ما يحصل أمامنا... اتفاقية أميركية ـ إيرانية ناقصة

سلكت المفاوضات بين إيران ومجموعة دول الـ«5+1» طريقها بعد سنوات من التجاذب والأخذ والرد والاتهامات المتبادلة والحروب غير المباشرة. وكان الملف النووي الإيراني قد شكل لسنوات طويلة مادة نزاعية على مستوى السياسة الدولية ومنظومة القانون الدولي وتوجهات الحكومات المطالبة دون كلل بالحد من هذا البرنامج، وحتى حد الجزم بضرورة تفكيك قدرة إيران على تطوير برنامج نووي. فالبرنامج يمكن أن يجعل هذه القوة الإقليمية ذات قوة مضاعفة ما يضعها في مصاف القوى النافذة على الصعيد الإقليمي، عبر القدرة الفعلية على مشاركة «السلطان» الأميركي فيما يخطط لهذه المنطقة وما يحدده من برامج لا يريد أن يكون له فيها أي شريك مع «حفظ أمن إسرائيل» بمعناه الاستراتيجي.
إن الاتفاق الذي لم تتبلور معالمه بشكل علني وكامل بين طهران وحكومات الدول الست المعنية أدى فيما أدى إليه إلى تكريس «شراكة ما» ولو محدودة بين إيران وأميركا. ولكن حيثيات الاتفاق تحتاج إلى فترة أطول من البحث والدخول في التفاصيل و«دفاتر الشروط» وحدود اللعبة الجغرافية والعسكرية. واللافت في الأمر أن الاتفاق لم يأت كمرحلة ضرورية لوقف النزاع المعلن وغير المباشر بل اللافت هو الاعتراف بحق إيران بالاحتفاظ بتخصيب اليورانيوم بموجب «اتفاق جنيف»، إضافة إلى استمرار العمل في مفاعلي آراك ونطنز. وأن فترة الستة أشهر لم تكن فترة اختبار بقدر ما شكلت فترة إضافية للبحث بأطر أخرى لبلورة «اتفاقات» جديدة في نواح أخرى أو ربما لإعطاء الوقت الكافي لتسويق ما اتفق عليه عند الدول الأوروبية وحتى العربية غير البعيدة عن أميركا.
وكان مهما منذ أيام ما أشارت إليه معلومات صحافية حول زيارة وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس لفيينا، حيث مقر المنظمة الدولية للطاقة النووية، بهدف الوقوف على مجريات الأمور... وكأن أوروبا - باستثناء ألمانيا وذلك لضرورات المفاوضات - ليست شريكا فعليا ومقررا في المفاوضات بقدر ما هي مستمع ومراقب لما يجري من مباحثات وربما مقررات بين واشنطن وطهران سترسم بعد تبلورها بشكل كبير أطر المرحلة المقبلة على الصعيد الإقليمي في الشرق الأوسط. وستكون لها تداعيات مباشرة، من دون شك، على الأوضاع العراقية المتفاقمة والأزمات السورية الدموية المفتوحة والمسألة الفلسطينية وعلى أوضاع لبنان الرازح تحت وطأة أزمة دستورية أدت إلى تعطيل الانتخابات الرئاسية وإعاقة عمل المؤسسات بشكل أصبح بلد بكامله ينتظر تسويات... ستبدأ من العراق لتنتهي به مع كل شروطها ونتائجها. ولكن إذا كانت إيران قد نجحت في الحد من القلق الذي أبدته دول غربية لسنوات طويلة، فإنها لم تفلح في نزع فتيل القلق والريبة عن الدول العربية، لا سيما، دول الخليج بشكل يجعل «الاتفاق» المنتظر أو الموعود تسوية مقبولة تحدّ من مخاطر النزاعات المختلفة، وبالأخص بعدما تضاعفت الحدة بين السنة والشيعة في أكثر من دولة وتصاعدت إلى منطق «الصراع المفتوح» الذي لا يفيد أطرافه بأي نقاط لأن نقاط القوة اليوم ممكن أن تتحول إلى مكامن ضعف. وهذا ما تشهده الساحة العراقية اليوم من تجاذبات ومعطيات خرجت عن الإطار المنضبط للأمور... وحولت الصراع بين الحكومة ومعارضيها وبعضه على خلفية مذهبية، إلى صراع كبير ولا مركزي بقراره وخياره وقدراته وإرادة التحكم به، جعل المجتمع الدولي قلقا في استمرار التعقيدات حتى تمويلها إلى حروب مفتوحة من دون سقف.
