كنت في مدينة ميلان الإيطالية عام 1990 لمتابعة مباريات كأس العالم، وقضيت هناك ثلاثة أسابيع وكنت لا أفكر في أي شيء سوى كرة القدم، وشعرت بأنني بحاجة إلى لحظة من الهدوء وتناول كوب من القهوة، وعثرت على مقهى صغير به عدد قليل من الأشخاص، وفي أحد الأطراف كان هناك تلفزيون يعرض مباراة كرة قدم باللونين الأبيض والأسود.
جلست أنتظر الحصول على كوب القهوة في صمت، ولم أكن أفكر في تلك اللحظة في شيء بعينه. وفجأة، سمعت صوت صراخ شديد جعلني أشعر بالخوف وأنظر لأرى ماذا حدث. وعندما استدرت أدركت أن كل هذا الضجيج كان أكثر احتفال صاخب سمعته طيلة حياتي. وبينما كنت لا أزال أشعر بالصدمة، كان هذا الرجل لا يزال يصيح بأعلى صوته قائلا: «هدف»، وهو ما جعلني أشك في الصحة العقلية لهذا الرجل. وكان هذا الرجل من أوروغواي ويحتفل بالهدف الذي أحرزه أليسيدس غيغيا في المباراة النهائية لكأس العالم عام 1950، والذي كان يعاد على شاشة التلفاز! وعندما انتهى الرجل أخيرا من احتفاله الصاخب، اقترب مني وقال لي: «أنا آسف، لكن في كل مرة أشاهد فيها هدفا لمنتخب أوروغواي احتفل به وكأنه قد أحرز الآن».
كان هذا الرجل اسمه ماريو، ولم أنس مطلقا نصف الساعة التي أمضيناها معاً وما زلت أتذكره في كل مرة أشاهد فيها منتخب أوروغواي يسجل هدفاً على شاشات التلفزيون. وقد تبادر هذا الرجل إلى ذهني مرة أخرى في نهاية هذا الأسبوع بينما كنت أشاهد المباراة التي خسرتها أوروغواي أمام فرنسا في دور الثمانية لكأس العالم 2018 بروسيا. ولعل الأهم من ذلك هو أنني قد تذكرته أيضا وأنا أشاهد البرازيل تخسر أمام بلجيكا. أنا أعشق كرة القدم في أوروغواي وأعشق تلك الطريقة التي يعبرون بها عن حبهم لهذه اللعبة والتي تجعلك تشعر دائما بأنهم يتعاملون مع كرة القدم وكأنهم مجرد هواة يلعبون من أجل المتعة، حتى لو كانوا يرفعون كأس العالم. وتأخذ إنجازات كرة القدم في أوروغواي بُعدا آخر، حيث يتعاملون مع أسماء الملاعب التي حققوا فيها بطولاتهم وكأنها ساحات معارك كبرى، ومع لاعبيهم البارزين وكأنهم أبطال.
وعندما جاءت أكثر اللحظات إثارة في تاريخ كرة القدم الأوروغوايية، وهي المباراة النهائية لكأس العالم عام 1950 بين أوروغواي والبرازيل على استاد ماراكانا الشهير، وقف نجم وقائد منتخب أوروغواي أوبدوليو فاريلا في نفق الملعب وقال لزملائه في الفريق: «إنهم 11 لاعبا ونحن 11 لاعبا، لكنهم مصنوعون من الخشب». وكان يشاهد هذه المباراة من الملعب 200 ألف برازيلي لم يكن لديهم أدنى شك في أن المجد ينتظرهم في ذلك اليوم وأنهم سيحققون الفوز ويصعدون إلى منصة التتويج للاحتفال بلقب المونديال الذي يقام على الأراضي البرازيلية. لكن المجد لا ينتظر أحدا، بل يتعين عليك أن تعمل جاهدا من أجل أن تحققه.
وثمة روايات في أوروغواي تقول إنه خلال لحظة السكون التي سيطرت على ملعب المباراة بعد الهدف الأول لأوروغواي، كان يُمكن سماع أوبدوليو وهو يطلب «المزيد من الدماء». وبالنظر إلى أنه في كل مرة نتحدث فيها عن أوروغواي يتعين علينا أن نشير إلى الروح القتالية التي يتحلى بها لاعبو هذا الفريق دائما، فمن الملائم أن نوضح هنا أن أوبودوليو كان يطلب «مزيدا من الدماء» من زملائه وليس من الخصوم، بمعنى أن يبذل زملاؤه في الفريق مزيدا من الجهد والعرق من أجل منتخب بلادهم.
وفي وسط هذه الأجواء المشحونة، سجل غيغيا الهدف الذي كان يحتفل به صديقي ماريو للمرة الألف. ولكي نعرف الصفات والمقومات التي تساعد على بناء فريق رائع في كرة القدم، يتعين علينا فقط أن نستمع لقصة المدافع الأوروغوايي خورخي فوسيلي في مباراة دور الثمانية بكأس العالم 2010 عندما لعبت أوروغواي أمام غانا. لقد عرض فوسيلي التضحية بنفسه من أجل مصلحة الفريق بعد أن أخرج لويس سواريز هدفا بيديه من على خط مرمى فريقه في اللحظات الأخيرة من المباراة. واحتسب حكم المباراة ركلة جزاء وأشهر بطاقة حمراء في وجه سواريز، لكن فوسيلي توجه نحو حكم اللقاء وقال له: «أنت محق سيدي الحكم، لكنه أنا من لمس الكرة بيده ويتعين عليك أن تطردني أنا».
