السينما اللبنانية والكتب تشن هجوما مضادا ضد الحرب وتربح الجولة

ختام 2013 .. قصف متبادل حول «فيروز» وما تهوى

ليلة صيف رحبانية في مهرجان بيبلوس
ليلة صيف رحبانية في مهرجان بيبلوس
TT

السينما اللبنانية والكتب تشن هجوما مضادا ضد الحرب وتربح الجولة

ليلة صيف رحبانية في مهرجان بيبلوس
ليلة صيف رحبانية في مهرجان بيبلوس

ليست مبالغة القول إنه عام السينما اللبنانية، ليس فقط من حيث عدد الأفلام الذي شهد تصاعدا ملحوظا، وإنما أيضا من حيث جودة الإنتاج ونجاحه، أخيرا، في جذب الجمهور، وإقناع الصالات التجارية المحلية بأن لعرضها جدوى مالية. ليس ذلك وحسب، بل إن الفيلم اللبناني بدأ يحقق اختراقات مهمة في المهرجانات العربية والغربية، ويحصد الجوائز، ويلفت الأنظار.
فبعد أن بدت نادين لبكي وكأنها وحدها في الساحة، سجل هذا العام عروضا في الصالات اللبنانية لعدد من الأفلام، تميزت بأنها خرجت من لوثة الحرب الأهلية، أخيرا، لتعالج مشكلات اجتماعية جريئة تطرح للمرة الأولى، مما سجل ظاهرة حقيقية يبدو أنها ستستمر إلى العام المقبل.
فقد طرح فيلم «حبة لولو» قضية النساء وعوالمهن الخاصة، ومشكلة اللقطاء في المجتمع اللبناني، وذهب «غدي» إلى الاهتمام بالمعوقين على طريقته، وعالج «عصفوري» مسألة الاعتراف بالجريمة والبوح والندم، وفيلم «بي بي» سلط الضوء على أطفال يعانون من تأخر النمو العقلي وما يصاحبه من عوائق اجتماعية. ومع العام الجديد سيتسنى للمشاهد اللبناني رؤية فيلم «وينن» الذي اجتمع على إخراجه سبعة مخرجين لبنانيين دفعة واحدة، ويسلط الضوء على قصص المخطوفين أثناء الحرب، عبر معاناة النساء اللواتي ما زلن ينتظرن عودتهم. والفيلم الثاني الذي سيدخل إلى الصالات، وعرض مثل فيلم «وينن» في «مهرجان دبي السينمائي»، هو «طالع نازل» للمخرج محمود حجيج، حيث يقوم سبعة أشخاص بزيارة لطبيبهم النفسي، في محاولة للبحث عن طمأنينة ذاتية، ويلتقون في المصعد وفي العيادة، مما يكشف الكثير من الخبايا السيكولوجية.
ليست الأفلام وحدها هي ما حاولت مقاومة الحرب والدمار الذي يتهدد لبنان، بعد أن أصبح جواره جحيما، كل المواعيد السنوية صمدت، وهذا يحسب للعاملين في المجال الثقافي. «مهرجان الرقص المعاصر» استقبل كالمعتاد الفرق الأجنبية، على الرغم من تحذيرات عدة من زيارة لبنان نظرا لصعوبة الوضع الأمني. «مهرجان البستان» استقبل فنانيه وأقام حفلاته الموسيقية. مهرجانات الصيف الأساسية مضت كلها كما خطط لها، بل اللافت أنها حرصت على برامج متميزة. استمر مهرجان «بيت الدين» في نتاجه، وقدم «على خطى ماركو بولو»، العمل الموسيقي الغنائي الذي جمع 70 فنانا من شرق آسيا والمنطقة». كما اختتم المهرجان بحفل قدمته الفرنسية باتريسيا كاس، تحية للأسطورة إديت بياف. ولم يخيّب جمهور «مهرجانات جبيل» المنظمين، فقد حضر بكثافة للاستماع لموسيقى العالمي ياني، والاستمتاع بـ«ليلة صيف» التي أحياها أولاد منصور الرحباني، و«الأوبرا المجنونة» اللطيفة الظريفة التي شارك فيها فنانون لبنانيون، استحقت تجاربهم الجريئة تصفيقا طويلا من الجمهور. «جحا وأهل بيته عرس»، قال مسؤول في أحد المهرجانات، وهو يقيم العدد الكبير للبطاقات التي بيعت على الرغم من قلة السياح.
لعل المهرجان الوحيد الذي تحمل وطأة الحرب السورية الشرسة وتبعاتها، بشكل كبير، كان «مهرجان بعلبك»، لما لموقعه الجغرافي في القلعة التاريخية، من قرب شديد من الحدود السورية. فقد ألغيت له حفلات، وأجلت أخرى، ونقل إلى خان للحرير في منطقة الجديدة في بيروت. ويكتب لمنظميه إصرارهم على عدم إلغائه، على الرغم من قسوة الظروف. وجاء حفل مارسيل خليفة وكذلك عرض «بازل» الراقص لسيدي العربي الشرقاوي، بعد أن تعرض لسهام الكنيسة اعتراضا على ترنيمة تضمنها، وكأنما كان على اللجنة المنظمة أن تخوض معارك من كل حدب وصوب كي تنجو بمهرجانها.
