أحدث خريطة لتوزيع القوى المتصارعة في ليبيا

تحالفات متقاطعة... وتمركزات مفاجئة... وحشود عسكرية سريعة الحركة

أحدث خريطة لتوزيع القوى المتصارعة في ليبيا
TT

أحدث خريطة لتوزيع القوى المتصارعة في ليبيا

أحدث خريطة لتوزيع القوى المتصارعة في ليبيا

تُظهر أحدث خريطة لتوزيع القوى المسلحة في ليبيا تحالفات متقاطعة، وتمركزات مفاجئة في المواقع، وحشودا عسكرية سريعة الحركة. وباستثناء قوات الجيش الوطني، بقيادة المشير خليفة حفتر، في الشرق، يبدو أن باقي التنظيمات العسكرية وشبه العسكرية، في الغرب، تفتقر إلى عقيدة واضحة بشأن الهدف من وجودها، وما تريد أن تفعله في الحاضر والمستقبل.
ومنذ سقوط نظام معمر القذافي... ومنذ تفرُّق الجيش تحت ضربات حلف شمال الأطلسي (الناتو) في 2011، تشكلت في غالبية المدن مجالس عسكرية لتأمين المرافق وحياة الناس فيها، يعد أقواها هو المجلس العسكري لمدينة مصراتة، إلا أن الصراع على النفوذ، تسبب سريعا في حروب صغيرة هنا وهناك، سقط ضحيتها مئات القتلى وآلاف المصابين، وتشريد الألوف.
ومن بين خلافات المجالس العسكرية، تسللت عناصر متطرفة وصلت في بعض المدن إلى تولي رئاسة تلك المجالس، والدخول بليبيا للمجهول، ما أدى إلى ارتفاع أسهم الجيش الوطني في الشرق، بعد أن تمكن من هزيمة المتطرفين، وفرض سلطة موحدة على مساحات شاسعة من البلاد.
وفي المقابل بقيت مدن الغرب، خاصة طرابلس ومصراتة، تحت وطأة تنافس محموم من جانب مسلحين من مشارب متعددة، رغم وجود سلطة المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق برئاسة فايز السراج، المدعوم دوليا. وفي التقرير التالي صورة عن أهم مناطق وجود القوى المسلحة في عموم ليبيا، وفقا لما حصلت عليه «الشرق الأوسط» من مصادر عسكرية وأمنية مختلفة في ليبيا.
منذ عام 2014 تمكن المشير خليفة حفتر من إعادة تكوين «القوات المسلحة العربية الليبية»، وهو الاسم الذي كان يطلق على الجيش في عهد العقيد معمّر القذافي. ويبلغ قوام عناصر الجيش القديم التي كانت منتظمة في الخدمة نحو 140 ألف ضابط وجندي. لكن العدد الحالي الذي رجع للعمل تحت إمرة حفتر، يبلغ تقريبا ربع عدد القوات السابقة.
وكان الهدف من تجميع الجيش تحت اسم «عملية الكرامة»، قبل أربع سنوات، هو التصدي للجماعات المتطرفة التي استوطنت بنغازي، ثاني أكبر المدن والعاصمة التاريخية للشرق.
ولم ينجح حفتر فقط في دحر تنظيمات مصنفة دوليا كجماعات إرهابية، بل تمكن أيضاً من بسط سلطة الدولة على بنغازي، وكل مدن الشرق، ومعظمها مطل على البحر المتوسط، لكن ما زالت هناك بؤر إرهابية منتشرة في مدينة درنة التي تبعد نحو 250 كيلومترا من الحدود مع مصر، وبؤر أخرى في الصحراء الجنوبية الشرقية، وهي منطقة وعرة التضاريس.
- تمركزات الجيش
يتمركز الجيش في الوقت الراهن في معسكرات يقع معظمها في شرق البلاد حول مدينة بنغازي، خاصة منطقة الرجمة التي يدير منها المشير حفتر العمليات القتالية. وتمكن خلال الشهور الماضية من فرض حصار محكم على درنة لتضييق الخناق على الجماعات المتطرفة. ونجح في فتح معسكرات له داخل بنغازي، وفي مناطق القبة والبيضاء، وغيرها.