وقام فوسيلي بذلك حتى يتمكن سواريز من المشاركة في مباراة نصف النهائي ولا يتم إيقافه عن تلك المباراة الهامة. صحيح أن هذه الحيلة لم تخدع حكم اللقاء، لكنها تعكس تماما النظرية التي تقول إنه لكي تكون زميلاً حقيقياً يتعين عليك أن تضحي بنفسك من أجل الفريق وأن تضع نفسك في خدمة المجموعة.
وقد فعل فوسيلي شيئا يتجاوز ذلك، فقد كان مستعداً للتضحية بالرغبة الطبيعية التي يشعر بها أي لاعب كرة قدم يسعى لتحقيق المجد في مناسبة كبرى مثل كأس العالم، لأنه أدرك أن سواريز كان أكثر أهمية منه في تلك المعركة وفي المعارك المقبلة أيضا. وأهدرت غانا ركلة الجزاء وتأهلت أوروغواي للدور التالي. وفي عام 2018، لا تزال أوروغواي كما هي ولم تتغير، ولا تزال تقدم نفس الأداء الجماعي القوي، لتقدم لنا جميعا درساً في الحياة بصفة عامة وأثناء الهزيمة بصفة خاصة. لقد ظهر اللاعبون في فندق الفريق وهم يرتدون السراويل والنعال والمشروبات في أيديهم، وهو ما جعلني أشعر بالإعجاب وأنا أرى هذا الفريق الذي يسعى لتحقيق المجد الكروي وهو يتعامل مع الأمر بتواضع كبير. وفي الحقيقة، يستحق هذا الموضوع المتابعة والدراسة عن كثب. وبالنظر إلى أن أكثر من فريق قد غادر كأس العالم بسبب الرعونة والغرور، فإن منتخب أوروغواي يجعلنا نطرح السؤال التالي: هل التحلي بهذا القدر من التواضع أكثر أهمية مما نعتقد؟
صحيح أن منتخب أوروغواي قد خرج من كأس العالم، لكنه خرج في اليوم نفسه الذي خرجت فيه البرازيل - دولة يصل تعداد سكانها إلى ثلاثة ملايين نسمة فقط مقابل دولة يصل عدد سكانها إلى 208 مليون نسمة. ولم يتبق أي فريق في أميركا الجنوبية في البطولة بعد رحيل أوروغواي. صحيح أن هذا يمثل خسارة كبيرة للبطولة، لكنه يعد درسا قاسيا يجب أن نتعلم منه أيضا. ويجب التأكيد على أن أوروغواي دولة مختلفة وفريدة من نوعها، لأنها قد تفتقر إلى الموارد التي يملكها آخرون في القارة وبكثافة، لكنها تمتلك شيئا لا تملكه هذه الدول، وهو الشيء الذي يمكنها من المنافسة بقوة، وهذا الشيء مستمر دائما ويتجاوز حدود ملعب المباراة، ألا وهو الإصرار والعزيمة والقتال حتى الرمق الأخير.
وكان أول شخص يرفع راية اللعب بتلقائية وهدوء وتواضع هو القائد المحبوب والمايسترو أوسكار تاباريز. وعندما يجد تاباريز نفسه أمام مجموعة من اللاعبين، فإن الوسيلة الوحيدة للقيادة المقبولة بالنسبة له هي تلك التي تقوم على المعرفة والشعور الدقيق بالعدالة. ولا يمكن تحقيق العدالة إلا من خلال الجدارة ومنح كل لاعب ما يستحقه. ويعد تاباريز بمثابة تجسيد للمواطن الأوروغوياني، ويعرف جيدا الصفات البشرية والمهنية للاعبيه، لأنه يتولى قيادة أوروغواي منذ 12 عاما. ويهتم تاباريز جيدا بتثقيف وتعليم لاعبيه خارج الملعب أيضا وليس داخل المستطيل الأخضر وحده، ولا يبالغ أبدا في تقدير المواقف أو استغلالها، وخير مثال على ذلك الكلمات التي قالها للاعبيه عقب الهزيمة أمام فرنسا والخروج من المونديال، حيث قال لهم: «هذا الحلم انتهى، لكن أحلاما أخرى ستأتي».
لقد خرج منتخب أوروغواي من كأس العالم، لكنه قدم كل شيء باستطاعته. ربما لم يكن هذا الجهد كافيا لتحقيق الفوز، لكنه كان كافيا لكي لا يشعر اللاعبون بالندم أو يلوموا أنفسهم على التقصير. لقد قاتلوا في كل سنتيمتر داخل الملعب وقاتلوا من أجل كل كرة. إنه فريق حقيقي يلعب بكفاءة وبروح قتالية استثنائية، وكان المدافعان دييغو غودين وخوسيه ماريا غيمينيز يدافعان عن منطقة الجزاء وكأنها أرض مقدسة. أما في خط الهجوم، فكان لويس سواريز وإدنسون كافاني يقاتلان وكأنهما يفتحان أرضا محتلة ستضمن لهم دخول الجنة.
وعندما غاب كافاني عن مباراة دور الثمانية وترك سواريز يقاتل بمفرده على خط المواجهة، لم تكن هناك شكوى واحدة. لقد ذكرت أسماء لاعبين اثنين في خط الدفاع ولاعبين آخرين في خط الهجوم، لكن الأخبار السيئة للغاية بالنسبة للفرق المنافسة تتمثل في أن السبعة لاعبين الآخرين هم أيضا من أوروغواي. ويتعين علينا أن نتعلم الدرس من لاعبي أوروغواي، سواء على المستوى الرياضي أو المستوى الإنساني.
من عام 1950 إلى 2018 أداء أوروغواي الجماعي القوي لم يتغير
المنتخب الأميركي الجنوبي قدم كرة ممتعة وكان خروجه خسارة لمونديال روسيا
من عام 1950 إلى 2018 أداء أوروغواي الجماعي القوي لم يتغير
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة