ماذا حدث لبلادي؟ عادة ما نقضي أيام الأحد الصيفية في التذمر من الطقس أثناء جلوسنا داخل إحدى الحافلات المزدحمة، إلا أن الأمر اختلف أثناء عطلة نهاية الأسبوع الماضي. ومع أن ركلة البداية الإنجليزية كان يمكن أن تصبح مقدمة ليوم بائس، فإنه بحلول نهاية الشوط الأول كان المنتخب الإنجليزي تحت قيادة المدرب غاريث ساوثغيت قد تقدم بنتيجة 5 - 0 أمام بنما. وعليه، بدا فجأة أن الشمس مشرقة، وساد شعور مختلف وغريب أرجاء البلاد. أقبل على مشاهدة المباراة عبر شاشات التلفزيون ما يزيد على 14 مليون نسمة، ما يعادل نحو 82.9 في المائة من مجمل جمهور التلفزيون في تلك الفترة، ما يكافئ نسبة المشاهدين التي تابعت الحفل الافتتاحي لدورة الألعاب الأوليمبية في لندن عام 2012.
فجأة وجدنا أنفسنا نعايش أمراً غير متوقع: لحظة بهجة وفرح جماعي. (على إخواننا في اسكوتلندا وويلز وآيرلندا الشمالية ألا يقلقوا، نحن لا نزال في فترة مبكرة للغاية، ولم تحتدم المنافسة الحقيقية في البطولة بعد، ومن المؤكد أن سقف التوقعات الذي ارتفع في الفترة الأخيرة سيوفر لكم قريباً فرصة للتشفي والشماتة في غضون أسبوع أو ما يقارب ذلك) لقد مر بعض الوقت منذ آخر مرة قدمت إنجلترا بداية في كأس العالم على هذا المستوى من الأداء.
ومن بين السمات المميزة لبطولة كأس العالم هذا العام أنها المرة الأولى التي تقام البطولة في دولة تخضع لنظام استبدادي، منذ استضافة الأرجنتين للبطولة عام 1978 وفوزها بالكأس، في وقت كانت ترزح فيه تحت حكم عصبة عسكرية. كما أن هذه هي المرة الأولى منذ 20 عاماً التي لا تتلطخ فيها سمعة إنجلترا بفضيحة ما. جدير بالذكر أنه على امتداد جيل بأكمله، تعتبر هذه هي المرة الأولى التي تتوحد صفوف البلاد خلف المنتخب بهذا الحماس.
وتمثلت الإشارة الكبرى الأولى إلى أن بطولة كأس العالم ستكون مختلفة هذه المرة، في الإعلان عن أنه لن يكون هناك نشيد لكأس العالم خاص بـ«الفيفا». ودعونا نواجه الحقيقة، لم نشهد نشيداً لائقاً لبطولة كأس العالم منذ نشيد «العالم يتحرك» (وورلد إن موشن) عام 1990. وكشف قرار التخلي عن فكرة النشيد برمتها أن هذا المنتخب الإنجليزي يتحلى بالجدية، في وقت يتطلب قدراً كبيراً من الجدية بالفعل. لقد ولت أيام ما عرف باسم «الجيل الذهبي»، ولم يعد هناك فرانك لامبارد، أو جون تيري، أو واين روني، وجميع رفاقهم الآخرين.
اليوم، يتألف المنتخب من مجموعة من الوجوه الجديدة الشابة الموهوبة، التي لا تحظى بالشهرة التي عادة ما يتوقعها المرء من لاعبين نالوا شرف الانضمام إلى المنتخب. وعندما نعاين أسماء جوردون بيكفورد، وهاري ماغواير، وإريك بوب، ربما نكتشف أن كثيراً من الجماهير لا يدرون أن أياً من هؤلاء عضو بالمنتخب الإنجليزي من الأساس. وربما لم يسمع كثيرون اسم جيسي لينغارد قبل أن يحرز هدفه الرائع في مرمى بنما، والاحتفال المثير الذي أعقب الهدف. لقد جاء رد الفعل المبتهج وما حمله في طياته من براءة، والروح الحماسية التي سادت الملعب، ليرسما صورة دقيقة لهذا الجيل من اللاعبين الإنجليز، الذي لم تشوهه سنوات من الفضائح والإخفاقات المتكررة.