وللجيش وجود في الشمال الأوسط من البلاد أيضا، يمتد من إجدابيا، حتى مشارف مدينة سرت غربا. وإلى الجنوب من سرت انتزع الجيش قاعدة الجفرة الحيوية من أيدي جماعات متباينة التوجهات، لكنها كانت متحدة ضد الجيش.
وفي الجنوب قاتل حفتر بضراوة من أجل استعادة قاعدة براك الشاطئ الاستراتيجية من أيدي متطرفين في الشهور الماضية. وما زال يسيطر عليها، حيث يقوم بين حين وآخر باستخدام قاعدتها الجوية لتنفيذ غارات على جماعات متشددة في أقصى الجنوب.
وتتوزع القوى الرئيسية ذات التسليح القوي بين أربع مناطق الآن هي: الشرق، وطرابلس، ومصراتة في الغرب، وسبها في الجنوب.
- انقسامات طرابلس وما حولها
وقعت في طرابلس وما حولها حروب صغيرة متعددة كان أبرزها الحرب التي دارت في 2014 بين قوات من مدينة الزنتان الواقعة إلى الجنوب الغربي من العاصمة، وقوات من مدينة مصراتة، التي تبعد نحو مائتي كيلومتر إلى الشرق من طرابلس. لكن الأمور تغيرت والتحالفات أيضا. وفيما بعد تمكنت قوات تتكون في معظمها من أبناء العاصمة، من طرد مقاتلي مصراتة وتحالفاتهم مع الإسلاميين المتشددين، من طرابلس في صيف العام الماضي. وتوالي القوات الطرابلسية وجود السراج كحاكم في طرابلس.
- مخاوف من تاجوراء
من ناحية أخرى، الاثنين الماضي، جرى رصد تحرك من عناصر من ميليشيات مصراتة في اتجاه منطقة القره بولي في شرق العاصمة، حيث تتمركز قوات أخرى مناوئة للسراج، منذ شهور، في منطقة تاجوراء التي تفصل القره بولي عن طرابلس. وتعرف هذه القوات باسم كتيبة بشير البقرة، وهي خليط من متعاونين سابقين مع السراج، وجماعات متطرفة.
وفي اليوم التالي وصل عدد القوات الجديدة التي قدمت من مصراتة، إلى أكثر من تسعين سيارة دفع رباعي وعليها نحو خمسمائة مقاتل مدجّجين بالأسلحة. وكان من السهل رؤيتها في منطقتي العلوص والقويعة، بينما أرسلت قوات البقرة وفودا للترحيب بالمقاتلين الذين وصلوا توا.
يقول قائد في إحدى الميليشيات، إن ممثلين عن قوات على خصومة مع السراج جاءت من مقار تمركزها قرب مطار طرابلس الدولي في الجنوب، لتقديم التهنئة بسلامة وصول تلك القوات المصراتية أيضا، و«هذا لا يصب في مصلحة القوات الطرابلسية».
بيد أن هذا لا يمنع من أن تتغير كل هذه الخطط خلال أيام. فقد وقع تململ من جانب بعض العسكريين المنخرطين في القوات التي جاءت مؤخرا من مصراتة، بسبب تأخير ساعة التقدم إلى وسط العاصمة، فكان الرد أنه لم يتم حسم الأمر بعد، لأن هناك آراء، في مصراتة، تقول إن توجيه القوات لاستعادة قاعدة الجفرة العسكرية، من قوات حفتر، أهم من الدخول في حرب مع قوات السراج في طرابلس.
