تورينو... مدينة البدايات في إيطاليا

سُكب فيها أول فنجان قهوة إكسبريسّو وفقَدَ فيها نيتشه صوابه

واجهة قصر «بورغو» الذي يعود بناؤه إلى العصور الوسطى
واجهة قصر «بورغو» الذي يعود بناؤه إلى العصور الوسطى
TT

تورينو... مدينة البدايات في إيطاليا

واجهة قصر «بورغو» الذي يعود بناؤه إلى العصور الوسطى
واجهة قصر «بورغو» الذي يعود بناؤه إلى العصور الوسطى

الأسماء الأولى التي تحضر السائح وهو يستعدّ لزيارة إيطاليا هي المدن التاريخية مثل روما وفلورانس والبندقية، أو جُزر كابري أو صقلية أو سردينيا، بل وحتى القرى والدساكر المتناثرة بطبيعتها الساحرة والكنوز الفنية التي تختزنها على امتداد سهول توسكانة وفوق هضابها. لكن ثمّة مدينة في الشمال الإيطالي لا تكشف مفاتنها سوى للعارفين والذوّاقة الذين يتوافدون عليها في كل الفصول، ينهلون من متاحفها ومعالمها الفريدة ويتمتّعون بأرقى ما تقدّمه إيطاليا من فنون ومبتكرات. ثم يعودون إليها بشغف وابتهاج. إنها مدينة تورينو، العاصمة الأولى لإيطاليا بعد توحيدها عام 1861، والتي تشكّل مع ميلانو وجنوى «المثلّث الذهبي» الذي تقوم عليه القوة الصناعية الإيطالية.
تمتدّ تورينو على ضفّتي البو، أطول الأنهر الإيطالية، كمسرح فخم من القصور والحدائق والساحات عند سفوح جبال الألب التي يتوّج الثلج قممها طوال العام. كثيرةٌ الألقاب التي تحملها هذه المدينة التي تشكّل مصدر اعتزاز كبير لأبنائها الذين يحرصون عليها بعناية موصوفة. «مهد إيطاليا» هي لأنها كانت مسقط رأس معظم السياسيين البارزين الذين ساهموا في توحيد إيطاليا... «مدينة البدايات» لأن فيها تأسست الشركات الصناعية الكبرى وفي طليعتها شركة فيات عماد الاقتصاد الإيطالي طوال عقود... «مدينة الأناقة» لأن تصاميمها العمرانية الكلاسيكية والباروكية من أجمل ما تقع العين عليه بين المدن الأوروبية... و«مركز الإبداع» كما وصفتها منظمة اليونيسكو عندما أعلنتها تراثاً عالميّا في عام 2014 لدورها الطليعي في إطلاق الكثير من الابتكارات العلمية والتصميمية منذ قرون.. لكنها، في نظر أهلها، هي قبل كل شيء مدينة الفنون والثقافة والمستوى المعيشي الأرقى في إيطاليا.
أول ما يلفت انتباه الوافدين الجدد إلى تورينو هو التناسق العمراني اللافت في مبانيها وشوارعها الفسيحة وساحاتها وحدائقها العامة التي صمّم معظمها المهندس فيليبو جوفارنا مستلهما هندسة وتصاميم أساتذته في قصور فرساي الفرنسية. كما يلفت أيضا الترتيب الذي تندرج فيه الحياة بين أحيائها مما يجعل التجوّل فيها متعة لا تضاهى لمحبّي النظام والتناغم والانسجام.

