جورج فالين: المستشرق الذي عشق حائل السعودية

كتب أنه حين سكن فيها «نسي العالم كله»

جورج أوغست فالين بلباسه العربي و غلاف {رحلات فالين}
جورج أوغست فالين بلباسه العربي و غلاف {رحلات فالين}
TT

جورج فالين: المستشرق الذي عشق حائل السعودية

جورج أوغست فالين بلباسه العربي و غلاف {رحلات فالين}
جورج أوغست فالين بلباسه العربي و غلاف {رحلات فالين}

يُعد الرحالة الفنلندي جورج أوغست فالين الذي يعرف بـ«فالين العربي»، أحد أشهر الأوروبيين الذين عشقوا شبه الجزيرة العربية، فقد افتتن بلغتها وأجاد استعمالها تحدثا وكتابة، ورسم في كتابه: «صور من الجزيرة العربية»، لوحة منصفة، عن هذه المنطقة في منتصف القرن 19.
وذكر فالين في مذكراته أنه لم يعد يطيق التعاطي مع الثقافة الأوروبية، لأنها برأيه «كابتة»، ولم يعد يستطيع أن يتأقلم مع الوضع الذي ورثه من الحضارة الأوروبية، ولكنه وجد متنفسه في بلاد العرب؛ حيث انصب اهتمامه على تدوين ذكرياته ودراساته حول الأدب والتاريخ العربي، فضلا عن الدراسات الإسلامية.
تخرّج فالين من جامعة هلسنكي عام 1829، وغادر منها إلى هامبورغ فباريس ومرسيليا، ثم إلى اسطنبول ومنها إلى القاهرة، قبل أن يحط رحله في حائل (شمالي السعودية) التي عشقها وعشق أهلها، وكاد أن يتزوج فيها من بنت أحد شعراء المدينة، لو لم يعقه عن مراده الرحيل والترحال؛ حيث غادر حائل وكتب في مذكراته أنه في حائل «نسي العالم كله»، وكاد أن يقضي بقية عمره فيها؛ حيث تكوّنت له علاقات وصداقات كثيرة هناك.
وعلى الرغم من أن فالين الذي سمى نفسه فيما بعد بـ«عبد الولي»، بعد أن اعتنق الإسلام رحل مبكرا، إذ لم يتجاوز الـ41 عاما من عمره (1811 - 1852)، فإن صيته ذاع بين أشهر الرحالة الاسكندنافيين بل الأوروبيين قاطبة، الذين زاروا المنطقة العربية وكتبوا عن طبيعتها ولغتها، وسرد أحوال الناس الذين اختلط بهم وقتذاك.
كانت مدينة الجوف أولى الوجهات التي قصدها «فالين العربي»، بعد أن غادر مصر التي درس فيها القرآن والإسلام على يد بعض مشايخها هناك، وبقي فيها نحو ثلاثة أشهر ونصف الشهر، ومن مصر غادر باتجاه الجوف مرورا بجبة؛ حيث كان لا يمر على منطقة، إلا رصد تحركات أهلها وأنشطتهم الاجتماعية والإنسانية.
ويقول «فالين العربي»، الذي صار يعرف بعد إسلامه باسم «عبد الولي» في كتابه: «صور من الجزيرة العربية»: «يعتقد سكان الجوف أن مدينتهم في وسط الدنيا؛ لذا يطلقون عليها (جوف الدنيا)، والواقع أن المسافات التي تفصلها عبر الصحراء المحيطة بها، إلى أقرب الأراضي المزروعة، تكاد تتماثل، فيمكن الوصول من الجوف إلى دمشق في سوريا وإلى النجف في العراق وإلى المدينة في الحجاز والكرك في فلسطين في نحو سبعة أيام».