المفاوضات بين إيران ومجموعة «5+1» التي تتخذ طابعا فنيا أو تقنيا في بعض الأحيان لا تصل إلى مبتغاها حسب المرسوم إلا عبر صياغة اتفاق كامل بمعالمه وشروطه، وهذا ليس سهل المنال. إذ أن وجود نظرات متفاوتة حول أبعاد البرنامج النووي الإيراني لم يزل من التواصل على المستوى الدبلوماسي والتقني. وهذا الانتقال: «القانوني» لا يتبلور إلا عبر اتخاذ مجلس الأمن وأجهزة الأمم المتحدة قرارات تطبيقا للاتفاق أو عملا به أو عبر وضع إطار قانوني لشروطه وأحكامه. إذ أن الاتفاق بحروفه الأولى وما بعدها لم يزل سياسيا بامتياز... لم يدخل حيز القوانين الدولية المرعية الإجراء حتى تاريخه بحكم عدم الوصول إلى نص واضح ومشترك. وإذا كان الاتفاق الذي لم يتحقق التوصل إليه في 23 نوفمبر (تشرين الثاني) 2013. وصف بأنه «تاريخي» فذلك مردّه إلى حصول التوافق على بنود عامة ونقل حلبة الخصام إلى مستوى المفاوضات بعد مرحلة التهديدات العسكرية وسواها. وكان أهل المعرفة والاختصاص على الصعيد الدولي يدركون أن ذلك جاء من باب التهويل الأميركي اللفظي لأن الحروب الأميركية المتنقلة لم تنتج مبتغاها... ولم تكن لها انعكاسات إيجابية على الشعب الأميركي، بشكل عام، مع التراجع الحاد في النمو والبطالة العالمية والمديونية المتزايدة.
مفاوضات إيران و«5+1» هي عبارة عن حوار أميركي – إيراني دخل وسيدخل في تفاصيل الأزمة النووية والأزمات الناشئة عنها إضافة إلى خريطة المنطقة التي تتحرك تحت وطأة تغييرات غير مألوفة أدت فيما أدت إليه إلى «سقوط الحدود» بالمعنى التقني، وتشعب الأزمات بشكل أصبح العامل الإيراني معه بالنسبة لأميركا «عنصر الضرورة» على الصعيد الاستراتيجي.
مع هذا، لا يعني ما سبق أن الاتفاق سيشكل «خريطة طريق» شاملة تجعل من إيران شريكا مقررا، بل سترسم مرحلة جديدة من المسارات التي تعد إيران إحدى ركائزها من دون حصرية... أي بشكل يبقى للولايات المتحدة مجالات واسعا لتحديد استراتيجية عملها وقدرتها على التعامل مع التطورات المرسومة مسبقا أو المستمدة وفق ما ترتئيه من مصالح وغايات.
أمر آخر، هو أن المفاوضات التي تشكل تواصل الضرورة لن تغدو مجالات كافية للتهدئة إلا عبر تفعيل الدور العربي، ولا سيما لمصر ودول الخليج وفي طليعتها السعودية، لكي يكون للاتفاق بنواحيه غير الإيرانية - أو بالأحرى غير المحصورة فقط بقدرات إيران - مجالات للتطبيق والتفعيل. ذلك أن الحصرية والاستبعاد وإعلام الأطراف من دون إشراكها سياسات لن تشكل سندا حقيقيا لتطبيق هادئ للاتفاق الشامل إذا حصل لأن أفرقاء كثيرين لا يقبلوا بتهميش دورهم بينما هم يملكون نفوذا وتأثيرات في أكثر من نقطة حاسمة على الصعيد الإقليمي.
إن المعادلة الإيرانية – الأميركية السائرة نحو اتفاق نووي ما ستبقى ناقصة ما لم تشارك بصياغتها، وإن بشكل متفاوت، دول فاعلة لكي يصبح التطبيق العملي ممكنا ويؤدي إلى هدوء العواصف المتنقلة والتي تفلتت عن قرارات بعض الدول والأنظمة حتى الكبرى منها.

* محام وأكاديمي لبناني متخصّص في القانون الدولي

تاريخ النشر - Publish Date
Issue Number
13012