حلم «الدولة الكردية»

الدعوة لاستفتاء حول استقلال إقليم كردستان العراق.. تواجه خلافات وعقبات

حلم «الدولة الكردية»
TT

حلم «الدولة الكردية»

حلم «الدولة الكردية»

جاءت رياح العنف والقتال بين الجيش العراقي وتنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وسيطرة التنظيم المتطرف على مدن ومحافظات غربية في البلاد، بما تشتهي سفن مسوؤلي إقليم كردستان، الذين لوحوا لاستقلال إقليمهم، بالدعوة إلى استفتاء جماهيري، وبتأكيد رئيس الإقليم مسعود برزاني أن الأكراد لن يبقوا جزءا من عراق مضطرب.. وقال «استيقظنا ووجدنا بجوارنا دولة جديدة}.. وإن العراق مقسم بالفعل.. وإن الاستقلال حق طبيعي. واستغل الأكراد الأوضاع الأمنية للسيطرة على المناطق المتنازع عليها مع بغداد.. وفي المقابل رفض رئيس الوزراء نوري المالكي هذه الإجراءات وهدد الأكراد بـ«الندم}، ووصف أربيل بأنها «بؤرة الإرهاب}، كما أن دول الجوار وأهمها تركيا وإيران رفضتا أيضا قيام دولة كردية.
وتباينت الآراء في الساحة العراقية، وبينما أعربت قيادات سنية معارضة للحكم في بغداد تأييدها الكامل لتأسيس دولة كردية في العراق، أعلن الجانب الشيعي عن معارضته التامة لمبدأ تقرير المصير للكرد، أما الجانب الكردي فيؤكد أن هناك دعما كبيرا من قبل المجتمع الدولي لحق الأكراد في تقرير مصيرهم. وبين تحقيق الحلم الكردي.. جسور كثيرة ينبغي عبورها.. إقليميا ومحليا.
تعلن تنسيقية ثوار العشائر في العراق التي تقود إلى جانب فصائل أخرى المعارك ضد القوات الحكومية في المناطق السنية في العراق، عن تأييدها الكامل لتأسيس دولة كردية.
وقال فائز الشاووش المتحدث الإعلامي لهيئة ثوار العشائر في حديث لـ{الشرق الأوسط}، «نحن نؤيد أي شيء يقرره الشعب الكردي والقيادة الكردية من ناحية تقرير مصير هذا الشعب، من حق الأكراد الاستقلال وتأسيس دولة لهم في كافة الأراضي التي يسيطرون عليها بما فيها الأراضي التي سيطرت عليها قوات البيشمركة الكردية بعد أحداث الموصل}.
وفي الوقت ذاته أعرب الشاووش عن معارضتهم لإنشاء دول دينية في العراق على حد تعبيره. وقال «المالكي يريد تقسيم العراق إلى دويلات سنية وشيعية، ونحن نرفض هذه الدول الدينية، لأن الأوطان للقوميات وليست للأديان، إذن هي من حق الأكراد لأنهم قومية، أما الشيعة والسنة فلا، فنحن نؤمن بوحدة العراق شيعة وسنة}.
من جانبه أكد الشيخ سعد افتيخان أبو ريشة عضو الهيئة السياسية لثوار العشائر في العراق، تأييد السنة لمشروع إعلان الدولة الكردية، وقال أبو ريشة لـ{الشرق الأوسط}، «نحن في دولة ديمقراطية، إذا قرر الشعب الكردي الانفصال، فالقرار حينها سيكون لهم، ونحن نؤيدهم، لأن الأغلبية قررت ذلك}. مبينا أن الدستور العراقي يمنح المواطن أن يقرر مصيره، سواء أكان ذلك بإقليم أو بكونفيدرالية.
أما الجانب الآخر، فقد بين معارضته للفكرة إجراء الاستفتاء في إقليم كردستان لتقرير مصير الأكراد في العراق، داعيا الأكراد إلى الالتزام بالعملية السياسية واللجوء إلى الحوار في إطار العراق الموحد.
وفي خطابه الأسبوعي الأخير وصف رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي أربيل عاصمة الإقليم ببؤرة الإرهاب، الأمر الذي تسبب برد فعل قوي في الأوساط السياسية الكردية، التي وصفت المالكي بالمصاب بـ{الهيستيريا}، وأدت تصريحات المالكي هذه إلى تدهور أكبر في العلاقات بين أربيل وبغداد.