أهم معالمها ونقاط جذبها
الذين يعرفون تورينو يقع معظمهم في غرامها ويترددون عليها من غير تردد ولا سبب معيّن سوى الاستزادة من أناقتها ومفاتنها ورقّيها. لكن كيف نقنع من لا يعرفها ولا تخطر على باله سوى المدن والمعالم التقليدية في إيطاليا؟ هذا برنامج لقضاء يومين في المدينة التي شهد فيها النور أول فنجان قهوة إكسبريسّو وفقَدَ نيتشه صوابه في أحد شوارعها قبل أن يعلن الأطباء جنونه.
أجمل ما نبدأ به النهار في تورينو، زيارة مقهى Al Bicerin الأسطوري الذي يقع في ساحة كونسولاتا وسط المدينة، والذي ترددت عليه كوكبة من كبار الفنانين والمفكرين والأدباء العالميين من نيتشه وبافيزي وبيكاسو وماتيس وهمنغواي، وأفرد له أومبرتو إيكو في روايته «مقبرة براغ» فصلا من أجمل وأعذب ما تقطّر من ريشته. هنا وُلد المشروب الذي يحمل المقهى اسمه وذاع صيته في العالم، وهو كناية عن مزيج من زبدة الحليب بالسكّر المقطّر والبن المطحون والشوكولاته، خير ما يشحن به الزائر طاقته قبل أن يبدأ تجواله اليومي على معالم المدينة.
بعد الجلسة الهادئة في المقهى وتذوّق شرابه اللذيذ وحلوياته، نتوجّه إلى ساحة باب القصر القريبة حيث توجد أكبر سوق شعبية مكشوفة في أوروبا، يعرض فيها مزارعو القرى المجاورة خضراواتهم وفاكهتهم ومنتجاتهم الغذائية العضوية إلى جانب أطعمة أخرى من كل أصقاع العالم. والأسواق الشعبية شائعة في تورينو يرتادها السكان طوال أيام الأسبوع لجودة معروضاتها واعتدال أسعارها في أغلى المدن الإيطالية.
نغادر السوق الشعبية باتجاه الساحة التي تُعرف بالمربّع لشكلها الهندسي حيث تقع على أحد أضلاعها كاتدرائية القديس يوحنا التي تضمّ إحدى القطع الأثريّة الأكثر إثارة للجدل عند المسيحيين. مما يُزعم أنه الرداء الذي كان يلّف جسد المسيح بعد إنزاله عن الصليب. وعلى مقربة من المربّع يقوم ميدان القصر الذي تزنّره القصور الجميلة التي كانت مسكن العائلة المالكة وتضمّ مجموعات ضخمة من الأعمال الفنية النفيسة فضلا عن بهاء معمارها وفخامة المواد المستخدمة في بنائها. وبين الساحتين أطول منطقة مقصورة على المشاة في أوروبا، تمتدّ في الشوارع التي تتنافس متاجرها العريقة ببهاء واجهاتها وتمايزها.
وقت الغداء تُعتبر تورينو محجّة لذوّاقة الأطعمة التي لا تقتصر فيها على الباستا والبيتزا، بل تحتلّ فيها أطباق اللحوم والخضراوات المطهيّة مكاناً بارزاً تتنافس على إتقانها مجموعة من أفخم المطاعم الإيطالية. أشهر هذه الأطباق Vitello Tonnato، وهو كناية عن وجبة باردة قوامها شرائح من لحم البقر المسلوق تكسوه صلصة كثيفة من سمك التونة. تورينو أيضا قطب مشهور لصناعة الحلويات، وبخاصة مشتقّات الشوكولاته التي يقصدها الزوّار من كل أنحاء إيطاليا لتذوّق تنوّعاته الكثيرة. فهنا وُلِد الصنف المعروف باسم «جياندوجا» عندما ارتفعت أسعار الشوكولاته بعد قرار نابليون زيادة الضرائب على الكاكاو، فلجأ حلوانيّو تورينو إلى استخدام البندق المطحون يضيفونه إلى مقادير قليلة من الكاكاو أعطته تلك النكهة التي يتفرّد بها.

المتحف المصري
بعد الغداء يأتي موعد الزيارات الثقافية التي نحتار من أين بدايتها. من المتحف المصري الذي يعتبر ثاني أهم المتاحف المتخصصة في الآثار المصرية بعد متحف القاهرة والأقدم في العالم. أكثر من ثلاثين ألف قطعة بين نواويس ومومياوات وحيوانات محنّطة وبرديّات تحكي فصولاً مذهلة من التاريخ المصري القديم على أقدام جبال الألب. وقد أعلنت إدارة المتحف مؤخرا، في إطار حملة لاجتذاب الزوّار العرب، عن برنامج يتيح لكل زائر عربي شراء بطاقتين لدخول المتحف مقابل سعر بطاقة واحدة. أو نتّجه إلى متحف السينما الذي يقع في برج Antonelliana المشرف على المدينة والمصنّف كأهمّ متحف من نوعه في العالم. متحف يتهافت عليه عشّاق الفن السابع من كل أنحاء المعمورة، ينهلون من أرشيفه الفريد أو يتابعون ندواته وورش عمله التي يديرها كبار المخرجين والأخصائيين. أو نجول على قاعات المتحف الملكي الذي يخزن روائع مذهلة من الفنون الكلاسيكية قبل التوجّه للعشاء في مطعم Porta di Po الراقي الذي يمزج بين مختارات من المطبخ الفرنسي وأطباق ملوّنة من أطباق الجنوب الإيطالي.
بعد العشاء تحلو نزهة قصيرة في الشوارع الأنيقة الخالية من المارة قرب المطعم والتمتّع بمشهد المباني والقصور المنيفة مضاءة بالأنوار الملّونة، قبل التوجّه إلى قضاء الليل في فندق بالاس الذي يقوم في مبنى من القرن السادس عشر مجهّز بأحدث الوسائل والخدمات ومفروش بأثاث كلاسيكي من الأخشاب النبيلة والأقمشة الفاخرة.