- قوات على حافة التمرد
ولدى القوات المتمركزة في شرق العاصمة تنسيق مع قوات تابعة لقائد عسكري يفترض أنه يعمل تحت قيادة السراج، في غرب وجنوب غربي العاصمة. لكن في الوقت الراهن يبدو أن هذا القائد، وهو برتبة لواء، لم يعد على سابق الوفاق مع السراج. ويعتقد كبار رجال الأمن في طرابلس أنه إذا ما قام هذا اللواء بالاشتراك مع مصراتة في الهجوم على العاصمة من الغرب والشرق، فإنه يمكن لقواتهما السيطرة على المدينة بسهولة. وتتحرك قوات «اللواء» في ورشفانة حيث تسيِّر دوريات عسكرية في مناطق الزهراء، والعزيزية، والساعدية، والتوغار، والماية، والكسارات، وغيرها.
وفي أحدث مؤشر على ما يشبه التمرد في أوساط قيادات عسكرية في الغرب على السراج، يتحدث مصدر عسكري عن مشادة وقعت بين ضباط بالمنطقة الدفاعيـة لطرابلس، بقيادة اللواء عبد الباسط مروان التي تعمل تحت إمرة السراج، وضباط تابعين لقائد المنطقة العسكرية الغربية، المعين من السراج، اللواء أسامة الجويلي.
ولقد لاحظ عسكريو المنطقة الدفاعية لطرابلس، وجود تحركات لأكثر من ألف عنصر من قوات تابعة لجويلي، على تخوم طرابلس، دون أن تحصل على إذن من السراج بصفته القائد الأعلى للجيش... «وهذا مثير للقلق»، كما يشير المصدر نفسه. وتم إخطار السراج بهذه التطورات، إلا أن كل شيء تغير سريعا إلى الأسوأ بالنسبة لرئيس المجلس الرئاسي، إذ تمادت دوريات القوات المشار إليها، في اتجاه طرابلس، دون إبلاغ السراج، ووصلت إلى مناطق متقدمة من جنوب العاصمة مثل العزيزية، على بعد 45 كيلومترا، والسواني على بعد 20 كيلومترا.
- القوات الطرابلسية
توجد حالياً في وسط العاصمة قوات هي خليط من المدنيين والعسكريين، محسوبة على السراج، وإن كانت تعمل بشكل فيه نوع كبير من الاستقلالية. وهذه القوات تتبع قادة معروفين منهم هيثم التاجوري، وعبد الرؤوف كارا، وعبد الغني الككلي. لكن قواتهم تعد متواضعة إذا ما قورنت بالقوات التي تملكها كل من مصراتة والزنتان مجتمعة. وتعمل القوات الطرابلسية باعتبار أنها قوات تابعة لوزارتي الدفاع والداخلية، لكنها مع ذلك تتصرف في معظم الوقت كقوات مستقلة، ولديها سجون خاصة لا تتبع أي سلطة بما فيها السلطة القضائية. وفي كثير من الأحيان تدخل في مناوشات مع السراج نفسه.
وتسببت مخاوف القوات الطرابلسية من تنامي قوات الحرس الرئاسي، وهي قوة نظامية تابعة للسراج، برئاسة العميد نجمي الناكوع، في التضييق على هذه القوة، وتهميش الناكوع نفسه. بيد أن القوات الطرابلسية ليست على قلب رجل واحد في معظم الوقت. فهي تتنافس أيضا على النفوذ فيما بينها. ودخلت في صراع ضد بعضها بعضا، قبل شهرين، بسبب رغبة كل منها في الاستحواذ على شحنة سيارات «بيك آب» مستوردة من الخارج. ويقول وسيط شارك مرات عدة في حل الخلافات بين القوات الطرابلسية: التاجوري وكارا، هما عمود الدفاع عن طرابلس، إلا أنهما لم يعودا على وفاق كما كانا في الماضي.