ويبدي علي الشبر القيادي في المجلس الأعلى الإسلامي الذي يتزعمه عمار الحكيم وأحد مكونات الائتلاف العراقي الشيعي الموحد، «معارضته لفكرة استقلال الكرد}. وقال الشبر في حديث لـ«لشرق الأوسط}، «الوضع الحالي لا يقتضي بالذهاب نحو التقسيم، وعلى الأكراد احترام وحدة العراق، جميع الموجودين في البرلمان العراقي أقسموا على الحفاظ على وحدة العراق وأرضه، إذن ما فائدة هذا القسم الآن، وهناك من يريد تقسيم العراق وتجزئته}.
وأوضح شبر «صحيح أن هناك إخفاقات في العملية السياسية، لكن هذا لا يعني المضي نحو تقسيم العراق، يجب على الجميع التوجه نحو الحوار لمعالجة المشكلات، والوضع الحالي لا يخدم تقسيم العراق وتأسيس دولة كردية». ودعا شبر الأكراد إلى احترام الدستور، وقال «كلنا من شيعة وسنة وعرب وأكراد صوتنا على هذا الدستور الذي أعطى حق تأسيس الأقاليم الفيدرالية في العراق، نحن كمجلس أعلى، والائتلاف العراقي الموحد مع الفيدرالية وضد التقسيم}.
بينما يرى السياسيون الأكراد أن الوقت قد حان لإعلان دولتهم، فهم يقولون إن الظروف الذاتية والموضوعية تغيرت في المنطقة، وأصبحت الآن ملائمة لإنشاء دولة كردية، مشيرين إلى أن الكرد هيأوا لهذه الدولة خلال الـ22 عاما الماضية. وقال هيمن هورامي مسؤول العلاقات الخارجية للحزب الديمقراطي الكردستاني الذي يتزعمه رئيس الإقليم مسعود بارزاني، لـ{الشرق الأوسط}، إن «الظروف الذاتية والموضوعية تغيرت في كردستان، فمن الناحية الذاتية لم يبق للكرد مشكلة أرض وهناك وحدة داخلية واسعة بين الأطراف الكردية، كردستان استطاعت خلال الـ22 عاما الماضية أن تؤسس مؤسساتها الحكومية بشكل جيد، وأن تضع أساسا اقتصاديا للدولة، ومن الناحية الموضوعية فإننا نرى أن المعادلات تغيرت في الشرق الأوسط، والأنظمة الديكتاتورية آلت إلى الهاوية، وكذلك نرى تغييرا في توازنات القوى بعد ثورات الربيع العربي}.
يقول القيادي الشاب هيمن هورامي «إن إقليم كردستان برهن للعالم وللشرق أنه عامل استقرار في المنطقة}، مؤكدا أن «العالم ينظر إلى الكرد في الشرق الأوسط الآن كعامل جيوستراتيجي في معادلات المنطقة، كما هو متمثل بدور كردستان في المعادلة العراقية وفي العلاقة مع إيران وتركيا ودور كردستان في التطورات على الساحة السورية}.
وتابع هورامي «كذلك دور كردستان في أمن الطاقة ليس للمنطقة فحسب بل لكل العالم، والآن هناك تفهم دولي كبير لفكرة الاستفتاء على تقرير المصير في إقليم كردستان}، مبينا بالقول «إن لم تكن كردستان واقتصادها مهمين للعالم لما استثمرت 53 شركة دولية في نفط الإقليم، ولما تركت شركات كبيرة كإكسوموبيل وشيفرون وتوتال وغازبروم الاستثمار في العراق وجاءت إلى إقليم كردستان لتستثمر في النفط».
ويعاني الإقليم الكردي حاليا من أزمة اقتصادية حادة بدأت منذ بداية العام الحالي، بعد تدهور العلاقات مع الحكومة الاتحادية حول العقود النفطية التي أبرمتها حكومة الإقليم في مجال استخراج وتصدير النفط إلى تركيا، الأمر الذي دفع ببغداد إلى قطع حصة الإقليم من الميزانية الاتحادية وقطع رواتب موظفي الإقليم.
وعلى الرغم من أن الاتفاقية التي وقعتها أربيل مع تركيا في مجال الطاقة من الاتفاقيات الطويلة الأمد حيث تمتد إلى نحو 50 عاما وهي حسبما يقول المسؤولون الأكراد قابلة للتمديد، فإن الإقليم ولحد الآن يعاني من حصار بغداد الاقتصادي الذي شهد تطورا ملحوظا خلال الأيام الماضية، فبغداد التي تمتلك سلطة الطيران المدني في العراقي قررت منع هبوط طائرات الشحن في مطاري الإقليم، الأمر الذي تسبب في نشوء أزمة اقتصادية أخرى ستكون لها تأثيرات على البنى التحتية في كردستان.