حتى اللاعب الوحيد الذي اجتذب اهتمام وسائل الإعلام، كان هذا الاهتمام الإعلامي به لأسباب خاطئة تماماً. ربما يروق للمذيع التلفزيوني بيرز مورغان والصحف الصفراء مهاجمة رحيم سترلينغ بسبب صورة وشم البندقية الذي رسمه على جسده (تحديداً القدم التي يطلق بها قذائفه الصاروخية، وكذلك احتفاءً بذكرى والده الذي قتل بالرصاص في جامايكا)؛ لكن البلاد أدركت بذكاء ازدواجية المعايير الفاضحة في التعامل مع اللاعب، وقررت الوقوف بأكملها خلفه ومؤازرته.
اليوم، يبدو المشهد الإعلامي مختلفاً تماماً، لدرجة أن سترلينغ أصبحت لديه القدرة على الحديث والتعبير عن نفسه، والكتابة عبر شبكة الإنترنت للحديث عن طفولته العصيبة. وشكل هذا التواصل الحر مع اللاعبين تطوراً إيجابياً حقيقياً.
قبل انطلاق البطولة، تحدث الظهير الأيسر داني روز بصراحة مثيرة للدهشة، عن المشكلات التي يعانيها على صعيد صحته الذهنية، ونجح الظهير الأيمن ترنت ألكسندر أرنولد في التقرب إلى الجماهير من خلال منح قميصه الذي يحمل اسمه لأحد المشجعين، الذي أصيب بخيبة أمل عندما فوجئ بالسعر الباهظ للقميص عندما رغب في شرائه. حتى الصحافة نفسها تحدثت عن روح الانفتاح الجديدة على وسائل الإعلام السائدة داخل معسكر المنتخب الإنجليزي.
وتكمن جاذبية المنتخب الحالي على وجه التحديد في وحدة الصف تلك، والهدوء والبهجة التي تسود صفوفه. ويبدو أن الفريق يمثل جيلاً من أبناء الألفية الجديدة، الذين واجهوا على نحو مباشر الصعوبات التي اعترضت طريقهم دون شكوى. إضافة إلى هذا، يتميز أبناء هذا الجيل بالانضباط والعمل الدؤوب والصلابة. ومن خلال ذلك، يثبت أعضاء هذا الفريق أنهم أكثر قرباً من الجماهير والرأي العام من الأجيال الأخيرة في عالم الكرة الإنجليزية.
ومع أن لاعبي اليوم يتميزون بالقدر ذاته من الثراء الشديد، مثل أبناء الأجيال الحديثة السابقة لهم، فإنهم يبدون ميلهم بالعادات ذاتها التي نتبعها جميعاً، ويستمتعون بألعاب الفيديو ذاتها، وينشرون عبر المواقع الإلكترونية ذاتها، ويمزح بعضهم مع بعض مثلما نفعل جميعاً.
منذ فترة، لم يكن هذا الوضع المألوف بين لاعبي المنتخب الإنجليزي. وربما يمكننا تأريخ بداية ظهور الوباء الذي ألم بلاعبي كرة القدم، وخلق فجوة بينهم وبين الجماهير بعام 2000. ومع أن فرانك لامبارد وريو فيرديناند يبدوان شخصين كبيرين في العمر وحكيمين يحظيان باحترام واسع النطاق اليوم، ومؤهلين لتقديم النصح للأجيال الأصغر أثناء استضافتهما في استوديوهات تلفزيونية، فإن الوضع بالنسبة لهما كان مختلفاً آنذاك. ولا نزال نذكر فضيحة شريط الفيديو الفاضح الذي جرى تسريبه لهما وللاعب آخر ثالث معهما، والذي جرى تصويره في منتجع أيا نابا بقبرص. وظل شريط الفيديو هذا بمثابة شبح يطارد اللاعبين الثلاثة، لكن لم يبد أي من اللاعبين ندماً واضحاً إزاء ما حدث منهم. أما ثالثهما، كيرون دير، فعلق على الأمر بقوله: «أعترف بأن تصرفاتي لم تظهر كثيراً من الاحترام للسيدة التي ظهرت معنا؛ لكن الحقيقة أنه لم يُجبر أحد على فعل أي شيء لم يكن يرغب في فعله».