- الكرّ والفرّ
هذه ليست المرة الأولى التي تقترب فيها قوات ضاربة تابعة لمصراتة من العاصمة. فقد جرت مثل هذه التحركات في الشهور الماضية، دون تنسيق مع الزنتان. وفي كل مرة يبدأ التحشيد لحرب كبيرة في طرابلس، إلا أن القوات المصراتية إما أنها تعود إلى مدينتها، أو تظل متمركزة قرب العاصمة لعدة أسابيع. لكنها، ومنذ أواخر العام الماضي، حصلت على مكسب من الخلافات التي وقعت بين كتيبة البقرة والسراج. وكان بشير البقرة مكلفا بالمشاركة في تأمين العاصمة، إلى أن قام بمحاولة لاقتحام مطار إمعيتيقة، ما دفع السراج إلى رفع الغطاء القانوني عنه.
ووجد خصوم السراج فرصة لدعم البقرة والتحالف معه. وتتمركز قوات البقرة، المكونة من مئات المقاتلين، في تاجوراء شرق العاصمة، وتتعاون مع قوات من ترهونة والخُمس، بالإضافة إلى مصراتة. وهي حاليا مصدر تهديد كبير.
- قوات وزير دفاع السراج
وزير الدفاع في حكومة المجلس الرئاسي، العقيد المهدي البرغثي، يبدو أنه ليس على وفاق مع السراج. ووقع الخلاف بين الطرفين بعد حادث الهجوم على قاعدة براك الشاطئ، في جنوب البلاد منذ نحو سنة، التي تهيمن عليها قوات من الجيش الوطني الذي يقوده حفتر. وجرى قتل وإصابة عشرات الجنود في القاعدة. وتبادل السراج ووزير دفاعه الاتهامات حول المتسبب في هذه الكارثة التي هزت المجتمع الليبي.
وفي الوقت الراهن يعمل وزير الدفاع بشكل شبه مستقل عن السراج، ولديه قوات في محيط طرابلس، ولا يعلن عادة عن نياته. ولديه اتصالات مع قوى مختلفة، بما فيها قوات تقع في الخانة المناوئة للسراج. ويبلغ عدد القوات الموالية لوزير الدفاع نحو ألف مقاتل، ويوجدون في مجموعات لها أسماء عسكرية منها الكتيبة 28، وموجودة في طريق الشط، وميدان الشهداء، وسوق الثلاثاء، ووسط طرابلس، والكتيبة 92 في شارع الزاوية، ومنطقة صلاح الدين، والكتيبة 301، موجودة في طريق المطار، والسواني، والكريمية، وغيرها.
ودعم وزير الدفاع عملية «البنيان المرصوص» التي أدت إلى طرد تنظيم داعش من مدينة سرت، لكن قيادات «البنيان المرصوص» - ومعظمهم من مصراتة - تفرقت بهم السبل، فبعضهم ما زال مواليا للسراج، والبعض الآخر يناصبه العداء وينحاز للمتطرفين.
ولم يعرف موقف البرغثي من هذه الاختلافات. ولم يسجل أي اشتباك مباشر لقواته في مناطق التماس بين الإخوة الأعداء حول طرابلس، أي في تاجوراء والزاوية، ووادي الربيع، حيث يوجد هناك خليط من المئات من العناصر المسلحة، بعضها من الموالين للسراج وبعضها من خصومه.
- العودة إلى المطار
جدير بالذكر، أنه وقعت الحرب بين مصراتة والزنتان في 2014. وكان آخر مظاهرها الاقتتال الشرس حول مطار طرابلس الدولي. ولقد تحصن مقاتلو الزنتان في المطار، وقامت قوات مصراتة بقصفهم بكل أنواع الأسلحة، ما أدى لحرق المطار بما فيه من طائرات، وانسحاب الزنتان إلى مدينتهم.
واليوم، إذ تخشى أطراف في المجلس الرئاسي من مغبة تحالف هاتين القوتين، يجري بحث مقترحات تقدمتا بها لأطراف في المجلس الرئاسي، بشكل غير رسمي، لكي تقتسم مصراتة والزنتان إدارة المطار وما حوله من أراض ومزارع في جنوب العاصمة.
ويقول مستشار في طرابلس، إن هذا مخرج مهم لتجنب وقوع حرب، لكنه يضيف أن هناك من يعارض هذا المقترح، وعلى رأس هؤلاء القوات الطرابلسية، فأي وجود لمصراتة والزنتان في أي مكان في طرابلس هو بمثابة تهديد مباشر لمئات من قوات التاجوري، وكارا، والككلي، وهي القوات التي يعتمد عليها السراج في نهاية المطاف.
