«رجل سلطة بالإذاعة»... يوم جمع البصري بين وزارتي الداخلية والإعلام

كان يقلد الملك الحسن الثاني في اللباس ولعب الغولف

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب
TT

«رجل سلطة بالإذاعة»... يوم جمع البصري بين وزارتي الداخلية والإعلام

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب

يرى عبد الرحمن عشور، مدير الإذاعة المغربية سابقاً، العامل (المحافظ) المكلف بالتواصل بوزارة الداخلية، أن إدريس البصري، وزير الداخلية الأسبق، كان يقلد الملك الراحل الحسن الثاني في ممارسة رياضة الغولف، سواء في اللباس أو قطع مسالك الغولف، أو في طريقة استدعاء بعض المسؤولين كل صباح لنادي الغولف الملكي، ليعطيهم أوامر أو تعليمات بخصوص القضايا التي كلفهم بها.
جاء ذلك في كتاب صدر له أخيراً، بعنوان «رجل سلطة بالإذاعة»، وأثار اهتمام الأوساط السياسية والإعلامية لكونه يرصد فترة من تاريخ المغرب، تولى فيها الراحل البصري الجمع بين وزارتي الإعلام والداخلية، في أول سابقة من نوعها.
وعشور، كما يقول الإعلامي محمد عبد الرحمن برادة في تقديمه للكتاب، هو أيضاً رجل سلطة تم استقدامه من وزارة الداخلية للإشراف على تسيير الإذاعة بين عامي 1986 و2003.
وفي نظر برادة، فإن الكتاب سيرة ذاتية بصيغة توثيقية لمرحلة مهمة في تاريخ الإذاعة المغربية، وإصدار رائد في مجاله، إذ لأول مرة يقوم أحد رجالات ما يسمى في الأدبيات السياسية بالمغرب «عهد الداخلية والإعلام» بكتابة وتدوين مذكراته الخاصة بتجربته العملية كمسؤول.
ومما كشفه مؤلف الكتاب أن «الوزير القوي» البصري كان يحلو له أن يدعو للاجتماع بالمسؤولين في قطاع الإعلام، في أي لحظة، وعلى عجل، إما في وزارة الداخلية أو بإقامته الخاصة بطريق زعير، أو بمسالك الغولف الملكي دار السلام بالرباط.
وفي كثير من الأحيان كانت اجتماعات البصري مع المسؤولين عن الإعلام تنتقل إلى نادي ملعب الغولف، حيث كان يمارس رياضته المفضلة، ابتداء من الساعة الثامنة صباحاً «وهي عقوبة بالنسبة لمدير الإذاعة الذي يضطر في أغلب الأحيان لمتابعة برامج الإذاعة إلى ساعة متأخرة من الليل».
ووفق ما يرويه المؤلف، فإنه بالإضافة إلى المجموعة الإعلامية، هناك شخصيات تنتمي لرجال السياسة والأعمال كانت تقتفي خطى البصري على العشب، بمسالك الملعب الشاسع، وهو يسير خلف الكرة الصغيرة، التي يوجه إليها ضربات قوية بعصا الغولف، ويواصل في الوقت نفسه حديثه مع أحد المسؤولين، قبل أن ينادي على الشخصية الموالية.
ويتضمن الكتاب حقائق وأحداثاً ووقائع سياسية ومواقف مثيرة، عايشها الكاتب عن كثب من خلال موقعه كمدير للإذاعة، خصوصاً من خلال علاقته برئيسه المباشر إدريس البصري، الرجل القوي آنذاك، الذي «رقي إلى منصب وزير دولة (في المغرب أكثر درجة من وزير)، بل أصبح البعض يعتبره جزءاً من (المؤسسات المقدسة)، حيث أكد بيان للديوان الملكي، بتاريخ 11 يناير (كانون الثاني) 1995، أن استبعاده من المشاركة في حكومة التناوب، التي كان سيرأسها أمين عام حزب الاستقلال آنذاك محمد بوستة، قد يعيق السير العادي لمؤسسات المملكة».