آمن فالين، بالدعوة الإصلاحية للشيخ محمد بن عبد الوهاب، وكانت نيته السفر إلى الرياض، غير أن الظروف المادية، بجانب ما يشاع عن وشاية مستشرق آخر به، وهو «هوغارت» الذي ادعى أنه يعمل لصالح والي مصر محمد علي باشا منعه من تحقيق هذه الغاية، وعوضا عن ذلك توجه إلى مكة حاجا لبيت الله الحرام، ومن بعد ذلك زار المدينة المنورة قبل عودته إلى القاهرة.
وعن حائل، التي عشقها فالين، كتب يقول: «حينما قدمت إلى حائل دهشت كثيرا ليس فقط لرؤيتي الصغار الذين تتراوح أعمارهم بين ثلاث واثنتي عشرة سنة في مجالسة كبار السن، ومبادلتهم الحديث، لكن أيضا أخذ رأيهم في مواضيع تفوق مستواهم، والاستماع إلى ما يقولونه باهتمام».
وزاد: «يعيش الصغار مع آبائهم في محبة وألفة، ولم أر في حائل تلك المشاهد الكريهة المألوفة بمصر: والد حانق يضرب ابنه، ولا رأيت الإذلال الذي يعانيه صغار الأتراك الذين لا يسمح لهم أبدا بالجلوس أو حتى الكلام في حضرة آبائهم المتغطرسين، ولم أر في العالم كله أولادا أكثر تعقلا وأحسن خلقا وأكثر إطاعة لآبائهم من الحائليين».
وقال عن حائل كذلك: «تكثر في جبلي أجا وسلمى الينابيع والآبار، ومياه آبارها، دون استثناء، من نوعية ممتازة، عذبة وخفيفة، وتساعد على الهضم السريع، ويقول السكان إن أي فرد يمكنه أن يسافر عبر أراضيهم من أدناها إلى أقصاها حاملا ماله فوق رأسه دون أن يعترضه أحد أو يخاف، مجرد خوف، من نهبه»، منوها أن الحبوب المزروعة في حائل تفضّل على المستوردة من بلاد ما بين النهرين، بسبب جودتها وطبيعة مادتها، وتباع بسعر أعلى من سعر الحبوب المستوردة».
وقبل أن يغادر فالين الجزيرة العربية، زار مكة في عام 1845 بعد أن اعتنق الإسلام، قبل أن يعود إلى بلاده فنلندا في العام 1850؛ حيث نشرت الجمعية الجغرافية الملكية كتابه بعنوان «ملاحظاتي أثناء رحلاتي في شبه الجزيرة العربية»، ومنحته ميدالية مؤسسها اعترافا ببحثه الرائد، وهناك أكمل رسالة الدكتوراه في عام 1851 وعين لاحقا أستاذا للأدب الشرقي في جامعة هلسنكي.
توفي فالين في 23 أكتوبر (تشرين الأول) 1852، فقط بعد ثلاث سنوات من عودته إلى فنلندا وقيل يوم واحد من بلوغه الـ21، وطلب من والدته قبل موته أن يدفن في مقابر المسلمين، وأن يكتب على شاهد قبره اسمه الجديد «عبد الولي» بالعربية.
يشار إلى أنه الباعث وراء رحلة فالين والكثير من المستشرقين الآخرين لاستكشاف شبه الجزيرة العربية في القرن الـ18 والقرن الـ19، كانت الروايات والقصص والأساطير والحكايات، التي كانت تسرد تفاصيل هذه المنطقة الغامضة وطبيعة سكانها من أنشطة اجتماعية وثقافية وحضارية ودينية، هو ما دفع فالين للقدوم إلى المنطقة وأن يجوب صحراءها ورمالها ووهادها وجبالها.
ويعرف عن المستشرقين الاسكندنافيين، أن رحلاتهم بدأت للمنطقة العربية من فنلندا مع تأسيس أول جامعة في «توركو»، العاصمة في العام 1640؛ حيث لا تزال جامعة هلسنكي تضطلع إلى اليوم بالدراسات العربية والإسلامية، وذلك في قسم الدراسات الآسيوية - الأفريقية التابع لها؛ حيث وضع المستشرقون الاسكندناف كتبا عن الشرق العربي الإسلامي.



