السويداء... اختبار بالدم لـ «الحكم الذاتي»

أكثر من 50 ألف مطلوب للخدمة العسكرية يرفضون شروط النظام السوري

السويداء... اختبار بالدم لـ «الحكم الذاتي»
TT

السويداء... اختبار بالدم لـ «الحكم الذاتي»

السويداء... اختبار بالدم لـ «الحكم الذاتي»

دخلت محافظة السويداء في جنوب سوريا ما يمكن وصفه بـ«مرحلة الحسم» و«تقرير المصير»، بين أن تعود إلى سلطة النظام السوري، بمضمونها الأمني والعسكري إلى جانب الوجه الإداري، وبين أن تحتفظ بتجربة «الحكم الذاتي» التي بدأت باختبارها قبل 7 سنوات، وألزمتها الدفاع الذاتي عن النفس، وأبعدت المطلوبين للخدمة العسكرية الإجبارية عن الالتحاق بصفوف قوات النظام.
هذه القضية وضعت الطرف الروسي في موقع المفاوض للبحث عن مخرج يرضي النظام المصرّ على اقتياد أكثر من 50 ألف مطلوب للخدمة العسكرية، والعودة الفعلية والكاملة إلى السويداء، وبين أهالي يرفضون هذا التوجه، بحسب ما يقول معارضون للنظام في المنطقة.
وفي ظل هذا الجدل، غطت التفجيرات الإرهابية والهجمات الانتحارية التي استهدفت المنطقة وأسفرت عن مقتل أكثر من 250 شخصاً، على كل النقاش السابق، رغم أن معارضين اعتبروا أن الهجوم الأخير لتنظيم داعش، يتحمل مسؤوليته النظام. إذ أكد «الائتلاف الوطني السوري» المعارض في تصريح صحافي له «مسؤولية قوات نظام الأسد تجاه تمكّن تنظيم داعش من تنفيذ هذه العمليات الإجرامية، وذلك بالنظر إلى تمكُن المهاجمين من قطع مسافات طويلة، وتجاوز حواجز عدة، والدخول إلى المدينة لارتكاب جريمتهم». وأشار الائتلاف إلى «الدور الأصلي للنظام في إنشاء ودعم تنظيم داعش الإرهابي وتركه يرتكب جرائمه»، مؤكدا رفضه التمييز بين إرهاب نظام الأسد وإرهاب التنظيمات المتطرفة والعنصرية والطائفية، مشددا على «ضرورة محاربة الإرهاب، والعمل على تخليص سوريا منه».

تعد السويداء أكبر المحافظات الثلاث الواقعة في جنوب سوريا، وتمتد شرقا وجنوبا على الحدود مع الأردن، وتسكنها غالبية من الموحّدين الدروز. ولقد حاولت السويداء منذ تفجر الثورة السورية على الحياد، مع أن واحدا من كبار ضباط النظام، هو العميد عصام زهر الدين، يتحدر من محافظة السويداء المعروفة باسم جبل العرب، وقتل العام الماضي إثر استعادة النظام السيطرة على مدينة دير الزور من قبضة «داعش».
والواقع أن السويداء لم تشهد تحركات عسكرية استراتيجية ضد النظام، مع أن المنطقة شهدت عدة مظاهرات وسرعان ما استوعبها النظام. وحاول تحييد السويداء عن آلته العسكرية، عندما كان الوضع مضبوطاً، بموجب تسوية غير معلنة. وأدى التحييد الواقعي عن الأحداث إلى منح المحافظة هامشا لـ«حكم ذاتي» جرى اختباره خلال السنوات الفائتة، وإن ظلت إدارات الدولة الرسمية – أي النظام – موجودة. ويمكن القول: إن المحافظة قلّما شهدت مواجهات مباشرة، ولم تخرج عن سيطرة النظام، الذي يمتلك في أراضيها مطارين عسكريين هما مطار الثّعَلة (غرب) ومطار خِلخِلة (شمال) على الرغم من التوترات التي اتسمت بها مدينة السويداء (المركز الإداري للمحافظة) باستثناء تصفية الضابط خلدون زين الدين بعد التحاقه ورفاقه بالثورة، ثم عندما أشهرت حركة «مشايخ الكرامة» معارضتها للنظام وأُخمِدت هذه التجربة عبر اغتيال الشيخ أبو فهد وحيد البلعوس قائد «المشايخ» في تفجير استهدف موكبه في العام 2015.
ومن ناحية أخرى، تعقدت علاقة محافظة السويداء في فترات ما بـ«جارتيها» محافظة درعا ومحافظة ريف دمشق إبان احتدام الثورة السورية، رغم أن قنوات اتصال دائمة ظلت موجودة، بهدف إخماد التوتر. ومع أنها حافظت على علاقتها مع إدارات الدولة الرسمية، فإن الشعور بـ«الحكم الذاتي» كان يتزايد عند كل منعطف، وخصوصا المنعطفات العسكرية، حين كان أبناء السويداء يعملون لصدّ الهجمات ويتولّون مهمة الأمن الذاتي.

- تحييد السويداء خلال الأزمة
نزعة الحياد أو التحييد، تحولت الآن إلى عبء، وصارت مادة خلافية أكثر تعقيدا إثر محاولة النظام بسط سيطرته على المحافظة بالقوة، وإعادة حضور الدولة بالمعنيين الأمني (الاستخباراتي) والعسكري إليها، وهو ما يرفضه السكان.
وهكذا، عادت قضية السويداء إلى الضوء، مع استعادة النظام القسم الأكبر من الجنوب السوري إثر «تسويات» مع المعارضة برعاية روسية. ولقد تحدث ناشطون عن أن ميليشيا «حماة الديار» الموالية للنظام، جمعت أسلحة عناصرها الخفيفة والمتوسطة، خلال الأسبوعين الأخيرين، تمهيدا لتسليمها، وذلك في استمرار لمساعي النظام لسحب السلاح منذ منتصف العام 2017.
وفي ظل مقترحات بأن تعمل قوات النظام لضم المطلوبين للخدمة العسكرية أو العسكريين المدنيين الخارجين عن سيطرتها، إلى «الفيلق الخامس»، الذي يُدار من قبل القوات الروسية في سوريا، التقى وفد عسكري روسي الأسبوع الماضي مع بعض شيوخ العقل (الرؤساء المذهبيون للدروز) الثلاثة وكذلك وجهاء من المحافظة، في منزل شيخ العقل يوسف جربوع، للتباحث بمستقبل المحافظة. ونُقل عن الوفد الروسي أنه مُكلّف بنقل اقتراحات زعماء السويداء، حول نزع السلاح و«تسوية أوضاع» الميليشيات المحلية والمطلوبين للخدمة في قوات النظام إلى القيادة الروسية، التي كان يفترض أن تبحثها مع القيادة السورية لإيجاد حلول مناسبة.
تلك المقترحات كانت تتسم بالتعقيد، «إذ تمكن أهالي السويداء خلال الأزمة من إبقاء أنفسهم بعيدين عن تداعيات الحرب، وذلك عبر مواقف متتالية كانوا يسعون خلالها لتوافق مع الأطراف بهدف تحييد المنطقة عن تداعيات الحرب»، وفق الباحث السياسي السوري الدكتور سمير التقي، الذي يشير في حديث إلى «الشرق الأوسط» أنه على الرغم من أن فئات من السويداء كانت موالية للنظام أو انخرطت في بيئات معارضة «كانت للسويداء في المبدأ، هويتها الخاصة، ولا تزال، وهو ما يمنع النظام من العودة إليها بالشكل الذي كان سائدا قبل الأزمة السورية».
ويتابع التقي أن «القضية الرئيسة اليوم أن النظام لا يمكن أن يدخل بشبيحته وأدواته الأمنية والميليشيات الإيرانية أو الفيلق الخامس إلى المنطقة، بسبب موانع الأهالي». ويلفت إلى أن «الاعتقاد الأكبر هو إيجاد حل وسط، وهو حل لن يجده إلا الروس لأن النظام يسعى لتحطيم إرادة المدينة، ولا يوافق على أن تكون هناك إدارة محلية تسمح لأن تنأى السويداء بنفسها عن الشبيحة وأمراء الحرب». ثم يقول: «ثمة ميليشيات تنتشر في درعا قامت بعمليات تعفيش ونهب. نحن مقبلون على حالة حرجة، يحاول الروس تهدئتها، لكن من الصعب إخضاع جبل العرب وإعادة الأمور إلى ما كانت عليه، لذلك لا بد من أن تكون هناك فرص ليتمكن أهالي جبل العرب من الاحتفاظ بهويتهم وبالقدرة على إدارة شؤونهم بعيدا عن التدخلات».

- موانع «الحكم الذاتي»
غير أن المعضلة في ذلك تتمثل في النظام. وهي تجعل المهمة أكثر تعقيدا مما آلت إليه الأمور في الشمال السوري، بالنظر إلى أن أكراد سوريا، استطاعوا تحقيق جزء من الاستقلالية في الإدارات المدنية بدعم أميركي وغربي، وهو الدعم المفقود في السويداء حتى الآن. وحقاً، ليس هناك طرف يقرّر سوى الروس، في ظل موانع يحاول النظام وضعها، وضغوط يمارسها لعودة الأمور إلى ما كانت عليه.
وعمّا إذا كان الروس يستطيعون دعم هذا التوجه، يرى التقي أن الروس يحتاجون إلى مخرج، ذلك لأن النظام «يضع شروطا تعجيزية، ويعتبر أن القرار النهائي للمحافظة يعود له حصرياً». ولا ينفي التقي أن السويداء تسعى إلى تطبيق «إدارة مدنية مستقلة عن بنية النظام وأجهزته الأمنية»، معربا عن قناعته بأن هذه التجربة التي برزت خلال الحرب من خلال إدارة الشؤون مدنيا بنحو مستقل، والدفاع عن المدينة بمعزل عن النظام «هي نقطة مضيئة بتجربة المحافظة». ويستطرد: «الأكراد أخذوا حقهم، لكن أهالي السويداء لا يلقون حتى الآن دعما من قوة دولية تحميهم».

