وقف البطل المغوار، سيف الله المسلول، خالد بن الوليد منذ ألف وثلاثمائة وثمانية وسبعين عاما ميلاديا بالتمام في وادي اليرموك يتفقد جيوش المسلمين والقلق يساوره أمام قوة الجيوش البيزنطية المرابطة أمامه، وإن كان الأمر لا يخلو من غصة داخلية بعدما قرر الخليفة الجديد عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، عزل هذا القائد الفذ الذي انكسرت قوات كسرى تحت لواء عبقريته وإيمان جنوده بالله سبحانه وبقدرات قائدهم، كما أنه الرجل الذي بعث به الخليفة أبو بكر الصديق رضي الله عنه إلى الشام.. «لأنسين الروم وساوس الشيطان بخالد»، على حد قوله، حيث استطاع أن يلحق بهم الهزيمة تلو الأخرى في معارك شهيرة بأرض الشام مثل «أجنادين» و«فحل» وفتح دمشق وغيرها.
ولكن هذا لم يكن يشغله بقدر ما كانت تشغله المسؤولية الجديدة الملقاة على عاتقه، فعلى الرغم من أن أبا عبيدة بن الجراح أو «أمين الأمة» كان الشخص الذي كُلف بقيادة جيش المسلمين وفقا لتوجيهات الخليفة، فإن المعركة كانت أكبر من القدرات العسكرية لهذا الرجل الرقيق والمقرب لقلب الرسول عليه الصلاة والسلام، فما كان منه إلا أن نظر لخالد الذي لم يتأخر عن فهم النظرة، فقال له بقوة وصلابة: «ابعث لأصحاب الرايات وقل لهم يسمعون مني»، وهكذا أصبح خالد هو القائد الفعلي لجيوش المسلمين قبل بدء هذا اليوم العصيب بساعات معدودات.
خلفية هذا اليوم تكمن في أن هرقل ملك بيزنطة كان مصرا على استعادة أجزاء كبيرة من الشام من قبضة المسلمين، فأعد لهم أربعة جيوش كبيرة ليستطيع أن ينفرد بكل جيش من جيوش المسلمين المتناثرة بالشام، كل على حدة. وعندما طلب بن الجراح المشورة، أصر سيف الله على أن يتم تجميع جيوش المسلمين ليكونوا قوة واحدة ضاربة، وقد استقر الرأي على ذلك، فبعث بن الجراح إلى قادة الجيوش الإسلامية؛ وهم: عمرو بن العاص، وشرحبيل بن حسنة، ويزيد بن أبي سفيان، للتمركز في السهل الموازي لنهر اليرموك، وسار جيش أبي عبيدة وخالد بن الوليد إلى هناك من حمص. وقد قسمت جيوش المسلمين إلى أربعة جيوش أساسية في مواجهة الجيوش الرومانية الأربعة، على نحو جديد يضم قلبين وجناحين، فعلى الميمنة كان جيش الداهية عمرو بن العاص، وفي الميسرة كانت القيادة ليزيد بن أبي سفيان ومعه كثير من بني أمية بمن فيهم والده أبو سفيان بن حرب وزوجته هند بنت عتبة، بينما تألف وسط المسلمين من جيش يقوده أبو عبيدة بن الجراح، وثان تحت قيادة شرحبيل بن حسنة، وكانت القوة الإجمالية للمسلمين تصل إلى قرابة 40 ألفا، وفقا لتقديرات كثير من المؤرخين، منهم عشرة آلاف فارس.
وقد وضع سيف الله خلف جيشي الوسط «خيل الزحف» الذي تألف من قرابة أربعة آلاف فارس يمثلون خيرة فرسان المسلمين المنتقين، الذين يقودهم البطل الهمام ضرار بن الأزور الذي كان يحارب عادة عاري الصدر، وكان يفهم قائده خالدا بالنظرات. وكان هذا «الخيل» هو ما يمكن أن نصفه اليوم في العلوم العسكرية بـ«الاحتياطي الاستراتيجي»، تلك القوة التي تحتفظ بها الجيوش بوصفها آخر بديل يدفعون به لمواجهة الخصم عند التقهقر أو قبيل الانكسار.
