تُذكر ولاية لويزيانا، فتُذكر نيو أورلينز ولافاييت وباتون روج. ثلاثة من أشهر المدن التي يمكن للسائح زيارتها في يوم واحد، لأن المسافة بينها لا تزيد عن ساعة بالسيارة.
لكل واحدة من هذه المدن نكهتها، وإن كان القاسم المشترك بينها هو التاريخ الفرنسي الذي طبعها ولا يزال. ويمكن القول إن باتون روج، وهي وجهتنا هذا الأسبوع، «أميركية فرنسية» منذ زمن طويل، أي منذ أن كانت محتلة من قبل فرنسا، التي كانت تحلم آنذاك بتأسيس «الولايات الفرنسية الأميركية المتحدة». وحتى بعد مرور 30 عاماً تقريباً على استقلال الولايات المتحدة، بقيت ولاية لويزيانا مستعمرة فرنسية إلى أن اشترتها الحكومة الأميركية بمبلغ 12 مليون دولار.
اليوم، بعد مرور 200 عام تقريباً على هذا التاريخ، لا تزال الثقافة الفرنسية مزدهرة فيها، خصوصاً في العاصمة، باتون روج. فأينما وجهت أنظارك فيها تستنشق عبقها الفرنسي، سواء تعلق الأمر بالمعمار، أو بالمطاعم التي لا ينافسها قوةً وعدداً سوى المتاحف.
ففي جامعة «لويزيانا ستايت» وحدها توجد 8 متاحف، إضافة إلى 4 متاحف أخرى في مدينة باتون روج تديرها الجامعة، نذكر منها متحف «التاريخ الطبيعي»، الذي يتكون هو نفسه من 4 متاحف صغيرة، من ضمنها متحف «حشرات ولاية لويزيانا» الذي يوجد فيه ما لا يقل عن مليون وربع مليون حشرة من أنواع مختلفة.
ويحتضن متحف «التاريخ الطبيعي» في ولاية لويزيانا مجموعة كبيرة من الخرائط والصور والقطع الأثرية التي تؤرخ لمحاولات الفرنسيين «فرنَسة» أميركا الشمالية منذ عام 1603، أي منذ وصول أول فوج منهم إلى العالم الجديد. ومع الوقت احتدمت المنافسة بين الإمبراطوريتين الفرنسية والبريطانية للحصول على أكبر قدر من الأراضي. الفرنسيون توجهوا جنوباً نحو نهر المسيسبي (الآن، ولاية منيسوتا) معتقدين أنه يتجه غرباً، وأنه سيقودهم إلى ساحل المحيط الهادي. فقد كانوا يرغبون في الوصول إلى الصين، أسوة ببريطانيا التي وصلت إلى الهند، لكنهم اكتشفوا أن نهر المسيسبي يتجه جنوباً، فتبعوه حتى مصبه في خليج المكسيك.
وهكذا وصلت القوات الفرنسية إلى الخليج المكسيكي في عام 1682. وولدت المنطقة التي أطلقوا عليها اسم «لويزيانا»، تيمناً باسم الإمبراطور الفرنسي لويس الرابع عشر. وكانت تمتد من ولاية لويزيانا الحالية شمالاً لتغطى ولايات الغرب الوسط.
وصارت عاصمتها، باتون روج، ومعناها بالفرنسية «العمود الأحمر»، إشارة إلى عمود أحمر وضعه الفرنسيون كأول الحدود بين منطقتي النفوذ الفرنسي والأميركي.
وبالفعل ظلت الولايات المتحدة منقسمة إلى ثلاث مناطق نفوذ لأكثر من 200 عام، هي إسبانيا في الغرب والجنوب الغربي، وبريطانيا في الشرق والشمال الشرقي، ولويزيانا الفرنسية في الجنوب والوسط. يزيد نفوذها ويتراجع حسب الأحوال السياسية في أوروبا. مع تقلص قوة فرنسا في أوروبا، تقلصت أيضاً قوتها في أميركا الشمالية. ففي عام 1803 اشترت الولايات المتحدة ما تبقى من لويزيانا، لكن أثرها فيها لا يزال واضحاً في الكثير من المعالم والتقاليد.
في عام 1968، مثلاً، تأسس مجلس التطوير الفرنسي في لويزيانا (كودوفيل). كان ذلك بعد سنوات قليلة من فوز الرئيس جون كنيدي في الانتخابات ودخوله البيت الأبيض. كانت لزوجته جاكلين كنيدي جذور فرنسية، الأمر الذي كان له تأثيره. اليوم، يتكلم 10 في المائة من سكان المنطقة اللغة الفرنسية، كما تنتمي نسبة 25 في المائة منهم إلى عائلات فرنسية. ويستشعر السائح هذا العبق الفرنسي حتى قبل الوصول إليها. فعلى الطريق «رقم 10»، الذي يربط ولاية فلوريدا بولاية لويزيانا، توجد لافتة ضخمة ترحب بزوار لويزيانا باللغتين الإنجليزية والفرنسية.
من أهم المهرجانات التي تشهدها المدينة، ما يعرف بـ«ماردي غرا». عبارة فرنسية معناها «الثلاثاء الدسم»، بدأت كتقليد قديم يرمز إلى كثرة الأكل في ذلك اليوم من نهاية فصل الشتاء، استعداداً لصيام 40 يوماً. بمرور الزمن، لم يعد التركيز على الصيام بقدر ما انصب على الطعام. الآن لا تذكر باتون روج من دون ذكر مهرجان «ماردي غرا»، وإن لا يزال مهرجان «نيو أوليانز» في شارع بوربون الأكبر حجماً وشهرة على المستوى العالمي.
في التاريخ الحديث، يلاحظ أن الثقافة الفلبينية زحفت على المدينة، وباتت تنافس الإرث الفرنسي فيها، إذ توجد بها حالياً جالية كبيرة من المهاجرين الفيتناميين، وكأن التاريخ يُعيد نفسه. فقبل 150 عاماً، غزا الفرنسيون فيتنام، واستعمروها. وقبل 70 عاماً هزمهم الفيتناميون وأخرجوهم، ليحل محلهم الأميركيون. وقبل 50 عاماً، هزم الفيتناميون القوات الأميركية، الأمر الذي أدى إلى هجرة عدد كبير من الفيتناميين المتحالفين مع الولايات المتحدة الأميركية إلى المنطقة. بعضهم اختار الهجرة طواعية بسبب الثقافة الفرنسية التي لا تزال حاضرة في فيتنام والبعض مضطراً. مع الوقت، وضعت هذه الجالية بصمتها من خلال المطاعم تحديداً، التي تتكاثر بشكل لافت، مثل مطعم «لا أوبيرج» الواقع جنوب جامعة «لويزيانا ستيت»، الذي يقدم أصنافاً عديدة من الطعام الفيتنامي، على رأسها شوربة «فو».
هناك مطاعم فيتنامية أخرى نذكر منها «سايغون للأسماك» و«سايغون الصغرى» و«فو» و«فيتنام». أغلبها يعتمد على المنتجات البحرية الطازجة، وأصبحت مزيجاً من البهارات والأساليب الخاصة بالمنطقة.
باتون روج... أميركية تتأرجح بين الحلم الفرنسي والثقل الفيتنامي

باتون روج... أميركية تتأرجح بين الحلم الفرنسي والثقل الفيتنامي

لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة