من التاريخ: لينين القائد

من التاريخ: لينين القائد
TT

من التاريخ: لينين القائد

من التاريخ: لينين القائد

تابعنا في الأسبوع الماضي عودة لينين للحياة السياسية بعد اندلاع الثورة الروسية الأولى في روسيا في فبراير (شباط) 1917 بانضمام الجيش للشعب وإعلان الدوما (البرلمان) عن حكومة انتقالية يقودها سياسي ذكي هو «كارينسكي»، الذي كان أمامه مسؤولية صعبة للغاية وهي توحيد البلاد بما يسمح له بعقد الانتخابات البرلمانية كأساس لمرحلة سياسية جديدة في روسيا، ولكنه كان أمام مشاكل كثيرة على رأسها الوضعية المتدهورة للقوات المسلحة الروسية التي كانت على حافة الانهيار جراء الهزائم المتتالية في الحرب العالمية الأولى وانضمام بعض تشكيلات القوى الثورية في البلاد التي عرفت باسم «السوفياتات» Soviets على مستوى المدن والقرى بتضافر قوى الشعب والجيش والمزارعين والعمال، فضلا عن نقص المواد الغذائية الأولية، وكذلك صعوبة التعامل مع التيارات السياسية التي يستحيل التوفيق بين توجهاتها.
ولكن بمجرد عودة لينين إلى سان بطرسبورغ، بدأت مشاكل كارينسكي تزداد، فبدأ الرجل ينظم صفوف فريقه اليساري الصغير الملقب «بالبلاشفة» بعدما انقسمت الحركة اليسارية قبل سنوات إلى أغلبية وأقلية، وواقع الأمر أن «البلاشفة» كانوا الأقلية ولم يكن لهم العدد الكبير في البلاد، كما لم يكن لديهم الموارد المالية المناسبة للعب الدور المطلوب منهم للسيطرة على الحكم في البلاد، ولكنهم تسلحوا بأمرين أساسيين، الأول هو حالة الفوضى العارمة التي أصابت البلاد مستغلين ظروف الفقراء والمكافحين والفلاحين والعمال، أما العامل الثاني فكان التنظيم، فلقد برع لينين في هذا المجال بشكل قلما نجده في المسيرة السياسية للقادة والزعماء عبر التاريخ، فلقد نظم الرجل صفوفه وزرع رجاله في «السوفياتات»، حيث لم يكن يصنف آنذاك بانتمائه لليسارية، ولكن شأنه شأن أي تشكيلات ثورية ركب موجة اليسارية لمواجهة الملكيين أو الثورة المضادة، حيث رأى فيها قوة كبيرة وغير موجهة، وهو أخطر ما يمكن أن يكون، فمن سيسيطر على «السوفياتات» سيسطر على مستقبل الثورة الروسية.
وعلى الفور بزغت عبقرية لينين التكتيكية رغم قرار حكومة كارينسكي التخلص منه على وجه السرعة، وهو ما دفعه للاستعداد للسفر للمنفى مرة أخرى، ولكن الأقدار كانت كريمة معه، فسرعان ما اعتبر كارينسكي أن «المناشفة» والملكيين أشد خطورة عليه من البلاشفة، فرأى التحالف مع البلاشفة لمواجهة من هو أقوى منهم، وهذه كانت الخطيئة الكبرى لكارينسكي، فهكذا أمد القدر وسوء تقدير كارينسكي العمر السياسي للينين، وهي الفرصة التي لم يكن الرجل ليفوتها، فقرر التحرك قبيل استحقاق الانتخابات البرلمانية ضد كارينسكي وحكومته، فكانت المعركة الفيصل تدور حول مستقبل السوفياتات في العاصمة، حيث فاز لينين بهذه المعركة بفضل نجاحه في زرع رجاله وعملائه من البلاشفة ودفع تغلغلهم في سوفياتات «سان بطرسبورغ» إدراكا منه أن من سيسيطر على العاصمة ستكون له الغلبة الأولى، وكانت خطوته التالية هي العمل على ضرب حكومة كارينسكي علنا حتى لا تعقد الانتخابات التي لن يفوز فيها «البلاشفة» ولو حتى في الخيال السياسي.
بكلمات «خليب.. خليب.. ما جلودني» صار للبلاشفة شعار يدوي في كل مكان، إنها الكلمات القادرة على كسر شرعية أي حكومة «الخبز.. الخبز.. أنا جائع»، فمن هو السياسي أو الحكومة التي تستطيع أن تقف أمام هذا الشعار؟ فهكذا بدأت بوصلة الغضب الشعبي تتجه نحو كارينسكي بتحريك الأيدي البلشفية، وسرعان ما خرج الشعار التالي بعد كسر شرعية كارينسكي يدوي بكلمات «كل السلطة للسوفياتات» ليزيل أي مصدر منافس للشرعية، وهو شعار مدمر لأي حكومة مركزية تنقل بمقتضاه السلطة من المركز إلى الأطراف، ومن القيادة الطبيعية إلى قيادة مفتعلة ومشكلة لأهداف مؤقتة، ومع مرور الوقت بدأت الحكومة الانتقالية تعاني بقوة ليس من قوة البلاشفة، ولكن من غضب الشعب الذي يحركه البلاشفة، خاصة بعد إعلان تنظيم اللجنة العسكرية الثورية، فأصبح الأمر صراعا بين المركزية (الحكومة والجيش) أو الأطراف (القوى الثورية والتنظيمات العسكرية المصاحبة لها)، وقد لجأ لينين من خلال رجاله الأوفياء من أمثال تروتسكي وستالين ومولوتوف وغيرهم للسيطرة التكتيكية، فكان قرار لينين المغامر الشجاع بالانقضاض على السلطة من خلال السيطرة على مفاتيح الحكم في العاصمة من خلال رجاله وبعض عناصر السوفياتات، تبعه إلقاء البيان الأول في 26 أكتوبر (تشرين الأول) الذي تضمن كل جمله الثورية والأكاذيب الخاصة بالحكومة الانتقالية، وأنه حقيقة الأمر أن لينين حسم الأمر بجسارته الثورية، فعلى حين كانت الحكومة المركزية تتحرك ببطء وارتباك وتكاد تفقد السيطرة على تعبئة قواتها المسلحة بسبب المناقشات السفسطائية لساسة وبرلمانيين ضعاف غير مدركين خطورة الأمر، فإن لينين أحكم السيطرة على المنشآت الحيوية في البلاد، فأصيبت الحكومة بحالة شلل سياسي في الوقت الذي كان يمكن لها أن تنهي هذا التمرد بسهولة، مؤثرة الاستقالة في الساعة الثانية ظهرا تاركة مقاليد أمور الدولة في أيدي لينين ورجاله بلا أي مقاومة أولية، ولكن الثورة الناجحة تأتي على جثمان حكومة فاشلة أو عاجزة.
حقيقة الأمر أن نجاح لينين لم يكن معناه أن البلاد دانت له بلا مقاومة، فالمسألة أصبحت مسألة وقت حتى يمكن للقوى الأخرى التحرك لمواجهة «البلاشفة» واجتذاب السلطة، فكان هناك التيار الليبرالي - وضمنه المناشفة واليساريين والملكيين - الذي أصبح يستعد عسكريا لاستعادة السلطة، ولكن نجاح لينين فتح له المجال أمام تجهيز «الجيش الأحمر» لمواجهة هذا الخطر تحت قيادة العبقري الثوري تروتسكي الذي استطاع أن يتسيد الحرب ويهزم كل القوى المختلفة التي واجهته بمنتهى القوة والحزم، فحتى التدخل الخارجي من قبل دول أخرى لم يحسم الأمر لصالح القوى الداخلية المعادية للبلاشفة، وقد ساعد على انتصار لينين تشييده لتنظيم سري قوي هو «التشيكا» أشبه بالمخابرات التي كانت تعمل على تصفية معارضيه، والنتيجة كانت مقتل الملايين وعشرات الملايين من المشردين، إلى الحد الذي تروي معه بعض المصادر التاريخية أن إجمالي ضحايا الثورة الروسية يفوق ضحايا الحرب العالمية الأولى من كل الأطراف المشاركة فيها، فهكذا تدفع الشعوب أثمان آيديولوجيات الطبقات الحاكمة أو المتطلعة للسلطة! لقد دار شريط الذكريات هذا وأنا أنظر إلى جثمان هذا العبقري السياسي المحنط في مبنى أمام الكرملين في يوم شديد البرودة يصطف فيه المتشوقون لرؤيته من الفضوليين والمهتمين بالتاريخ ومحبي السياسة، لكل أسبابه، فهذا العبقري فاز في حرب داخلية رغم أنه كان أضعف أطرافها، ولكن العبقرية المغلفة بالحنكة والمتمتعة بالعنف والمغطاة بروح المرونة غالبا ما تكون خليطا تصعب مواجهته من قبل خصومه في معارك ما بعد الثورة. قد شعرت بهذه الخلطة رغم مفارقة الروح لهذا الجسد المحنط وكأنه يحدثني بنظراته بعدما شعر بما يدور بداخلي من تضارب بين احترامي لقدراته وعبقريته السياسية والتنظيمية ورفضي الكامل لفكره وأساليبه، بل حتى مبادئ ثورته، ليلقنني دروسا بجمل تعبر جدار الموت الحقيقي الذي يفصلنا عن التاريخ فيقول لي حكما ثلاثا هي:
أولا: إن إزالة النظام المتهالك ليس مصدر قوة لك، بل قد يصبح عبئا إذا ما لم تدرك ما تريد وكيف تصل إليه.. فأخطر ما أصاب خصومي بعد الثورة هو شعورهم بأنهم عمالقة وهم في حقيقة الأمر أقزام.
ثانيا: ما أغرب من راغب في قيادة دولة بعد ثورة شعبها إن لم يكن مدركا للقيادة وأهدافها، وما أجهل السياسيين ومدعي السياسة بهذه الحقيقة، فيرونها الفرصة وهي التهلكة.
ثالثا: إن الشخصيات المتهالكة والقيادات القزمة وأنصاف الساسة والمتطلعين لأدوار لا تتناسب وأحجامهم أو شعبيتهم من الذين تفرزهم الثورات من الجاهلين بتاريخ شعوبهم، لا مكان لهم وستجري تصفيتهم من خلال النسق الثاني أو الثالث أو الرابع لأي ثورة.
* كاتب مصري



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.