بدورها أيدت الأحزاب الكردية كافة، فكرة إجراء استفتاء لتقرير مصير كردستان، مؤكدة أن هذا القرار جاء بعد دراسة طويل بين رئاسة الإقليم والأطراف السياسية الكردية.
وقال عدنان مفتي القيادي البارز في الاتحاد الوطني الكردستاني الذي يتزعمه رئيس الجمهورية جلال طالباني في حديث لـ{الشرق الأوسط}} إن «قرار رئيس الإقليم بإجراء الاستفتاء لم يكن وليد ذلك اليوم بل كان هذا الموضوع مدار البحث والمناقشة بين كافة الأطراف الكردستانية ورئيس الإقليم على مدى أشهر}.
وأضاف مفتي أن هذا القرار يأتي بعد تعرض الأكراد إلى إحباطات كثيرة نتيجة فشل الدولة العراقية، واستطرق بالقول «السطور الأخيرة من ديباجة الدستور العراقي الذي صوتنا عليها جميعا تقول إن وحدة العراق مرهونة بالالتزام بهذا الدستور}، وتسأل «أين هذا الالتزام بالدستور الآن، الدولة الاتحادية فشلت في حل المشكلات وتحقيق المصالحة الوطنية وفشلت في تحقيق الديمقراطية}.
مصادر مطلعة على المشهد السياسي في كردستان العراق أبلغت «الشرق الأوسط» أن عدد الدول التي أعلنت تأييدها لفكرة الاستفتاء لاستقلال كردستان فاق الـ20 دولة، من بينها دول عربية وغربية أهمها فرنسا، دون الخوض في التفاصيل.
أما بريطانيا العظمى فموقفها جاء مخالفا للطموحات الكردية في الانفصال من العراق.
وأعلنت لندن على لسان سفيرها في تركيا «رتشارد مور} أن الوقت ليس مناسبا لإعلان دولة كردية، وقال مور في حوار مع موقع «ديلي صباح» التركي، «إن رأي بريطانيا متوافق مع تركيا، وهي أننا نرى أن وحدة الأراضي العراقية مهمة، ونقول في الوقت ذاته إن الوقت غير مناسب لإعلان الكرد الاستقلال عن العراق}.
إسرائيل الصديقة السرية للأكراد طوال العقود الماضية، كانت من أوائل الدول التي أعربت عن تأييدها لتأسيس دولة كردية في العراق، وطالبت حليفتها الولايات المتحدة بدعم إنشاء دولة للكرد في العراق، لكن القيادي في حزب طالباني عدنان مفتي يرى أن الموقف الإسرائيلي كان له تأثير سلبي على مسار التأسيس لدولة كردية. وأشار إلى أن دولة كردستان لا تريد أن تكون مصدرا للحروب والنزاعات في المنطقة، وسيكون لدولة كردستان إثر إيجابي في تحقيق السلام في الشرق الأوسط.
من جانبه أعلن فلاح مصطفى مسؤول دائرة العلاقات الخارجية في حكومة الإقليم الذي يعد وزيرا للخارجية وقد عاد لتوه من زيارة إلى أميركا، أن هناك تفهما من قبل واشنطن لفكرة الاستفتاء على تقرير المصير في كردستان، وقال لـ{الشرق الأوسط}، «حاولنا كثيرا أن نساعد العراق لكن مع الأسف لم تكن هناك إرادة في الجانب المقابل لقبول الشراكة الحقيقية والعيش معا، لذلك عندما نتحدث عن حق تقرير المصير نتحدث عن ممارسة هذا الحق، لأننا لسنا المسؤولين عن تفكك العراق}.
وكشف مصطفى أن الوفد الكردي الذي زار واشنطن مؤخرا وضح لها أن الأكراد يسيرون بمسارين اثنين، أولهما الاستمرار بالعملية السياسية في بغداد، من أجل أن يكون للكرد وجود فعلي في بغداد، مع إجراء تغييرات جذرية، وبين أن الأكراد لن يقبلوا برجوع العراق إلى ما كان عليه قبل أحداث الموصل.
وأكد، «لا يمكن الحديث عن نظام فيدرالي فارغ، إما أن نتحدث عن الكونفيدرالية أو الاستقلال، والمسار الثاني يتمثل بطلب رئيس الإقليم من برلمان كردستان تشكيل الهيئة المستقلة للانتخابات في الإقليم لإجراء استفتاء على تقرير المصير للكرد في العراق، فإن اختار لشعب الكردي الاستقلال حينها تكون القيادة السياسية الكردية ملزمة بتطبيق قرار شعب كردستان}.
