إليها سلسلة من الدورات الإيقاعية الأساسية المستخدمة في هذا المشرق، وذلك من خلال عملية عصرية يمكن إسقاطها على أنشطة الغناء والعزف والإصغاء والرقص والدبك واللعب.
كما تتضمن الاستراتيجية التعليمية التجذير التراثي الموسيقي المشرقي المنشود عند الطفل المتلقي مساهمة في تشكيل هويته الثقافية، إلى جانب انفتاحه على «الألسن الموسيقية» الأخرى في العالم. يضاف إلى ذلك إيقاظ ملكات الطفل الموسيقية الأكثر عمقا (كالابتكار والارتجال والمخيلة)، وتنمية قدراته المعرفية. وتأخذ هذه المضامين شكل تسعة أنواع من الأنشطة.
بدوره، يؤكد نداء أبو مراد، بروفسور في علم الموسيقى، أن المنهج التربوي الموسيقي المشرقي الجديد، وبدلا من أن يسعى إلى الحلول مكان المناهج المرتكزة على «اللسان الموسيقي» الغربي فإنه يتكامل مع المناهج الموجودة، كما يتكامل تعليم الفصحى مع تعليم الألسن الفرنسية والإنجليزية في المدارس اللبنانية.
ويصف أبو مراد الكتاب بأنه أول مؤلف تربوي موسيقي يسعى إلى تعريف الطفل اللبناني على الموسيقى المشرقية بلهجاتها المتنوعة، لافتا إلى أنه يوفّق بين المبادئ العلمية التربوية والعلمية الموسيقية الحديثة وبين المسار التدربي السمعي الخاص بالتقاليد الموسيقية المشرقية.
وفي الختام، لا بد من الإشارة إلى أن مناهج التربية الموسيقية قامت في العالم الغربي خلال القرن الفائت تحديدا، على أساس النظام الطونالي الهرموني، وقد شكّلت العمود الفقري للمسارات التربوية التي تم اعتمادها في لبنان حتى اليوم! واقع شكّل سببا إضافيا للإسراع في وضع «منهج التربية الموسيقية المشرقية» على يد كل من هيّاف وبشرى اللذين لديهما أمل كبير في أن يصار إلى اعتماد هذا المنهج في العديد من المدارس اللبنانية ومدارس أخرى في العالم العربي.
لبنان يهتم بـ«لغة» الموسيقى المشرقية في مناهجه المدرسية
كتاب دراسي جديد يوفق بين الحداثة والأصالة من أجل ديناميكية تربوية
لبنان يهتم بـ«لغة» الموسيقى المشرقية في مناهجه المدرسية
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة