موجات اللجوء إلى لبنان تعالج بـ«الرهاب» و«الوسواس»

لقمان سليم ومونيكا بورغمان في البحث عن القطب المخفية

موجات اللجوء إلى لبنان تعالج بـ«الرهاب» و«الوسواس»
TT

موجات اللجوء إلى لبنان تعالج بـ«الرهاب» و«الوسواس»

موجات اللجوء إلى لبنان تعالج بـ«الرهاب» و«الوسواس»

في الوقت الذي يشتد فيه النقاش في لبنان حول سبل إعادة اللاجئين السوريين إلى بلادهم، وهل آن الوقت أم لا يزال مبكراً، وكيف لهذه العودة أن تتم، أهو من خلال التنسيق مع النظام السوري، أم أن ذلك يجب أن يتم تحت مظلة دولية؟ يأتي كتاب «لاجئون أقل، لجوء أكثر» باللغتين العربية والإنجليزية، ليقرأ ظاهرة اللجوء إلى لبنان برؤيا بانورامية، ومن خلال تتبع مسارها التاريخي الشيق فعلاً. إذ يعتبر الكتاب الذي قام بتحريره والإشراف عليه كل من لقمان سليم ومونيكا بورغمان أن اللجوء هو قضية لبنانية مركزية، بل يكاد يكون جزءاً أساسياً من تاريخ لبنان الحديث وتشكيل التركيبة المجتمعية. لكن المثير في الأمر، أن اللبنانيين - وبحسب الكتاب - تعاملوا باستمرار مع هذه المسألة، على مركزيتها، بالإنكار بدل الاعتراف، والتعامل بـ«القطعة» أو «التجزئة» والاستجابة الموضعية بدل وضع خطط مستدامة. ويطرح الكاتبان سؤالاً حول إذا ما كان «غياب السياسة والاكتفاء بالمواقف العنجهية حيناً وبالصمت الثقيل أحياناً أخرى هو السياسة؟».
يعود المؤلفان بالمسار التاريخي للجوء في لبنان، إلى وصول الأرمن ومن بعدهم الفلسطينيون عام 1948، وصولاً إلى آخر تدفق بشري حمل السوريين الهاربين من نيران حرب وبطش وعسف. نقرأ عن كل واحدة من هذه الموجات المتتالية، وما بينها من موجات أصغر، وردود الفعل التي رافقتها، لنخلص إلى نتيجة مفادها أن اللجوء لم ينظر إليه من قبل اللبنانيين، على أنه يحتاج إلى رؤية وطنية، بقدر ما كان باستمرار مؤرقاً لهم من وجهة نظر طائفية. ثمة أمثلة كثيرة على ذلك، منها، ما حدث في خمسينات وستينات القرن الماضي، حيث اكتسب الآلاف من الفلسطينيين المسيحيين ومن أثرياء بينهم الجنسية اللبنانية. مثل آخر هو أن الدولة اللبنانية بعد اعتمادها عام 2015 ما أسمته «سياسة صفر لجوء»، سمح باستثناءات لها دلالاتها. فقد تم استقبال عائلات مسيحية آشورية آتية من الحسكة، وأواخر السنة نفسها وفي إطار اتفاق وقف إطلاق النار بين الزبداني في ريف دمشق وبين كفريا والفوعة الشيعيتين في ريف إدلب، تم استقبال ما يزيد على ثلاثمائة شخص من كفريا والفوعة في لبنان. وبالتالي، فإن طائفة اللاجئ، كانت في كثير من الأحيان هي التي تحدد طريقة التعامل معه، وليست سياسة عامة تطبق على الجميع.
ويفتح الكتاب صفحاته على أرقام رسمية تم الإعلان عنها مؤخراً تخص الفلسطينيين والسوريين. فعدد اللاجئين الفلسطينيين في المخيمات والتجمعات هو 174.422 فرداً يعيشون في 12 مخيماً و156 تجمعاً فلسطينياً في المحافظات الخمس في لبنان، وليس نصف مليون. أما المعلومة الثانية، فهي أن عدد اللاجئين السوريين انخفض للمرة الأولى منذ عام 2014 إلى ما دون المليون فرد، ويقصَد هنا اللاجئون المسجلون، ومع ذلك لا يبدو أن هذه الأرقام حركت مياهاً راكدة، أو غيرت مسار الجدال رغم أنها تأتي دون ما يروج له، بل وكأنما لا شيء بمقدوره أن يغير ما يرسخ في الأذهان.