- مطلوبون للخدمة العسكرية
خلال سنوات الأزمة السورية السبع، عزف القسم الأكبر من أهالي السويداء عن الالتحاق بقوات النظام وأجهزته الأمنية أو الميليشيات التابعة له، مع أن الشبان كانوا يعملون على حماية أنفسهم من هجمات كتل تنظيم داعش القريبة منهم، ويواجهون إشكالات مع فصائل عسكرية معارضة، فضلا عن مواجهة النظام وضباطه الأمنيين حين كانوا يتخذون قرارات ويريدون تطبيقها بالقوة، ضد رغبة السكان (منها ما هو متصل بالأراضي والمراعي). ومن ثم، وصل عدد المطلوبين للخدمة الإجبارية بعد 7 سنوات، إلى أكثر من 50 ألف (نحو 53 ألف) شاب مطلوب، كما تقول المعارضة السورية عالية منصور، ويمثل هؤلاء معضلة أمام الالتحاق بالقوات العسكرية النظامية، في حين يضغط النظام لاقتيادهم للخدمة.
وقبل أسابيع قليلة، أعلنت شبكات إعلامية موالية للنظام في السويداء عن إعادة فتح باب «تسوية أوضاع» المتخلّفين عن الخدمتين الاحتياطية والإلزامية والمنشقين الدروز بالنسبة للخدمة العسكرية تحت إشراف «الفيلق الخامس الروسي السوري المشترك». وقال ناشطون إن «آلية التسوية»، تشمل المطلوبين للخدمتين الإلزامية والاحتياطية والمنشقين «الفارين»، وسيمضي الملتحقون خدمتهم في المنطقة الجنوبية، أي محافظات درعا والسويداء والقنيطرة.
التقي يشرح قضية التخلف عن الخدمة العسكرية، بالقول: إن السكان يعتبرون أنفسهم قاموا بحماية المدينة والمحافظة طوال سنوات الأزمة بمعزل عن النظام. بل إن مصادر التسليح لم تكن محصورة بالنظام، بل كان السلاح يأتي من أطراف مختلفة وأدوا دورهم واستطاعوا البقاء خارج الحرب السورية الأهلية كحرب عمياء.
وبالتالي، يرون أنهم حموا أنفسهم في الوقت الذي كان النظام بعيدا عنهم وعن حمايتهم، ولذلك يرفضون الآن العودة إلى المنظومة العسكرية والأمنية، والانخراط في قوات النظام والإبقاء على التجربة نفسها. ويضيف: «من مصلحة الروس إغلاق الموضوع الآن، لكن النظام يصر على عودتهم إلى التجنيد، وهو ما يرونه فصلا جديدا لإعادة دور أجهزة الأمن وفروع المخابرات وأمراء الحرب إلى المنطقة».
ويشرح التقي دور المجندين والتجربة المحلية خلال سنوات الأزمة، قائلا: «بالسلوك العام أبقى أهالي السويداء أنفسهم خارج التورّط بالدم، وبقوا نظيفين من تداعيات الحرب الأهلية. هذا المكسب لا يريدون التضحية به». ويؤكد أنه «يجب الحفاظ على هذه التجربة التي أمنت السلم الأهلي، ولم تدخل عمليا تحت الحكم العسكري وحكم الميليشيات والمحسوبيات».

- تفجيرات إرهابية
في ظل هذه الوقائع، جاءت الهجمات الإرهابية لتنظيم داعش التي استهدفت محافظة السويداء، لتخلط الأوراق، بالنظر إلى أن المعارضة اعتبرت الهجوم نتيجة تراخٍ متعمّد من النظام، ومحاولة لإعادة تعويم نفسه كحامٍ للسويداء. إذا تساءلت عن كيفية دخول الانتحاريين إلى المنطقة، بينما يمتلك النظام القدرة على رصد المنطقة من الجو. وفي حين يدعي النظام أن طائراته الحربية وقواته العسكرية شاركت في صدّ الهجوم وضرب التنظيم وقواعده، يؤكد شهود من أهالي السويداء أنهم تكفلوا وحدهم بصد الهجوم.
«داعش» بدأ هجومه صباح الأربعاء قبل المضي بتفجير 4 انتحاريين أحزمتهم الناسفة في مدينة السويداء تزامنا مع تفجيرات مماثلة استهدفت قرى في ريفها، قبل أن يشن هجوما على 7 قرى ويتمكن من السيطرة لساعات على 3 منها، بحسب «المرصد السوري لحقوق الإنسان».
وتحدثت وكالة الأنباء السورية الرسمية «سانا» عن مقتل «عشرات الشهداء» وإصابة عشرات آخرين بجروح جراء الهجمات. وأوردت أن وحدات الجيش «تصدت لهجوم نفذه إرهابيو تنظيم داعش على منازل المواطنين في قرى المتونة ودوما وتيما والشبكي (الشبكة)» في ريف السويداء الشمالي. وقتل 56 من مقاتلي التنظيم، بينهم 7 انتحاريين، وفق المرصد.
وتمكنت قوات النظام مع مسلحين محليين من صد هجوم الإرهابيين في مدينة السويداء وقرى في ريفيها الشمالي والشرقي، فيما أفادت آخر حصيلة للمرصد عن مقتل 246 شخصا، بينهم 135 مدنياً، غالبيتهم «سكان محليون حملوا السلاح دفاعا عن قراهم». وارتفعت الحصيلة تدريجيا منذ صباح الأربعاء حتى منتصف الليل مع العثور على جثث مزيد من المدنيين قال المرصد إنه «تم إعدامهم داخل منازلهم بالإضافة إلى وفاة مصابين متأثرين بجراحهم». وتبنى تنظيم داعش الأربعاء في بيانين منفصلين الهجمات، وقال إن «جنود الخلافة» نفذوها في مدينة السويداء وريفها. ونشر فجر الخميس على حساباته على تطبيق «تلغرام» صورا تظهر قيام مقاتليه بذبح شخصين على الأقل، قال إنهما من الجيش (النظامي) السوري والموالين له في ريف السويداء.
ويعد هذا الاعتداء الأكبر على المحافظة التي بقيت إلى حد كبير بمنأى عن النزاع منذ اندلاعه في العام 2011. وتسيطر قوات النظام على كامل المحافظة فيما يقتصر تواجد مقاتلي التنظيم على منطقة صحراوية عند أطراف المحافظة الشمالية الشرقية.

- تبادل اتهامات
هجوم «داعش» أظهر أن التنظيم بعد طرده من مناطق واسعة في سوريا والعراق المجاور، ما زال قادرا على التسلل من الجيوب والمناطق الصحراوية التي يتحصن فيها لتنفيذ هجمات دموية. ويُذكر أن قوات النظام – المدعومة من الروس – في مايو (أيار) الماضي تمكنت بعد هجوم واسع من طرد التنظيم من أحياء في جنوب دمشق، وأجلت مئات من مسلحيه من مخيم اليرموك وأحياء مجاورة في جنوب العاصمة إلى البادية السورية الممتدة من وسط سوريا حتى الحدود مع العراق، والتي تتضمن جزءا من أطراف محافظة السويداء. ومنذ إجلاء هؤلاء من جنوب دمشق، فإنهم دأبوا على شن هجمات على نقاط للنظام وحلفائه في البادية والمناطق المحيطة بها، وفق المرصد.
هذا، ونشرت شبكات إعلامية محلية على مواقع التواصل الاجتماعي صورا قالت إنها تعود لمقاتلين من التنظيم قتلوا خلال الاشتباكات الأربعاء قبل الماضي. وأفادت بالعثور على بطاقات هوية بحوزتهم تظهر أنهم من مخيم اليرموك.
هذه الوقائع، زادت من الشكوك حول مسؤولية النظام الأولى بإجلاء مقاتلي التنظيم من جنوب دمشق إلى هذا المكان. وتاليا بالتقاعس عن صدّه، واستدرجت ردودا مقابلة. وبينما علّق رئيس النظام السوري بشار الأسد خلال استقباله مسؤولا روسيا على ما حدث بالقول إن «جريمة اليوم تدل على أن الدول الداعمة للإرهاب تحاول إعادة بث الحياة في التنظيمات الإرهابية لتبقى ورقة بيدهم يستخدمونها لتحقيق مكاسب سياسية»، نددت وزارة الخارجية الروسية بـ«أعمال العنف الجماعية ضد السكان المسالمين» في السويداء.
ولكن، ربما كان أبلغ ردود الفعل، ذلك الذي جاء من النائب السابق وليد جنبلاط رئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» في لبنان الذي قال بداية: «السؤال الذي يطرح نفسه هو كيف وصلت، بهذه السرعة، تلك المجموعات الداعشية إلى السويداء ومحيطها، وقامت بجرائمها قبل أن ينتفض أهل الكرامة للدفاع عن الأرض والعرض؟ أليس النظام الباسل الذي ادعى بعد معركة الغوطة أنه لم يعد هناك من خطر داعشي.. إلا إذا كان المطلوب الانتقام من مشايخ الكرامة؟». وتابع في تغريدة ثانية: «وما هي جريمة مشايخ الكرامة سوى رفض التطوّع بالجيش لمقاتلة أهلهم أبناء الشعب السوري». وأردف جنبلاط: «الحزب الاشتراكي يتمنى للمرة الثانية من القيادة الروسية حماية مشايخ الكرامة من انتقام النظام وغدره، وحفظ كرامة مشايخ الكرامة، والأخذ بعين الاعتبار بمطالبهم المحقة».