ويبدو من خلال قراءة الكتاب أن التعامل مع البصري لم يكن سهلاً، بل إنه أصبح شبه مستحيل خلال السنتين الأخيرتين من فترة تدبيره لقطاع الإعلام، أي سنتي 1994 و1995، ذلك أن «الرجل لم يعد يتقبل أن تناقش أوامره، وأصبح جافاً في تعامله، غير مبال بشعور مرؤوسيه ومساعديه، بل صار مثل لغم قابل للانفجار في أي وقت»، على حد تعبير عشور.
ومن أشهر غضبات البصري على مسؤولي الإذاعة والتلفزيون، كما حكاها عشور، أنه في أحد الاجتماعات مع أطر وزارة الإعلام، كان في حالة من الغضب وصلت حد «الهستيريا»، فراح «يرعد ويزبد، ويتلفظ بكلمات نابية، تخرج من فمه كزخات رشاش من العيار الثقيل، ونحن أمامه متصلبون كأننا أمام كتيبة إعدام».
وكان سبب قصة غضبة البصري عدم بث التلفزيون في أحد الأيام من سنة 1986 لخبر استقبال الملك الحسن الثاني، بأغادير (جنوب المغرب)، لوفد يمثل الجالية اليهودية، ولذلك تم استدعاء 3 مسؤولين عن الإذاعة والتلفزيون إلى مكتب الوزير المذكور.
واستناداً إلى رواية المؤلف، فقد خاطب البصري المسؤولين عن أجهزة الإعلام العمومي، قائلاً: «لقد أمضيت ليلة بيضاء، جلالة الملك أنبني ووبخني على التقصير الذي حصل».
ولم يتوقف الأمر عند هذا الاجتماع، فقد تلاه اجتماع ثان مع المسؤولين أنفسهم في اليوم الموالي، بمكتب الوزير الذي عاد إلى ترديد ما تتضمنه قواميس السب والشتم من عبارات نابية.
اللافت للانتباه أن البصري دعا مدير التلفزيون لمرافقته إلى مسالك ملعب الغولف للمثول بين يدي الملك الحسن الثاني. وحسب ما علمه مؤلف الكتاب، فقد «مرت الأمور في ظروف جد عادية، إذ اكتفى الملك بمعاتبة المدير بأسلوب أبوي، لا علاقة له بأسلوب البصري».
ومما يرويه الكتاب أن الملك الراحل الحسن الثاني لاحظ بعد إعادة بث إحدى خطبه، في إحدى المناسبات الوطنية، عبر أمواج الإذاعة، أن آية قرآنية كان قد قرأها خطأ تم حذفها في التوضيب، فغضب للأمر، وأمر الوزير البصري بإعادة بث الخطاب كما تم تسجيله، أي من دون توضيب، مؤكداً أنه بشر، وأن الله وحده منزه عن الخطأ.
وذات مرة، في أحد الأيام الرمضانية من سنة 1988، كان العاهل المغربي الراحل يتابع النقل الإذاعي المباشر لأشواط مباراة في كرة القدم بالخرطوم، يخوضها فريق الجيش الملكي، برسم إقصائيات كأس أفريقيا للأندية البطلة، ففوجئ بانقطاع البث، وربط الاتصال بالقصر الملكي من أجل تغطية الدرس الديني الحسني، الذي كان سيلقى في حضرته، وغضب لذلك، وأنب المدير العام للإذاعة والتلفزيون على اتخاذ مثل هذا الإجراء.
ومن أكثر الفصول إثارة حديث الكتاب عن الساعات الأخيرة في حياة الملك الحسن الثاني، بعد أن سرت إشاعة وفاته، التي كانت قد بدأت تسري كالنار في الهشيم، وما رافقها من أجواء الترقب والحذر في الإذاعة، في انتظار اتضاح الحقيقة، وصدور بيان رسمي في الموضوع.
وكان بعض الموظفين يتساءلون عن عدم بث الخبر، فالموت قضاء وقدر، لكن مدير الإذاعة عشور، كما يقول في الكتاب، نظر إليهم «بحس وعين رجل الداخلية»، منبهاً إياهم إلى أن هناك ترتيبات أمنية ودستورية يفرضها هذا الوضع، ومن الضروري اتخاذها قبل الإعلان الرسمي عن وفاة ملك البلاد، «فالحدث يتطلب التصرف بحكمة وتبصر وصرامة».