ويرى الكتاب أنه على أهمية مسألة اللجوء، بعد ما يقارب مائة سنة على قيام لبنان كدولة لم نر ما يستحق الذكر من تشريعات تنظمه. ولبنان ليس موقّعاً على المواثيق الدولية ذات الصلة بالموضوع. «بناءً عليه، وحتى إشعار آخر، يحكم لبنان على نفسه، كلما امتحن بلجوء ما، أن يستقبل هذا اللجوء كما لو أنه أول تجربة له». وهو ما كان له من انعكاسات سلبية.
ولهذا؛ فقبل أن ينقضي النزال حول اللجوء الفلسطيني نشب آخر حول اللجوء السوري، ومع استمرار الانقسام اللبناني، لعل الأمر الوحيد الذي تحقق، ربما، هو تأليف حكومة لأول مرة تضم وزارة دولة لشؤون النازحين، حيث يؤمل أن تكون بداية صحوة لرسم سياسات تأخذ بعين الاعتبار كثير من العوامل والعناصر التي بقيت مهمشة، عن قصد أو من غيره.
«الرهاب» اللبناني في مواجهة اللجوء، تجلى في كثير من المواقف والكثير من المصطلحات، بحسب الكتاب. ولهذا السبب؛ فإن اللاجئين السوريين، دفعوا ثمن ترسبات اللجوء الفلسطيني في الذاكرة اللبنانية. ورغم الحماس لاستقبال السوريين مع بداية الثورة، فإن تحولاً سريعاً طرأ على الرأي العام عابراً إلى حد بعيد للطوائف والمناطق يرى إليهم كمزاحم ليس فقط في فرص العمل، لكن أيضاً في البنية التحتية والكهرباء وأنابيب الصرف الصحي. والجدال الذي دار حول أولوية إقامة مخيمات من عدمها عند بدء وصول السوريين مع اندلاع الثورة عام 2011، ورفض البعض استقبالهم في مخيمات على غرار ما حصل في تركيا والأردن، لم يكن صدفة. «فمجرد الهمس في أذن لبنانية بلفظة (مخيمات) هو كالحك على جرح ملتهب» جراء التجارب السابقة مع الفلسطينيين.
يحمّل الكتاب المسؤولية للبنانيين الذين لا يسعون إلى رؤية موضوعية بقدر ما يتعاملون مع موجات اللجوء بالقصور ذاته في كل مرة. وإذا كان اللبنانيون يعانون من «رهاب المخيمات» فهم مصابون أيضاً بما يطلق عليه الكتاب «وسواس التوطين» الذي يحيل في العامية السياسية اللبنانية إلى «مجموعة من النوايا السيئة يبيتها للبنان أعداؤه. ومآل التوطين هو إرغام اللبنانيين على القبول بأن تشاطرهم وطنهم جماعة من اللاجئين». وهو «وسواس» عاشه اللبنانيون مع الفلسطينيين ويسمع في الخطابات السياسية فيما يخص اللاجئين السوريين. وإن كان الكثير مما جاء في الكتاب معتمداً على وثائق وصحف وأرشيف قديم، لا يجانب الصواب، فإن الكاتبين يذهبان في معرض النقد لغياب النقد الداخلي اللبناني، إلى شيء من التطرف، حين يحمّلان اللبنانيين المسؤوليات كلها عن مخاوفهم من المخيمات والتوطين ووساوسهم في بلد صغير، دائماً ما أحاطته النيران من كل جانب، أو استقوى عليه الجيران. يبقى أن مسألة الرؤية من منظار طائفي التي يتم التركيز عليها باعتبارها المعطل الرئيسي لحلول موضوعية، فهي مما لا جدال فيه ولا مجال لنكرانه.
والإصدار على النحو الذي هو عليه جاء «مخاصمة لـ(ثقافة الإنكار)»، وهو جزء من برنامج توثيقي بحثي تحت عنوان «على الرحب والسعة؟ لبنان في لاجئه» أطلقته «أمم للتوثيق والأبحاث» عام 2017 بدعم من «معهد العلاقات الثقافية الخارجية» الممول من وزارة الخارجية الألمانية، ويتضمن مجموعة من الأنشطة الفكرية والحوارية.