- حركة «مشايخ الكرامة»
«مشايخ الكرامة» هم مجموعة من المشايخ والفعاليات في محافظة السويداء رفضوا، في تحرك لهم منذ العام 2013، التطبيع مع النظام والقتال في صفوفه. وردّ النظام بالتحريض عليهم، وانتهى الأمر باغتيال أبرز قادة المجموعة الشيخ وحيد البلعوس (أبو فهد) في تفجير يجزم المعارضون أن النظام مسؤول عنه في العام 2015.
وعاد «مشايخ الكرامة» إلى الضوء أخيرا في ظل الحملة التي قادها النظام السوري للسيطرة على الجنوب السوري. إذ تبنّت حركة «مشايخ الكرامة» في محافظة السويداء موقف الحياد من المواجهات بين قوات النظام والمعارضة على أطراف محافظتي درعا والسويداء، الشهر الماضي. وأورد الجناح الإعلامي لـ«مشايخ الكرامة» بياناً، قالوا فيه إن الحركة لن تكون «طرفا في إراقة الدماء تمسّكاً منها بثوابت مؤسسها الشيخ وحيد البلعوس» الذي اغتالته أجهزة النظام الأمنية في العام 2015، برفقة عدد من قيادات وعناصر الحركة. ووصف البيان الأحداث الأخيرة بـ«الصراع بين أبناء الوطن الواحد».
وفي أعقاب اجتماع بين المفاوضين الروس وفعاليات السويداء، أصدر فصيل «قوات شيخ الكرامة» في السويداء، بيانا اتهم فيه روسيا بأنها «قوة احتلال»، بعد تسريبات عن أن الطرف الروسي اعتبر «مشايخ الكرامة» فصيلا إرهابياً.
وقال البيان، إن «الكلام الروسي الأخير عن وجود منظمات إرهاب في جبل العرب تصعيد خطير جداً، فكيف لرعاة الإرهاب وصانعيه، ولدولة محتلة، أن تصف مَن حمل السلاح مدافعا عن أرضه وعرضه بالإرهاب؟». وأعلن مقاتلو الفصيل الأبرز في السويداء عن جاهزيتهم «العالية لأي استفزاز من أي جهة كانت، ونعتبر أي اعتداء على أي شاب من شباب الجبل هو إعلان للحرب التي كنا وما زلنا أهلا لها».


مقالات ذات صلة

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

حصاد الأسبوع جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب

يوسف دياب (بيروت)
حصاد الأسبوع تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني

براكريتي غوبتا (نيودلهي (الهند))
حصاد الأسبوع تشون دو - هوان (رويترز)

تاريخ مظلم للقيادات في كوريا الجنوبية

إلى جانب يون سوك - يول، فإن أربعة من رؤساء كوريا الجنوبية السبعة إما قد عُزلوا أو سُجنوا بتهمة الفساد منذ انتقال البلاد إلى الديمقراطية في أواخر الثمانينات.

«الشرق الأوسط» (نيودلهي)
حصاد الأسبوع الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

شرق السودان... نار تحت الرماد

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق

أحمد يونس (كمبالا (أوغندا))
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أ.ب)

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

اختارت مجلة تايم الأميركية دونالد ترمب الذي انتخب لولاية ثانية على رأس الولايات المتحدة شخصية العام 2024.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.