دشن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون اليوم الأول من إقامته في المقر الصيفي لرؤساء الجمهورية المسمى «حصن بريغانسون» المطل على البحر الأبيض المتوسط باستقبال رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي لجولة محادثات مطولة (أكثر من ساعتين) كرست للبحث في الصعوبات التي تعترض توصل بريطانيا والاتحاد الأوروبي لاتفاق بشأن «البريكست» (خروج بريطانيا منه). وما يدل على حراجة الموقف أن ماي هي التي طلبت اللقاء ومن أجله قطعت إجازتها التي كانت تمضيها في إيطاليا، مستبقة بذلك معاودة المفاوضات رسميا بين ممثل الاتحاد ميشال بارنيه ووزير البريكست الجديد دومينيك راب في الثالث عشر من الشهر الجاري. لكن الاستحقاق الأهم سيكون القمة الأوروبية التي سوف تعقد في مدينة سالزبورغ في 20 سبتمبر (أيلول) القادم، والتي سيتبن عندها ما إذا كان الطرفان سيكونان قادرين على إنجاز المفاوضات أم أنهما سيتجهان إلى ما يسمى «بريكست قاس» أي من غير اتفاق، وهو ما حذر منه وزير الخارجية البريطاني جيريمي هانت أول من أمس في باريس التي زارها للقاء نظيره جان إبف لو دريان. ووفق النصوص الأوروبية الناظمة، فإن خروج بريطانيا سيصبح فعليا ليل 29 - 30 مارس (آذار) القادم. وترى أوساط المفوضية الأوروبية في بروكسل أنه يتعين على الطرفين الانتهاء من الترتيبات نهاية أكتوبر (تشرين الأول) - بداية نوفمبر (تشرين الثاني) على أبعد تقدير لإعطاء الوقت الكافي للبرلمانات للتصديق على الاتفاق الموفود.
ثمة قناعة فرنسية أن ماي جاءت إلى فرنسا بحثا عن «خشبة خلاص». ويرى مراقبون في العاصمة الفرنسية أن المسؤولة البريطانية التي تعاني من الضعف السياسي داخل البرلمان وداخل حزب المحافظين، تراهن على قدرتها التأثير على موقف المفاوض الأوروبي من خلال التواصل المباشر مع القادة الأوروبيين. ويهمها بالدرجة الأولى الرئيس الفرنسي والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل. بيد أن دوائر قصر الإليزيه استبقت وصولها لتسريب خبر مؤداه أن الرئيس ماكرون «لا يريد أن يحل محل المفاوض الأوروبي» كما أن باريس «حريصة على وحدة الـ27 الأوروبيين». لكن رغم ذلك، تعتبر هذه الأوساط أن اللقاء «مفيد» وسيعطي لماي الفرصة لعرض «الكتاب الأبيض»، أي الخطة التي أقرتها الحكومة البريطانية ولرؤية بريطانيا لمستقبل علاقاتها مع الاتحاد. وترافقت القمة مع تصريحات أمس لمارك كارني، محافظ المصرف المركزي البريطاني نبه فيها من أن هناك مخاطر «غير مريحة» لخروج بريطانيا للاتحاد الأوروبي دون أي اتفاق. ورغم أن هذا السيناريو، وفق كارني، «غير المرغوب فيه إلى حد كبير» أمر غير مرجح، إلا أنه «لا يزال ممكناً، ويجب على بريطانيا والاتحاد الأوروبي بذل كل ما في وسعهما لتجنب ذلك». وقرع كارني ناقوس الخطر وقال في مقابلة مع هيئة الإذاعة البريطانية إن «احتمال عدم التوصل لاتفاق مرتفع بشكل غير مريح في هذه المرحلة». وذهب وزير الخارجية البريطاني في الاتجاه عينه، معبرا عن «قلقه» من احتمال الفشل في الوصول إلى اتفاق. وقبل زيارته إلى باريس، طالب هانت باريس وبرلين بإرسال «إشارة قوية» إلى المفوضية للخروج من حلقة «البريكست القاسي»، معتبرا أن العجز عن التوافق سيمثل «خطأ جيو - استراتيجيا كبيرا». ومن مؤشرات القلق البريطاني تراجع الجنيه الإسترليني إلى أدنى مستوى له في 11 يوما مقابل الدولار.