ذهبيات ساروق الحديد في إمارة دبي

قطع ذهبية مصدرها موقع ساروق الحديد في إمارة دبي
قطع ذهبية مصدرها موقع ساروق الحديد في إمارة دبي
TT

ذهبيات ساروق الحديد في إمارة دبي

قطع ذهبية مصدرها موقع ساروق الحديد في إمارة دبي
قطع ذهبية مصدرها موقع ساروق الحديد في إمارة دبي

تحوي إمارة دبي مواقع أثرية عدة؛ أبرزها موقع يُعرف باسم ساروق الحديد، يبعد نحو 68 كيلومتراً جنوب شرقي مدينة دبي، ويجاور حدود إمارة أبوظبي. خرج هذا الموقع من الظلمة إلى النور في مطلع القرن الحالي، وكشفت حملات التنقيب المتلاحقة فيه خلال السنوات التالية عن كم هائل من اللقى الأثرية، منها مجموعة مميّزة من القطع الذهبية المتعددة الأشكال.

يقع ساروق الحديد داخل سلسلة من الكثبان الرملية في الجزء الجنوبي الغربي من منطقة «سيح حفير» المترامية الأطراف، ويشكل حلقة من سلسلة من المواقع الأثرية تتوزع على الطريق التي تربط بين واحة العين ومدينة أبوظبي. شرعت «دائرة التراث العمراني والآثار» التابعة لبلدية دبي في استكشاف أوّلي للموقع في عام 2002، وتعاقدت مع بعثة تابعة لـ«دائرة الآثار العامة في الأردن» لإجراء التنقيبات التمهيدية. تواصلت أعمال هذه البعثة على مدى خمس حملات، وتبيّن معها سريعاً أن سطح الموقع يحوي كميات كبيرة من خَبَث المعادن، ومجموعات عدّة من اللقى، منها القطع النحاسية والحديدية، والكسور الفخارية والحجرية، إضافة إلى قطع متنوعة من الحلي والخرز والأصداف. شهد ثراء هذه الغلّة لأهمية الموقع الاستثنائية في ميدان الإمارات الأثري خلال العصر الحديدي، ودفع السلطة الحاكمة إلى التعاون مع عدد من البعثات الغربية لاستكمال هذه المهمة بشكل معمّق.

أجرت مؤسسة «محمية دبي الصحراوية» بالتعاون مع مؤسسة دبي للتسويق السياحي والتجاري سلسلة من التنقيبات بين عامي 2008 و2009، أشرف عليها فريق من البحاثة الأميركيين، وتبيّن أن الموقع يعود إلى تاريخ موغل في القدم، وأن هويته تبدّلت خلال 3 آلاف سنة. تواصلت أعمال البحث مع وصول بعثات جديدة، منها بعثة أسترالية تابعة لـ«جامعة إنجلترا الجديدة»، وبعثة إسبانية تابعة لـ«معهد سانسيرا للآثار»، وبعثة بولونية تابعة لـ«المركز البولندي للآثار في منطقة البحر الأبيض المتوسط في جامعة وارسو». اتضحت صورة التطوّر التاريخي للموقع، وشملت 3 مراحل متعاقبة. كان الموقع في البدء واحة استقرّ فيها رعاة رحّل، ثم تحوّل في مرحلة لاحقة إلى مركز ديني حملت آثاره صورة الأفعى بشكل طاغٍ، كما في مواقع أخرى متعددة في شبه جزيرة عُمان. تطوّر هذا المركز بشكل كبير في مرحلة ثالثة، وتحوّل إلى مركز تجاري كبير تتقاطع فيه طرق الجزيرة العربية مع الطرق الخارجية. حوى هذا المركز محترفات لصناعة المعادن ومعالجتها، وضمّ على ما يبدو محترفات خُصّصت لمعالجة الذهب والفضة والبرونز والرصاص، كما ضمّ ورشاً لتصنيع الخرز، وتشهد لهذا التحوّل مجموعات اللقى المتعددة التي خرجت من الموقع بعد استكشاف جزء صغير من مساحته التي تبلغ نحو 2 كيلومتر مربّع.

دخل جزء من هذه المجموعات الأثرية إلى متحف خاص افتُتح في صيف 2016 في منطقة الشندغة في بر دبي. حلّ هذا المتحف في بيت من الطراز التقليدي شيّده الشيخ جمعة بن مكتوم آل مكتوم في أواخر عشرينات القرن الماضي، وتحوّل هذا البيت الكبير إلى «متحف ساروق الحديد»، بعد تجهيزه وفقاً لأحدث الطرق. تحوي هذه المجموعات الأثرية المتنوّعة مجموعة استثنائية من القطع المصنوعة بالذهب، وهي قطع منمنمة، منها قطع من الذهب الخالص، وقطع من معدن الإلكتروم المطلي بالذهب، والمعروف أن الإلكتروم سبيكة طبيعية المنشأ، تجمع بين الذهب والفضة، مع بعض كميات صغيرة من الرصاص والمعادن الأخرى.

تتألف هذه الذهبيات من مجموعات عدة، منها مجموعة كبيرة القطع الدائرية، تتكون كل منها من حبيبات متلاصقة، لُحم بعضها بجانب بعض في حلقة أو حلقتين. تختلف أعداد الحبيبات بين حلقة وأخرى، كما تختلف صورة كتلتها، والجزء الأكبر منها كروي الشكل، وبعضها الآخر مضلع. ونقع على قطع محدودة تأخذ فيها أشكالاً مغايرة، منها العمودي على شكل شعاع، ومنها البيضاوي على شكل البتلة. احتار البحاثة في تحديد وظيفة هذه القطع الدائرية، ويرى البعض أنها كانت تُستعمل لتشكيل عقود الزينة، ويرى البعض الآخر أنها صُنعت لتطريز الألبسة. إلى جانب هذه المجموعة الكبيرة من الحلقات الدائرية، تحضر مجموعة أخرى كبيرة تتألف من قطع على شكل قرني ثور، ووظيفتها غير محدّدة كذلك، والأرجح أنها استعملت كأقراط أو خزامة في الأنف. تختلف هذه القطع المنمنمة في الحجم، كما تختلف في دقة الصناعة، وأجملها قطعة يتدلّى منها تاج على شكل جرس صيغ برهافة كبيرة.

تأخذ هذه الذهبيات طابعاً تجريدياً، وتخرج عن هذا الطابع في حالات معدودة، كما في قطعتين مستطيلتين تحمل كل منهما صورة ناتئة لحيوان يظهر بشكل جانبي. تمثل إحدى هاتين الصورتين أرنباً يعدو على أربع، وتمثل الأخرى غزالاً يقف ثابتاً. ونقع على قطعة تأخذ شكل تمثال صغير يمثّل حيواناً من فصيلة السنوريات يظهر بشكل مختزل للغاية. قطعة مماثلة تمثل ثعباناً مرقطاً، وتشابه هذه القطعة في تكوينها القطع المعدنية الثعبانية التي خرجت بأعداد كبيرة من مواقع أثرية مختلفة في الإمارات العربية المتحدة كما في سلطنة عُمان.

أثبتت الدراسات العلمية أن هذه الذهبيات محلية، وهي نتاج صناعة راجت في هذه البقعة من الجزيرة العربية خلال الألف الأول قبل الميلاد. وربط البعض بين هذه البقعة وبين بلاد أوفير التي تردّد ذكرها في التوراة، واحتار المفسّرون في تحديد موقعها. يتحدث «سفر الملوك الأول» عن «سفن حيرام التي حملت ذهباً من أوفير، أتت من أوفير بخشب الصندل كثيراً جداً وبحجارة كريمة» (10: 11). ويتحدّث «سفر أخبار الأيام الأول» عن «ثلاثة آلاف وزنة ذهب من ذهب أوفير، وسبعة آلاف وزنة فضة مصفاة» (29: 4). كما يتحدث «سفر أخبار الأيام الثاني» عن سفن حلت في أوفير، وحملت منها «أربعمائة وخمسين وزنة ذهب» إلى الملك سليمان (8: 18).

نقرأ في «سفر المزامير»: «جعلت الملكة عن يمينك بذهب أوفير» (45: 9). وفي «سفر إشعيا»: «واجعل الرجل أعز من الذهب الإبريز، والإنسان أعز من ذهب أوفير» (13: 12).