«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
TT

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة من خلال حديث مطول أدلى به لمحرر المذكرات ومؤلف الكتاب الصحافي سيد محمود سلام. ورغم أن حديث الذكريات هنا يشمل محطات مختلفة، فإن الكتاب يركز بشكل خاص على مرحلة النشأة والطفولة وما اكتنفها من اكتشاف الفنان في سنوات التكوين الأولى لعالم الأدب وخصوصية مدينته بورسعيد، مسقط رأسه.

ويشير محمود ياسين إلى أن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر، وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها. ويرى أنه كان طفلاً محظوظاً لأنه نشأ في أسرة تعد الثقافة جزءاً مهماً من تكوين أبنائها، وكان ترتيبه السادس بين أشقائه العشرة، وقد تأثر في طفولته بشقيقه الأكبر فاروق: «إذ فتح عيني على شيء اسمه الكتاب بمعناه الواسع. كان يتسلم الكتب ويذهب إلى المدرسة، لكن فاروق كانت له في البيت مكتبة خاصة عبارة عن خزانة كبيرة في الحائط صُممت على الطراز الفرنسي تضع فيها الوالدة الفخار وقطع الخزف الصيني وكؤوس الزجاج وأشياءها الخاصة، فصنع منها مكتبة بعرض الحائط بعد أن أقنعها بذلك حيث كانوا يقطنون في فيلا من دورين تابعة لشركة قناة السويس التي كان يعمل بها والده، وعاشوا فيها ما يزيد على 25 عاماً».

ظل فاروق يشتري الكتب باستمرار مثل سلسلة «اقرأ» التي كانت تصدر ملخصات لعيون الأدب العربي والعالمي والسير الذاتية مثل السيرة الذاتية لطه حسين ودوستويفسكي ومكسيم غوركي وأنطون تشيخوف، فضلاً عن عيون الأدب الفرنسي مثل مؤلفات غي دي موباسان. كانت السلسلة تصدر كتيبات لكل كتّاب ومفكّري العالم، فالتراث الإنساني كله أنتجته سلسلة «اقرأ»، وقد جمعه فاروق في مكتبته وأيضاً سلسلة أخرى بعنوان «كتابي» جمعها أيضاً في المكتبة.

قرأ محمود ياسين في صغره معظم دواوين الشعراء العرب وعبقريات العقاد في مكتبة شقيقه، فضلاً عن كتب سلسلة «الكتاب الذهبي» التي تعرّف فيها على محمد عبد الحليم عبد الله ونجيب محفوظ ويوسف إدريس ويوسف السباعي. كما كان الشقيق الأكبر فاروق شغوفاً باقتناء الكتب والمطبوعات الثقافية مثل مجلة «الهلال» حتى إنه يشتري الكتب بمصروفه الشخصي المحدود. ولم يكن الطفل محمود يشغل نفسه بشراء الكتب، لكن يده بدأت تمتد إلى مكتبة شقيقه، فغضب بشدة من استعارته كتبه؛ وذلك خوفاً من ألا تلقى الاحترام ذاته الذي تلقاه عنده تلك المكتبة التي كوّنها واشتراها من مصروفه. لكن عندما اطمأن لشقيقه، بدأ يشجعه مع بعض النصائح خوفاً على هذه الكتب. وبدأ الشقيق الأصغر في متابعة المسرحيات المترجمة بشكل خاص، لا سيما أعمال وليام شكسبير وهو ما أثار دهشة وإعجاب فاروق حين رأى شقيقه لا يفوّت نصاً للكاتب العالمي، سواء في سلسلة «كتابي» أو نظيرتها «اقرأ».