وخالج البعض الأمل في أن يسهم تعيين شخص سويدي مثقف مدرباً للمنتخب الإنجليزي عام 2001 في التخفيف من حدة التجاوزات التي يقترفها اللاعبون. ورغم أن سفين غوران إريكسون شن حملة صارمة ضد تناول اللاعبين للمشروبات الكحولية، فإنه بدا غير مدرك لحقيقة أن الصحافة والرأي العام سيشعران بغضب عارم إزاء توجهه الأكثر «أوروبية» تجاه العلاقات. وجاء رد الفعل حيال علاقته العاطفية بمقدمة البرامج السويدية أولريكا يونسون خلال الفترة السابقة مباشرة لبطولة كأس العالم عام 2002، ليقوض بدرجة بالغة صورته العامة كشخص هادئ يمكن الثقة في تحمله مسؤولية تدريب المنتخب الإنجليزي.
ربما كان يمكن تجاهل هذا الجزء من الأمر، باعتباره مجرد قصة تصلح لموضوع في صحيفة صفراء يتسلى الناس بقراءتها؛ لكن هذه لم تكن نهاية الفضيحة. عام 2004 أحيا الرئيس التنفيذي آنذاك لاتحاد كرة القدم الإنجليزي، مارك باليوس، القضية مجدداً بفضيحة جنسية تخصه هو. وفي العام ذاته، ضبط واين روني، الذي كان يجري النظر إليه آنذاك باعتباره النجم القادم لإنجلترا، أثناء زيارته فتاة ليل، وكانت جدة تبلغ من العمر 48 عاماً، الأمر الذي شكل مادة دسمة للصحف الصفراء.
ولم تتوقف الفضائح الأخلاقية عند هذا الحد. عام 2006 ظهر مصطلح «زوجات وصديقات» وهيمن على وسائل الإعلام مع وصول مجموعة من اللاعبين المشاهير، بينهم ديفيد بيكهام، إلى بادين بادين في ألمانيا برفقة شريكاتهم.
وأعقب ذلك فترة أبدت خلالها وسائل الإعلام شغفاً غير طبيعي بأحدث أحذية المغنية وزوجة أشلي كول، شيريل كول، وأحدث قصة شعر لفيكتوريا بيكهام، بينما نادراً ما ورد ذكر أسماء زوجيهما في وسائل الإعلام، قبل أن تتعرض إنجلترا لخروج محزن على يد البرتغال من دور الثمانية.
إذن، من يتحمل اللوم هنا؟ النساء بالطبع. وبدا أن لاعبي المنتخب كانوا راضين عن ترك زوجاتهم فريسة لغضب الرأي العام، واستغلوهن ككبش فداء.