لا يريد العاملون في المجال الثقافي في لبنان سماع كلمة حرب أو إلغاء مواعيد، أو حتى الخضوع لمخاوف ما، يمكن أن تأتي بنتائج عكسية على جهودهم. هناك طريقتان لمجابهة أي أزمة، تقول مسؤولة التحرير في «دار الساقي» رانيا المعلم، ومثلها يقول آخرون في غير مجال النشر: «إما التقوقع والانسحاب خوفا وحذرا وإما مضاعفة النشاط وشن ما يشبه الهجوم لكسب الجولة، ونحن أردنا لأنفسنا الخيار الثاني». هذا ما فعله بعض الناشرين هذا العام، فقد صدرت مئات الكتب في بيروت، على الرغم من كون أسواق العراق وسوريا وتونس وليبيا مجمدة. «دار الساقي» وحدها طبعت 40 كتابا، ومثلها فعلت «دار الآداب». وبدا أن ثمة غزارة أدبية واضحة، فقد صدرت للروائي رشيد الضعيف «هرة سكريدا»، ولجبور الدويهي «حي الأميركان»، ولإسكندر نجار «برلين 36». كما وقع واسيني الأعرج في بيروت روايته «أصابع لوليتا» بعد أن نال أخيرا جائزة «مؤسسة الفكر العربي» عن روايته «مملكة الفراشة»، ومثله فعلت الروائية الكويتية ليلى العثمان، فوقعت في معرض الكتاب مؤلفها «حكاية صفية». كما أصدر الشاعر شوقي بزيع «فراشات لابتسامة بوذا»، ومحمد علي شمس الدين ديوانه «النازلون على الريح».
وعلى الرغم من كل المخاوف، فقد مضى معرض الكتاب الفرنسي، وبعده العربي، بأفضل مما توقع الناشرون. وعلى الرغم من ذلك فثمة أفكار جديدة لهذين المعرضين. هناك ناشرون لبنانيون مثل رشا الأمير صاحبة «دار الجديد» يعتبرون أن مرحلة ما بعد الثورات تليق بها رؤية جديدة للكتاب في بيروت، ولمعارضه أيضا، والرؤى قد تتبلور السنة المقبلة أو السنوات التي تليها.
الفنون التشكيلية بدورها لا تريد أن تشتكي. «مركز بيروت للفن» نشط في السنوات الأخيرة، متخطيا صعوبة المرحلة وتعقيداتها، واكتسب شهرة عالمية، وزواره لا سيما من الغرب يتحدثون عنه في كل مكان، معتبرين إياه نقطة حقيقية وصادقة لمعرفة الفنانين العرب وإنتاجهم الجديد. وإذا كان «معرض بيروت للفنون» أو «بيروت آرت فير» الذي أقيم للعام الرابع على التوالي، وصادف موعده بعد أيام فقط من إعلان أميركا نيتها شن هجوم على سوريا، هو البوصلة التي تشير إلى مدى انتعاش الفن التشكيلي في لبنان، فإن مديرته، لور دوتفيل، تقول إنه «سجل نجاحا كبيرا لم يكن متوقعا». وهي وصفته بأنه «فقاعة الأكسجين التي تنفسها اللبنانيون» في أحلك لحظات السنة. وبالفعل كان الإقبال باهرا حتى بالنسبة للعارضين الأجانب. وقالت دوتفيل مع ختام المعرض: «مقابل 11 ألف زائر جاءوا إلى المعرض العالم الماضي، حضر 18 ألف زائر هذه السنة. وبينما سجلنا مبيعا بنحو مليوني دولار العام الماضي، وصلت المبيعات إلى ثلاثة ملايين و500 ألف دولار هذه المرة. وهو رقم هائل في بلد صغير مثل لبنان، وفي الظروف التي تعيشها المنطقة».
كل هذا لا يعني أن لبنان لم يتأثر سلبا، بسبب الظروف المأسوية المحيطة به، والسيارات المفخخة التي وصلت إلى عمق بيروت والمعارك الدامية في طرابلس، والصواريخ التي طالت قراه الحدودية، لكن إرادة المضي في العمل الثقافي لا تزال مدهشة. ذكرى الحرب وشللها المقيت يدفعان على الأرجح بكل الفنانين والأدباء إلى رفض الخضوع أو الاستسلام. فقد توالت المسرحيات غزيرة على الخشبات، وعادت نضال الأشقر إلى المسرح كممثلة هذه المرة، في مسرحية «الواوية»، بعد 19 عاما من الغياب، ومثلها عاد زياد الرحباني إلى التمثيل في عمل للمخرجة لينا خوري حمل اسم «مجنون يحكي»، ونشط الرحباني كما لم يفعل في أي سنة أخرى جوالا مع فرقته التي غنت في المناطق. كما عادت «فرقة كركلا» إلى الخشبة مع نهاية السنة في عملها الراقص «كان يا ما كان» مع بعض التعديلات. واختتم العام بمنازلات ومقالات من القصف الكلامي المتبادل، بعد أن أعلن زياد الرحباني عن حب والدته فيروز لأمين عام حزب الله حسن نصر الله، في إشارة ربما إلى أن الفنون وأهلها في بيروت، على الرغم من كل المحاولات، يخشى أن لا تبقى طويلا بمنأى عن مستنقع السياسات العربية وخسائرها الفادحة.



«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين
TT

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

سورين كيركيغارد

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!