ويشير محمود ياسين إلى أن أبناء بورسعيد يتشابهون في ملامحهم وتكوينهم؛ لأن هذه المدينة تترك بصماتها على أبنائها، فهي بلد مفتوح على الدنيا ويُطل على أوروبا، فهناك شاطئ بحر وفي الأفق عالم آخر يجب أن تحلم به. إنها مدينة وسط جزر من المياه، فتأثر بهذه الخصوصية الجغرافية وما أكسبته لسكانها من حس حضاري لافت.

يقول محمود ياسين في مذكراته إن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها.

امتزجت شخصية محمود ياسين بالبحر المتوسط الذي تطل عليه مدينته، فهو مثله تراه شديد الهدوء تارة، شديد الصخب تارة أخرى. يقول: «إن أخلاقي كأخلاق البحر وطبيعتي تشبهه، فأنا في شهري سبتمبر وأكتوبر أكون هادئاً هدوءاً غريباً وعندما تنظر إليّ تشاهد ما في أعماقي، وإذا تحدثت إليّ يمكنك أن تكتشف كل شيء. أما الشخص الصاخب العصبي فهو أيضاً أنا ولكن في شهر يناير، وكذلك البحر بـ(نواته) وأمواجه المتلاطمة. لا أحب شهر يناير، قد يكون لأنه بداية عام لا أعلم ما يخبئه، وحين راقبت نفسي وجدت أنني في مواسم أكون هادئاً وأخرى أكون صاخباً وهذا هو حال البحر».

كانت حياة الصبي محمود ياسين قبل التمثيل غير مستقرة، كأنه يبحث عن شيء يسعده. كان يراقب شقيقه فاروق، الممثل العظيم بقصور الثقافة، وتعلم منه كيف يحب الريحاني. يشاهده فيشعر بأنه يمتلك عالم التمثيل بين عينيه، نظراته، تأمله، صوته حتى وهو يغني بصوتٍ أجش تستسيغ غناءه من هذه الحالة التي لاحظها وتأثر بها. أحبَّ التمثيل وشعر بأنه الشيء الذي يبحث عنه، إنه عالمه المفقود، به ستكتمل حياته.

اللافت أن التمثيل منذ البدايات الأولى بالنسبة لمحمود ياسين «حالة»، إنه بمثابة «عفريت» يتجسد في الشخص المحب له، فكان يسعد بالمشاهد التي يمثلها في نادٍ يسمى «نادي المريخ» ببورسعيد وهو طفل. وكوّن هو وزملاؤه فرقة مسرحية، مع عباس أحمد الذي عُرف بأشهر مخرجي الثقافة الجماهيرية، وله باع طويل وأثر في حياته كصديق ورفيق رحلة كفاح، هو والسيد طليب، وكانا أقرب صديقين له، سواء على مستوى هواية التمثيل أو الحياة.

ويروي كيف كان يقدم مسرحية على خشبة مسرح صنعوه بأنفسهم من مناضد وكراسي متراصة، وفي قاعة تسع 100 شخص، فلمح والده، وكانت المرة الأولى التي يمثل فيها ويشاهده أبوه، وإذا به يبتسم له ابتسامة هادئة، اعتبرها أول تصريح رسمي منه بموافقته على دخوله هذا المجال. ويذكر أيضاً أن من بين العمال الذين تأثر بهم محمود عزمي، مهندس الديكور العبقري، الذي لم يحصل على أي شهادات دراسية ولم يلتحق بالتعليم، لكنه كان يهوى الرسم ويصمّم ديكورات أي نصوص سواء عربية أو عالمية ببراعة مدهشة.