ولكن ماذا عسى 40 ألفا أن يفعلوا أمام جحافل الروم التي قدرتها المصادر بما بين مائة وعشرين ومائة وخمسين ألفا؟ فلقد تجمعت الجيوش الأربعة وانتشرت على مساحة ممتدة تبلغ قرابة 18 كيلومترا، وكان القائد الروماني هو ماهان ملك أرمينيا وأحد المقربين من القيصر البيزنطي، الذي سيطر على القلب البيزنطي أمام جيشي أبي عبيدة ويزيد، وكانت ميسرته تتألف من جيش الصقالبة والأرمن تحت قيادة قائد ماهر هو قورين، بينما وقعت ميمنته تحت قيادة بطل آخر هو غريغوري، وفي هذه الظروف أصبحت ميسرة الجيش الإسلامي يحذوها نهر اليرموك، وهو ما حماها من أي محاولات للالتفاف من قبل العدو، بينما كانت ميمنة المسلمين بلا عائق مادي، وهنا أدرك خالد أن الميمنة هي مفتاح المناورة الحقيقي، وتفهم بعبقريته خريطة المكان كما هي عادته، وظل قليل الكلام في كل مجالس الحرب التي سبقت المعركة، مصدرا تعليماته بدقة شديدة دون الإفصاح عن خطته في أي لحظة، ولكن الثقة في نصر الله وسيفه كانت أكبر من أن يستفسر أحد عن كيفية حدوثه.
حقيقة الأمر أن المعركة كانت بكل المعايير غير متكافئة، وقد دارت بقوة شديدة خاصة عند ميمنة المسلمين، حيث أبلى عمرو بن العاص بلاء حسنا مع رجاله وتحملوا ضغوط الصقالبة والأرمن دون أن ينكسروا، ولكنهم بدأوا يتقهقرون أمام الأعداد الرومانية الممتدة، ولكنهم عادوا ليستعيدوا الأرض التي فقدوها.. وهكذا كانت حال جيوش المسلمين الأربعة وذلك على مدار الأيام الثلاثة الأول، ولكنهم عادوا لمواقعهم بعد التقهقر، والجميع ينظرون لخالد الذي لم يعبر عن أي شيء سوى مطالبته المسلمين بالصمود.
وقد كان اليومان الثالث والرابع أصعب الأيام بالنسبة للمسلمين، فلقد نزلت عليهم الجيوش البيزنطية بكل ثقلها، خاصة يزيد الذي اشتد عليه الضغط بسبب تقدم الرماة البيزنطيين، مما أدى لفقدان كثير من المسلمين أعينهم فيما عرف بـ«يوم التعوير»، فاضطر الرجل للتقهقر، ثم لصد الهجمات القاسية، ولكن جبهته انكسرت بشكل ملحوظ، فخرجت النساء خلف الفُرَّار ينهرونهم.
بعد أن اندلعت المعارك مرة أخرى، خرج المسلمون في هذا اليوم مهاجمين وليسوا مدافعين، وكان هدف خالد بن الوليد واضحا، فلقد بدأ تحركه المستتر بـ«خيل الزحف» نحو ميسرة العدو التي باتت أضعف نقاطه.
كما توقع خالد، فإن ميسرة العدو بدأ تنكمش تدريجيا وتسعى للهروب، وتلتها الجيوش الأخرى، وقد تعمد خالد أن يكون التطويق بشكل منظم ليسمح للجنود المنسحبين بالمرور من طريق واحد فقط كان يصب في هاوية جغرافية يعرفها جيدا.
وهكذا انهزم أكبر جيش بيزنطي أمام المسلمين. وتشير تقديرات المؤرخين إلى أن الهزيمة أدت إلى موت أو إصابة أو أسر ما يقرب من مائة ألف بيزنطي تقريبا، مقابل أربعة آلاف مسلم وجرح آلاف آخرين. وكانت هذه المعركة الفاصلة هي أكبر المعارك الإسلامية على الإطلاق، وكان نصرا استراتيجيا حاسما لم تستطع الإمبراطورية البيزنطية استرداد الشام بعده مرة أخرى.
لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلاتhttps://aawsat.com/%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%85%D9%82/%D8%AD%D8%B5%D8%A7%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%B3%D8%A8%D9%88%D8%B9/5091461-%D9%84%D8%A8%D9%86%D8%A7%D9%86-%D9%8A%D9%88%D8%A7%D8%AC%D9%87-%D8%AA%D8%AD%D8%AF%D9%91%D9%8A%D8%A7%D8%AA-%D9%85%D8%B5%D9%8A%D8%B1%D9%8A%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D8%B2%D9%85%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%AD%D9%88%D9%91%D9%84%D8%A7%D8%AA
يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.
إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.
وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».
وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».
الدستور أولاً
الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.
غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».
وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».
العودة للحضن العربي
من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».
الاستحقاق الرئاسي
في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.
وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».
يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة
النهوض الاقتصادي
وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».
شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».
لبنان ودول الخليج
يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».
ضبط السلاح
على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».
مكافحة المخدِّرات
وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».
حقائق
علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة
شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.