«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
TT

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة من خلال حديث مطول أدلى به لمحرر المذكرات ومؤلف الكتاب الصحافي سيد محمود سلام. ورغم أن حديث الذكريات هنا يشمل محطات مختلفة، فإن الكتاب يركز بشكل خاص على مرحلة النشأة والطفولة وما اكتنفها من اكتشاف الفنان في سنوات التكوين الأولى لعالم الأدب وخصوصية مدينته بورسعيد، مسقط رأسه.

ويشير محمود ياسين إلى أن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر، وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها. ويرى أنه كان طفلاً محظوظاً لأنه نشأ في أسرة تعد الثقافة جزءاً مهماً من تكوين أبنائها، وكان ترتيبه السادس بين أشقائه العشرة، وقد تأثر في طفولته بشقيقه الأكبر فاروق: «إذ فتح عيني على شيء اسمه الكتاب بمعناه الواسع. كان يتسلم الكتب ويذهب إلى المدرسة، لكن فاروق كانت له في البيت مكتبة خاصة عبارة عن خزانة كبيرة في الحائط صُممت على الطراز الفرنسي تضع فيها الوالدة الفخار وقطع الخزف الصيني وكؤوس الزجاج وأشياءها الخاصة، فصنع منها مكتبة بعرض الحائط بعد أن أقنعها بذلك حيث كانوا يقطنون في فيلا من دورين تابعة لشركة قناة السويس التي كان يعمل بها والده، وعاشوا فيها ما يزيد على 25 عاماً».

ظل فاروق يشتري الكتب باستمرار مثل سلسلة «اقرأ» التي كانت تصدر ملخصات لعيون الأدب العربي والعالمي والسير الذاتية مثل السيرة الذاتية لطه حسين ودوستويفسكي ومكسيم غوركي وأنطون تشيخوف، فضلاً عن عيون الأدب الفرنسي مثل مؤلفات غي دي موباسان. كانت السلسلة تصدر كتيبات لكل كتّاب ومفكّري العالم، فالتراث الإنساني كله أنتجته سلسلة «اقرأ»، وقد جمعه فاروق في مكتبته وأيضاً سلسلة أخرى بعنوان «كتابي» جمعها أيضاً في المكتبة.

قرأ محمود ياسين في صغره معظم دواوين الشعراء العرب وعبقريات العقاد في مكتبة شقيقه، فضلاً عن كتب سلسلة «الكتاب الذهبي» التي تعرّف فيها على محمد عبد الحليم عبد الله ونجيب محفوظ ويوسف إدريس ويوسف السباعي. كما كان الشقيق الأكبر فاروق شغوفاً باقتناء الكتب والمطبوعات الثقافية مثل مجلة «الهلال» حتى إنه يشتري الكتب بمصروفه الشخصي المحدود. ولم يكن الطفل محمود يشغل نفسه بشراء الكتب، لكن يده بدأت تمتد إلى مكتبة شقيقه، فغضب بشدة من استعارته كتبه؛ وذلك خوفاً من ألا تلقى الاحترام ذاته الذي تلقاه عنده تلك المكتبة التي كوّنها واشتراها من مصروفه. لكن عندما اطمأن لشقيقه، بدأ يشجعه مع بعض النصائح خوفاً على هذه الكتب. وبدأ الشقيق الأصغر في متابعة المسرحيات المترجمة بشكل خاص، لا سيما أعمال وليام شكسبير وهو ما أثار دهشة وإعجاب فاروق حين رأى شقيقه لا يفوّت نصاً للكاتب العالمي، سواء في سلسلة «كتابي» أو نظيرتها «اقرأ».