حقيقة الأمر أن لندن تقوم بحملة دبلوماسية واسعة، ليس لشرح موقفها فقط، بل للضغط على الأوروبيين ولإفهامهم، كما تقول مصادر فرنسية، أنه إذا كانت بريطانيا ستخسر الكثير من غير اتفاق، فإن الأوروبيين سيكونون أيضا من الخاسرين وبالتالي يتعين على الطرفين تقديم تنازلات بالنسبة للمسائل التي ما زالت عالقة. وفي مقال نشر في صحيفة «لو فيغارو» الفرنسية يوم الخميس الماضي، أعلن بارنيه أن الطرفين متفقان على 80 في المائة من المسائل. لكن تبقى قضايا شائكة يتعين إيجاد مخارج لها ليصبح التوصل إلى اتفاق ممكنا. وكان الأخير قد أعلن بداية يوليو (تموز)، أي بعد صدور «الكتاب الأبيض» عن تحفظات كبيرة إزاءه. والرأي السائد في باريس أن ما يستشف من موقف الحكومة البريطانية أنها ما زالت تسعى لتحصيل مكاسب أوروبية رغم انسحابها من الاتحاد وأنها «تختار» ما يلائم مصالحها وتترك الباقي.
تمثل مسألة «الحدود الآيرلندية» العقبة بين الطرفين. وحتى اليوم لم يتوصل الطرفان لإيجاد حل مرض بشأنها بسبب المواقف المتناقضة. وفيما يريد الاتحاد أن تضم آيرلندا الشمالية إلى اتحاد جمركي مع الاتحاد، فإن لندن تريده مع كل بريطانيا، وهو ما ترفضه بروكسل. وموقف الأخيرة مرده إلى اعتبار أن الدخول مع بريطانيا بعد البريكست في اتحاد جمركي لا يشمل سوى تبادل البضائع ينسف مبدأ «الحريات الأربع» (الأشخاص والأموال والبضائع والخدمات) التي يتمسك بها الاتحاد. وهذا الموقف يجمع عليه الـ27 بلدا أوروبيا. إضافة إلى آيرلندا الشمالية، يختلف الطرفان على موضوع الجهة الناظمة للعلاقات بينهما وتحديدا دور محكمة العدل الأوروبية التي ترفض لندن أن تكون الجهة الفاصلة في النزاعات باعتبار أن أحد مبررات البريكست رغبة لندن في استعادة سيادتها القضائية. يضاف إلى ذلك كله المسائل المعقدة المرتبطة بموضوع التجارة بين الطرفين وشروطها، وهي كلها مسائل تلزم باريس إزاءها مواقف متشددة رغم رغبتها في التوصل إلى اتفاق مع بريطانيا يحفظ الأساسي من العلاقات بين الطرفين.
- حاكم بنك إنجلترا يحذر من عدم التوصل إلى اتفاق حول {الطلاق} مع أوروبا
> حذر حاكم المصرف المركزي البريطاني مارك كارني الجمعة من «مخاطر عالية» و«غير مرغوب بها» بعدم التوصل إلى اتفاق حول بريكست لكن هذا الاحتمال لا يزال «مستبعدا» بالمقارنة مع سيناريوهات أخرى.
وصرح كارني لإذاعة «بي بي سي» بأن «احتمال عدم التوصل إلى اتفاق عال بشكل غير مريح في هذه المرحلة». وتابع كارني الذي سيترك منصبه العام المقبل بعد خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي أن عدم التوصل إلى اتفاق «احتمال مستبعد نسبيا لكنه لا يزال واردا».
ومضى يقول إن مفاوضات بريكست بدأت «تدخل مرحلة حاسمة». وتابع كارني بأن النظام المالي في بريطانيا سيكون قادرا في كل الأحوال على «تحمل الصدمة»، إذ زادت المصارف من رؤوس أموالها وسيولتها كما أعدت خططا لحالات الطوارئ.
وأضاف أن عدم التوصل إلى اتفاق حول بريكست معناه «خلل في التجارة كما نعرفها وبالتالي بلبلة إلى حد ما في النشاط الاقتصادي وبالتالي ارتفاع الأسعار لفترة ما».