- أنصار النظام السابق
أخيراً، تقول مصادر ممن كانت في الماضي من معاوني القذافي، إن هناك نحو سبعين ألفا من الضباط والجنود ممن لم يلتحقوا، منذ 2011، بالجيش الذي يقوده المشير حفتر، لأسباب سياسية تتعلق بانحياز حفتر إلى الانتفاضة التي أطاحت القذافي. ويشير إلى أن هؤلاء إما أنهم لجأوا إلى المنافي الاختيارية في مصر وتونس والجزائر وغيرها، للحفاظ على أرواحهم، أو اختاروا البقاء داخل ليبيا انتظارا لتغير الظروف على الأرض، خاصة من جانب المجتمع الدولي الذي يرفض عودة قادتهم للواجهة.
ومع ذلك، فإن معظم القيادات العسكرية التي تعمل مع حفتر هم أساساً من الجيش الليبي السابق. لكن بالنسبة لمن هم في داخل ليبيا، وينتظرون تغير الأوضاع، فيتركز وجودهم في مدينة بني وليد التي ما زالت تعلق صور القذافي على جدران المباني. وتوجد بعض البلدات في إقليم فزان، جنوبا، ما زال فيها قادة عسكريون يتمسكون بمبادئ القذافي، رغم أن بعضهم يتولى القيادة في مناطق عسكرية تابعة لحفتر.
- قوات الجضران
> ظهر اسم إبراهيم الجضران آمرا لحرس المنشآت النفطية في المنطقة الواقعة بين مدينتي إجدابيا وسرت. وكان يزعم أن لديه آلاف المقاتلين في تلك المنطقة التي تحوي مصافي لتصدير النفط، ودخل في حروب ضد المشير حفتر لحكم المنطقة بالقوة، لكنه خسرها، ومن ثم تفرق معظم مقاتليه. وجرى إقالته من جانب السلطات الحاكمة في شرق ليبيا وغربها.
وألقي القبض على الجضران قبل سنة، وأودع سجن في بلدة نالوت، جنوب غربي طرابلس، إلا أنه فر من محبسه ثم ظهر قبل أسبوعين في مصراتة، التي أصبح يهيمن عليها تحالف من زعماء «الإخوان» و«القاعدة» و«داعش».
ويقول مصدر أمني: «هناك أطراف محلية وإقليمية تعمل ضد حفتر، هي من ساعد على جمع المقاتلين، من متطرفين ومرتزقة أفارقة، لشن هجوم على المصافي النفطية، انطلاقاً من مركز عمليات يديره متشددون في مصراتة، في محاولة لتشتيت جهود الجيش في درنة. ويخشى المتطرفون من أي تقدم لحفتر في اتجاه غرب البلاد».
- جيش الصحراء
> يوم الخميس من الأسبوع الماضي، وأثناء الإعداد لشن هجوم على منطقة «الهلال النفطي»، شوهدت قوات تابعة لجماعات من متطرفين ومرتزقة في الصحراء الليبية والمعروفة باسم «جيش الصحراء»، وهي في طريقها للالتحاق بالهجوم على مصافي النفط. وتتمركز هذه القوات في مناطق ذات طبيعة صخرية بركانية في وسط الصحراء منها «الهروج» و«الجبال السود» و«أم الغرانيق» و«قرارة خلف الله».
ولا يقتصر وجود المقاتلين هناك على «جيش الصحراء» الذي شكله مقاتلو «داعش»، الفارون من مدن الشمال، ولكن المنطقة تضم مسلحين مناوئين لحكومات بلادهم في أفريقيا ومتطرفين قادمين من دول أفريقية، وآخرين فارين من مناطق القتال في العراق وسوريا. وانخرط مرتزقة من هؤلاء في الهجوم على الهلال النفطي.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.