مُجمع السيارات
نبدأ يومنا الثاني بزيارة إلى المصنع القديم لشركة «فيات» الذي تحوّل إلى مجمّع يضمّ قصراً للمؤتمرات ومتحفاً للسيارات ومركزا تجاريّاً ضخماً، إضافة إلى مجموعة عائلة «آنيلّي» - المالكة السابقة للشركة - من اللوحات النفيسة لبيكاسو وماتيس وكاناليتّو. وفي هذا المجمّع مجال واسع للتسوق ثم لتناول طعام الغداء في مركز Etaly الذي صار منتشرا في معظم مدن إيطاليا وبعض العواصم العالمية المخصص للمنتجات الغذائية الإيطالية عالية الجودة... أو في مطعم Slow Food الذي شهدت فكرته النور هنا كرد فعل على شيوع الوجبات السريعة.
أما فترة بعد ظهر اليوم الثاني، فنقترح قضاءها في القصر الملكي الشاسع الذي كان مخصصا لرحلات الصيد في إرباض المدينة، قبل العودة مع غروب الشمس إلى ميدان سان كارلو لرشف فنجان من القهوة في واحدة من أجمل الساحات الإيطالية، وتهيئة النفس للعودة إلى رتابة الحياة اليومية.


مقالات ذات صلة

السياحة المغربية تشهد نمواً قوياً... 15.9 مليون سائح في 11 شهراً

الاقتصاد سياح صينيون يزورون مسجد الحسن الثاني في الدار البيضاء (رويترز)

السياحة المغربية تشهد نمواً قوياً... 15.9 مليون سائح في 11 شهراً

أعلنت وزارة السياحة المغربية، الاثنين، أن عدد السياح الذين زاروا المغرب منذ بداية العام وحتى نهاية نوفمبر (تشرين الثاني) بلغ 15.9 مليون سائح.

«الشرق الأوسط» (الرباط)
سفر وسياحة من بين الأدوات التي استخدمها المجرمون في قتل ضحاياهم (متحف الجريمة)

«متحف الجريمة» في لندن... لأصحاب القلوب القوية

من براميل الأسيد التي استخدمها القاتل جون جورج هاي لتذويب ضحاياه والتي تعرف باسم Acid Bath «مغطس الأسيد» إلى الملابس الداخلية لـ«روز ويست».

عادل عبد الرحمن (لندن)
يوميات الشرق آلاف الحقائب التي خسرتها شركات الطيران في متجر الأمتعة بألاباما (سي إن إن)

المسافرون الأميركيون يفقدون ملايين الحقائب كل عام

داخل المساحة التي تبلغ 50 ألف قدم مربع، وإلى مدى لا ترى العين نهايته، تمتد صفوف من الملابس والأحذية والكتب والإلكترونيات، وغيرها من الأشياء المستخرجة من…

«الشرق الأوسط» (لندن)
سفر وسياحة «ساحة تيفولي» في كوبنهاغن (الشرق الأوسط)

دليلك إلى أجمل أضواء وزينة أعياد الميلاد ورأس السنة حول العالم

زينة أعياد الميلاد ورأس السنة لها سحرها. يعشقها الصغار والكبار، ينتظرونها كل سنة بفارغ الصبر. البعض يسافر من بلد إلى آخر، فقط من أجل رؤية زينة العيد.

جوسلين إيليا (لندن)

سوق البحرين العتيقة... روح البلد وعنوان المقاهي القديمة والجلسات التراثية

سوق المنامة القديم (إنستغرام)
سوق المنامة القديم (إنستغرام)
TT

سوق البحرين العتيقة... روح البلد وعنوان المقاهي القديمة والجلسات التراثية

سوق المنامة القديم (إنستغرام)
سوق المنامة القديم (إنستغرام)

«إن أعدنا لك المقاهي القديمة، فمن يُعِد لك الرفاق؟» بهذه العبارة التي تحمل في طياتها حنيناً عميقاً لماضٍ تليد، استهل محمود النامليتي، مالك أحد أقدم المقاهي الشعبية في قلب سوق المنامة، حديثه عن شغف البحرينيين بتراثهم العريق وارتباطهم العاطفي بجذورهم.

فور دخولك بوابة البحرين، والتجول في أزقة السوق العتيقة، حيث تمتزج رائحة القهوة بنكهة الذكريات، تبدو حكايات الأجداد حاضرة في كل زاوية، ويتأكد لك أن الموروث الثقافي ليس مجرد معلم من بين المعالم القديمة، بل روح متجددة تتوارثها الأجيال على مدى عقود.

«مقهى النامليتي» يُعدُّ أيقونة تاريخية ومعلماً شعبياً يُجسّد أصالة البحرين، حيث يقع في قلب سوق المنامة القديمة، نابضاً بروح الماضي وعراقة المكان، مالكه، محمود النامليتي، يحرص على الوجود يومياً، مرحباً بالزبائن بابتسامة دافئة وأسلوب يفيض بكرم الضيافة البحرينية التي تُدهش الزوار بحفاوتها وتميّزها.