وتابع مصطفى أن واشنطن لم تعترض على موقفنا هذا وهناك تفهم من قبل الإدارة الأميركية لفكرة الاستفتاء، مؤكدا في الوقت ذاته أن هناك تفهما دوليا كبيرا أيضا للموقف الكردي في الاستفتاء لتقرير المصير.
بدوره يعد المحلل السياسي عبد الغني علي يحيى، توفر دعم من قبل إحدى الدول العظمى في العالم أو دولة جارة، شرطا مهما لتأسيس ونجاح الدولة الكردية في إقليم كردستان.
وأضاف يحيى لـ{الشرق الأوسط} أن «توفر دعم دولة عظمى كالولايات المتحدة أو من ينوب عنها مهم لنجاح الدولة الكردية، وهذا ما نلاحظه الآن في التقدم الإسرائيلي باتجاه دعم استقلال كردستان، فهناك روابط وثيقة بين السياسات الأميركية والإسرائيلية، إذن من المحتمل أن تقوم دولة إسرائيل بتأييد استقلال كردستان نيابة عن أميركا}.
وأضاف يحيى أن الشروط متوفرة لإعلان استقلال كردستان، عادا أن الموقف الإسرائيلي له وقع إيجابي على مسار تأسيس الدولة الكردية، مشددا «الموقف الإسرائيلي لا يشكل مصدر إحراج للقيادة الكردية}.
أما الدكتور هيزا سندي الخبير في الشؤون الإدارية والحكم، فقال في حديث لـ{الشرق الأوسط} حول مقومات الدولة الكردية: «المقومات موضوعية ومصطنعة، هنالك شعب ولغة وأرض، والعالم يعرف هذه الحقيقة، فنتيجة لتقسيمات سايكس بيكو وما قبلها تجزأ هذا الشعب، لكن الآن أضيفت لها جوانب كثيرة، فهنالك اقتصاد وتغيير للخارطة السياسية للشرق الأوسط وهنالك ربيع عربي وقوى عظمى لها مصالح في المنطقة، هذه كلها أسباب وعوامل ستحقق بشكل جديد مقومات الدولة الكردية، وهناك مقومات داخلية وخارجية في إقليم كردستان كي تصبح دولة، والأهم أن حكومة الإقليم تحكم كردستان منذ عام 1991 فهي اكتسبت من خلال هذا الحكم خبرة كبيرة في مجال الحكم والإدارة، وللإقليم اقتصاد كبير قائم بذاته، وكون علاقات دبلوماسية كبيرة وناجحة إقليميا ودوليا».
ولعل أبرز مشكلة ستواجه الدولة الكردية إن أعلن عنها قريبا هي مشكلة عدم وجود عملة خاصة بهذه الدولة، فالعملة هي التي تتحكم بالسياسة النقدية لأي دولة في العالم، ويعتمد إقليم كردستان حاليا على الدينار العراقي كعملة رئيسة في التعامل.
ويقول إدريس رمضان أستاذ الاقتصاد في جامعة صلاح الدين بأربيل، «إن أهم مقوم من مقومات تأسيس الدولة هو المقوم الاقتصادي، فما دام يفكر الإقليم في موضوع الاستفتاء أو تأسيس الدولة عليه أن يعد إعدادا جيدا لهذا الموضوع من المالية النقدية، فعند الإعلان عن هذه الدولة يجب أن تمتلك نقدا خاصا بها لا أن تكون مرتبطة بالعراق}.
وأضاف رمضان «وجود أساس نقدي مستقل للإقليم إضافة إلى أساس مالي مستند على هذا النقد يعد عاملا مهما لانطلاق اقتصاد متطور في هذا البلد يدعم الخطوات السياسية، لذا يجب على الإقليم أن يفكر أولا في هذا الجانب ومن ثم التفكير ف الاقتصاد المستقل والدولة المستقلة}.
وعلى الرغم من أن الأكراد استطاعوا ومنذ عام 1991 وبعد الغزو العراقي لدولة الكويت أن يتمتعوا بشبه الاستقلال عن الدولة العراقية في ثلاث محافظات رئيسة هي (أربيل - السليمانية - دهوك)، وتشكيل برلمان وحكومة الإقليم لكن الكثير من المناطق الكردية الأخرى ظلت تحت سيطرة الحكومة العراقية بما فيها محافظة كركوك الغنية بالنفط.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.