ويشير محمود ياسين إلى أن أبناء بورسعيد يتشابهون في ملامحهم وتكوينهم؛ لأن هذه المدينة تترك بصماتها على أبنائها، فهي بلد مفتوح على الدنيا ويُطل على أوروبا، فهناك شاطئ بحر وفي الأفق عالم آخر يجب أن تحلم به. إنها مدينة وسط جزر من المياه، فتأثر بهذه الخصوصية الجغرافية وما أكسبته لسكانها من حس حضاري لافت.

يقول محمود ياسين في مذكراته إن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها.

امتزجت شخصية محمود ياسين بالبحر المتوسط الذي تطل عليه مدينته، فهو مثله تراه شديد الهدوء تارة، شديد الصخب تارة أخرى. يقول: «إن أخلاقي كأخلاق البحر وطبيعتي تشبهه، فأنا في شهري سبتمبر وأكتوبر أكون هادئاً هدوءاً غريباً وعندما تنظر إليّ تشاهد ما في أعماقي، وإذا تحدثت إليّ يمكنك أن تكتشف كل شيء. أما الشخص الصاخب العصبي فهو أيضاً أنا ولكن في شهر يناير، وكذلك البحر بـ(نواته) وأمواجه المتلاطمة. لا أحب شهر يناير، قد يكون لأنه بداية عام لا أعلم ما يخبئه، وحين راقبت نفسي وجدت أنني في مواسم أكون هادئاً وأخرى أكون صاخباً وهذا هو حال البحر».

كانت حياة الصبي محمود ياسين قبل التمثيل غير مستقرة، كأنه يبحث عن شيء يسعده. كان يراقب شقيقه فاروق، الممثل العظيم بقصور الثقافة، وتعلم منه كيف يحب الريحاني. يشاهده فيشعر بأنه يمتلك عالم التمثيل بين عينيه، نظراته، تأمله، صوته حتى وهو يغني بصوتٍ أجش تستسيغ غناءه من هذه الحالة التي لاحظها وتأثر بها. أحبَّ التمثيل وشعر بأنه الشيء الذي يبحث عنه، إنه عالمه المفقود، به ستكتمل حياته.

اللافت أن التمثيل منذ البدايات الأولى بالنسبة لمحمود ياسين «حالة»، إنه بمثابة «عفريت» يتجسد في الشخص المحب له، فكان يسعد بالمشاهد التي يمثلها في نادٍ يسمى «نادي المريخ» ببورسعيد وهو طفل. وكوّن هو وزملاؤه فرقة مسرحية، مع عباس أحمد الذي عُرف بأشهر مخرجي الثقافة الجماهيرية، وله باع طويل وأثر في حياته كصديق ورفيق رحلة كفاح، هو والسيد طليب، وكانا أقرب صديقين له، سواء على مستوى هواية التمثيل أو الحياة.

ويروي كيف كان يقدم مسرحية على خشبة مسرح صنعوه بأنفسهم من مناضد وكراسي متراصة، وفي قاعة تسع 100 شخص، فلمح والده، وكانت المرة الأولى التي يمثل فيها ويشاهده أبوه، وإذا به يبتسم له ابتسامة هادئة، اعتبرها أول تصريح رسمي منه بموافقته على دخوله هذا المجال. ويذكر أيضاً أن من بين العمال الذين تأثر بهم محمود عزمي، مهندس الديكور العبقري، الذي لم يحصل على أي شهادات دراسية ولم يلتحق بالتعليم، لكنه كان يهوى الرسم ويصمّم ديكورات أي نصوص سواء عربية أو عالمية ببراعة مدهشة.