مجموعة من الزوار قدموا من دولة الكويت حرصوا على زيارة مقهى النامليتي في سوق المنامة القديمة (الشرق الأوسط)

يؤكد النامليتي في حديثه لـ«الشرق الأوسط» أن سوق المنامة القديمة، الذي يمتد عمره لأكثر من 150 عاماً، يُعد شاهداً حيّاً على تاريخ البحرين وإرثها العريق، حيث تحتضن أزقته العديد من المقاهي الشعبية التي تروي حكايات الأجيال وتُبقي على جذور الهوية البحرينية متأصلة، ويُدلل على أهمية هذا الإرث بالمقولة الشعبية «اللي ما له أول ما له تالي».

عندما سألناه عن المقهى وبداياته، ارتسمت على وجهه ابتسامة وأجاب قائلاً: «مقهى النامليتي تأسس قبل نحو 85 عاماً، وخلال تلك المسيرة أُغلق وأُعيد فتحه 3 مرات تقريباً».

محمود النامليتي مالك المقهى يوجد باستمرار للترحيب بالزبائن بكل بشاشة (الشرق الأوسط)

وأضاف: «في الستينات، كان المقهى مركزاً ثقافياً واجتماعياً، تُوزع فيه المناهج الدراسية القادمة من العراق، والكويت، ومصر، وكان يشكل ملتقى للسكان من مختلف مناطق البلاد، كما أتذكر كيف كان الزبائن يشترون جريدة واحدة فقط، ويتناوبون على قراءتها واحداً تلو الآخر، لم تكن هناك إمكانية لأن يشتري كل شخص جريدة خاصة به، فكانوا يتشاركونها».

وتضم سوق المنامة القديمة، التي تعد واحدة من أقدم الأسواق في الخليج عدة مقاه ومطاعم وأسواق مخصصة قديمة مثل: مثل سوق الطووايش، والبهارات، والحلويات، والأغنام، والطيور، واللحوم، والذهب، والفضة، والساعات وغيرها.

وبينما كان صوت كوكب الشرق أم كلثوم يصدح في أرجاء المكان، استرسل النامليتي بقوله: «الناس تأتي إلى هنا لترتاح، واحتساء استكانة شاي، أو لتجربة أكلات شعبية مثل البليلة والخبيصة وغيرها، الزوار الذين يأتون إلى البحرين غالباً لا يبحثون عن الأماكن الحديثة، فهي موجودة في كل مكان، بل يتوقون لاكتشاف الأماكن الشعبية، تلك التي تحمل روح البلد، مثل المقاهي القديمة، والمطاعم البسيطة، والجلسات التراثية، والمحلات التقليدية».

جانب من السوق القديم (الشرق الاوسط)

في الماضي، كانت المقاهي الشعبية - كما يروي محمود النامليتي - تشكل متنفساً رئيسياً لأهل الخليج والبحرين على وجه الخصوص، في زمن خالٍ من السينما والتلفزيون والإنترنت والهواتف المحمولة. وأضاف: «كانت تلك المقاهي مركزاً للقاء الشعراء والمثقفين والأدباء، حيث يملأون المكان بحواراتهم ونقاشاتهم حول مختلف القضايا الثقافية والاجتماعية».

عندما سألناه عن سر تمسكه بالمقهى العتيق، رغم اتجاه الكثيرين للتخلي عن مقاهي آبائهم لصالح محلات حديثة تواكب متطلبات العصر، أجاب بثقة: «تمسكنا بالمقهى هو حفاظ على ماضينا وماضي آبائنا وأجدادنا، ولإبراز هذه الجوانب للآخرين، الناس اليوم يشتاقون للمقاهي والمجالس القديمة، للسيارات الكلاسيكية، المباني التراثية، الأنتيك، وحتى الأشرطة القديمة، هذه الأشياء ليست مجرد ذكريات، بل هي هوية نحرص على إبقائها حية للأجيال المقبلة».

يحرص العديد من الزوار والدبلوماسيين على زيارة الأماكن التراثية والشعبية في البحرين (الشرق الأوسط)

اليوم، يشهد الإقبال على المقاهي الشعبية ازدياداً لافتاً من الشباب من الجنسين، كما يوضح محمود النامليتي، مشيراً إلى أن بعضهم يتخذ من هذه الأماكن العريقة موضوعاً لأبحاثهم الجامعية، مما يعكس اهتمامهم بالتراث وتوثيقه أكاديمياً.

وأضاف: «كما يحرص العديد من السفراء المعتمدين لدى المنامة على زيارة المقهى باستمرار، للتعرف عن قرب على تراث البحرين العريق وأسواقها الشعبية».