أما روني، فقد انهارت علاقته بالجماهير عام 2010، عندما جرى تصويره أثناء كيله الشتائم إلى الجماهير الإنجليزية أثناء مغادرته أرض الملعب، في أعقاب تعادل مثير للحرج أمام الجزائر في بطولة كأس العالم. وقبل انطلاق البطولة، تكشفت أنباء عن تورط جون تيري - الذي كانت تشير إليه جماهير «تشيلسي» بألقاب «الكابتن» و«القائد» و«الأسطورة» - في علاقة عاطفية مع زوجة أحد زملائه بالفريق، الأمر الذي جرده من شارة القائد. وبعد عامين واجه تيري اتهامات (جرت تبرئته منها لاحقاً) بتوجيه شتائم عنصرية إلى أنتون فيرديناند، شقيق زميله في المنتخب، ريو. ومن جديد، حرم تيري من شارة القائد، في الوقت الذي استقال فيه المدرب فابيو كابيلو على سبيل التضامن. القول إنه كان من الصعب أن يشعر المرء بالحب تجاه فريق يضم نجوماً على هذه الشاكلة، لا يعبر بما يكفي عن الحقيقة. ولم يكن من المفاجئ أن ينهار الفريق عام 2014 قبل حتى أن تدرك غالبية الجماهير أن بطولة كأس العالم قد انطلقت.
بعد أربعة سنوات، يبدو الأمر مختلفاً تمام الاختلاف، فقد نجحنا بالفعل في التأهل من دور المجموعات، ويتمثل نجمنا الأكبر الذي ربما يتوج هدافاً للبطولة، في هاري كين. وتظهر صور كين شخصاً قريباً منا يشبه أياً من المشجعين؛ لكنه يتميز بمهارة كبيرة في لعب كرة القدم. كما يبدو شخصاً بذل جهوداً دؤوبة ويعيش اليوم فرحة تحقق حلم حياته. ويدعم منحنى مسيرته الرياضية هذه الفكرة، فقد صعد نجمه عام 2014 - 2015 فقط، نتيجة أزمة شخصية تعرض لها داخل «توتنهام هوتسبير»، وقضى بعض الوقت في «ليتون أورينت» و«ميلوول» في أقسام أدنى من بطولة الدوري. وبالتأكيد هو ليس واحداً من اللاعبين المرفهين الذين عاشوا طفولة رغدة ومنعمة. ويحرص كين حتى اليوم على تجنب تناول الكحوليات أثناء الموسم الكروي. بمعنى آخر، هو أقرب إلى المغني كليف ريتشارد عن اللاعب المثير للجدل بول غاسكوين، ولهذا السبب تعشقه إنجلترا.
أما الرجل الذي يعود إليه الفضل في هذا التطور، فهو غاريث ساوثغيت الذي تولى مسؤولية تدريب المنتخب خلفاً لسام ألاردايس الذي ضبط وهو يوصي باتباع ممارسات مشبوهة وغير قانونية (مزاعم يصر ألاردايس على نفيها). أما ساوثغيت، فليس ثمة ما يريب بشأنه، وبدا المدرب الجديد للمنتخب دوماً عاقداً العزم على الحفاظ على بيئة عامة سلسة ومستقرة حول فريقه. وكان ساوثغيت نفسه عضواً بآخر منتخب يشعر بهذا الحب الكبير من جانب البلاد بأسرها، وكانت ركلة الجزاء التي أهدرها أثناء بطولة «يورو 1996» هي التي وضعت نهاية هذا الحلم. إلا أن الوعي الذاتي الذي أظهره في مواجهة هذا الإخفاق كشف عن ذكاء قلما يتوفر في لاعب كرة قدم، ذكاء نجح في حشد قلوب الأمة بأسرها خلفه وخلف لاعبيه.
ومع هذا، ينبغي الانتباه إلى ضرورة ألا تجرفنا مشاعر الإثارة بعيداً عن الواقع؛ لكن إذا ما سيطرت عليك الآمال وارتفع سقف التوقعات لديك، فلا يمكن لأحد - على الأقل هذه المرة - أن يلومك، ذلك أن ثمة بارقة أمل بتحقيق نجاح غير محتمل في بطولة كأس العالم تلوح في الأفق.
بعد عقود من الخزي إنجلترا تملك فريقاً يستحق المؤازرة
عشاق الكرة من الإنجليز عايشوا آلام رؤية «الجيل الذهبي» يسقط في مستنقع الفضائح والخيبات المتكررة
بعد عقود من الخزي إنجلترا تملك فريقاً يستحق المؤازرة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة