بيدرو سانشيز... «الشاب الوسيم» على رأس الحكومة الإسبانية

حقق حلم استعادة السلطة للاشتراكيين بعد «سنوات الظل»

بيدرو سانشيز... «الشاب الوسيم» على رأس الحكومة الإسبانية
TT

بيدرو سانشيز... «الشاب الوسيم» على رأس الحكومة الإسبانية

بيدرو سانشيز... «الشاب الوسيم» على رأس الحكومة الإسبانية

أطاح تصويت على الثقة بحكومة رئيس وزراء إسبانيا اليميني ماريانو راخوي، زعيم الحزب الشعبي، الذي حكم البلاد بين 21 ديسمبر (كانون الأول) 2011 وأول يونيو (حزيران) الحالي. وبعد فترة ارتباك وضياع سادت معسكر اليسار الإسباني، تمكَّن الزعيم الاشتراكي الشاب بيدرو سانشيز عبر تصويت الثقة وإسقاط حكومة راخوي من استعادة السلطة للاشتراكيين.
بيدرو سانشيز (تلفظ سانتشيث، باللغة الإسبانية)، الرئيس الجديد، والسابع للحكومة الإسبانية في الحقبة الديمقراطية الحديثة التي بدأت بعد وفاة الديكتاتور الجنرال فرانشيسكو فرنكو، لا يحتفل بعيد ميلاده سوى مرة واحدة كل أربع سنوات.
سانشيز «الوسيم»، ولد يوم 29 فبراير (شباط) عام 1972 في كنف عائلة مدريدية ميسورة كانت ترسله وشقيقه الأصغر لتمضية عطلة الصيف في ربوع الأرياف البريطانية لتعلّم اللغة الإنجليزية و«الانفتاح على العالم»، كما يردد والده الذي كان يريد لابنه البكر مستقبلاً مهنيّاً خارج إسبانيا.
بيد أن بيدرو الصغير كان يحمل مشروعاً آخر في رأسه ويعمل على تنفيذه بمثابرة لا تعرف الإحباط ولا الملل. ومن المنصف القول إن ثباته اللافت على مواقف جريئة لم يكن يراهن عليها أحد، كان مجزياً... وإن طالعه كان سعيداً في أكثر من مرحلة بدت خلالها الآفاق مسدودة أمام مشروعه.

الدراسة والانطلاق
بعد إنهاء دراسته الثانوية في أحد المعاهد الخاصة في العاصمة، التحق بيدرو سانشيز بكلية الاقتصاد في جامعة مدريد المركزية حيث تخرّج في أحد معاهدها المخصصة للنخبة، ثم بدأ بإعداد أطروحة الدكتوراه التي نالها عام 1998، وانتقل إلى العاصمة البلجيكية والأوروبية بروكسل ليعمل مستشاراً في البرلمان الأوروبي، وهناك بنى علاقات مع بعض السياسيين الاشتراكيين الذين سيواكبون مسيرته السياسية ويدعمونها لاحقاً.
ومن بروكسل، سافر إلى نيويورك حيث عمل مساعداً في بعض المؤسسات المالية «لاكتساب الخبرة والوقوف مباشرة على واقع النظام الرأسمالي». وفي نيويورك توطّدت علاقته بمندوب إسبانيا لدى الأمم المتحدة والوزير الأسبق للخارجية كارلوس وستندورب الذي - عند تعيينه مندوباً للأمين العام في سراييفو إبان حرب كوسوفو - استدعاه ليكون مديراً لمكتبه خلال فترة يصفها سانشيز بأنها كانت «الأكثر تأثيراً في حياته الشخصية والمهنية على غير صعيد».
عاد سانشيز إلى مدريد ليكمل مشروعه الذي كان يحتفظ به سراً ويعدّ له بتصميم وثبات. وفي عام 2004 أصبح عضوا في المجلس البلدي للعاصمة، إلا أنه استقال بعد خمس سنوات كي يدخل البرلمان بديلاً لأحد الوزراء الاشتراكيين الذي اضطر للاستقالة عند توليه مفوضيّة الاقتصاد في الاتحاد الأوروبي. وفي عام 2010 اختاره الصحافيون الذين يغطّون أخبار البرلمان «النائب الواعد»، وبدأت مرحلة صعوده السريع والمتعثّر نحو قيادة الحزب الاشتراكي العمالي الإسباني، الذي تولّى قادته رئاسة الحكومة الإسبانية أربع مرات منذ وفاة الجنرال فرنكو.

الاشتراكيون... و«سنوات الظل»
في عام 2014 عصفت أزمة داخلية قوية بالحزب الاشتراكي الإسباني إثر هزيمته في الانتخابات العامة ونشوب صراع شديد بين تّياراته الإقليمية لتولّي القيادة، انتهى بفوز سانشيز (أو سانتشيث) بمنصب الأمين العام كمرشح وسطي وتوافقي بانتظار «هدوء العاصفة» وبروز غالبية واضحة وقيادة جديدة. ولكن خلال العامين التاليين مني الحزب الاشتراكي بهزيمتين أخريين عمّقتا الانقسامات الحادة في صفوفه بعد تراجع شعبيته وصعود حركة «بإمكاننا» التي باتت تهدّد زعامة الاشتراكيين للمشهد اليساري في إسبانيا. ولقد بلغت حدة الانقسام داخل الحزب في تلك المرحلة حد «الانفساخ» بين المعسكر المؤيد لسانشيز ومعسكر الغالبية بقيادة الزعماء التاريخيين للحزب مثل رئيس الوزراء الأسبق فيليبي غونزاليس (تلفظ غونثاليث) الذي ما زال يتمتع بنفوذ قوي بين القيادات والقواعد الشعبية الاشتراكية.
ولم يكن سراً أن المعسكر الأخير كان يهدف إلى إسقاط سانشيز بدفعه إلى الاستقالة، بينما كانت أجهزة الإعلام القريبة من خط غونزاليس، وفي مقدمتها صحيفة «إل باييس» النافذة والواسعة الانتشار، تشنّ حملة غير معهودة في قسوتها على سانشيز مطالبةً بتنحّيه عن منصب الأمين العام. وهنا يقول بعض المقرّبين الذين ظلوا على وفائهم لسانشيز إبان الفترة التي كانت تنصبّ عليه فيها كل الانتقادات والاتهامات وتحمّله مسؤولية الهزائم الانتخابية، إن تلك المرحلة كانت من الصعوبة والقسوة والإجحاف بما يكفي ويزيد لتدمير أي زعامة والقضاء نهائيا على احتمالات نهوضها. غير أن القيادي الشاب أبدى من برودة الأعصاب ورباطة الجأش وروح المسؤولية والنزاهة الفكرية ما يندر وجوده عند كبار الزعماء المخضرمين. هذه المزايا رسّخت قناعة مؤيديه، بل وعدّلت في مواقف بعض خصومه، بأنه حقاً الرجل المناسب لقيادة الحزب ومواصلة المسيرة للعودة إلى الحكم.
مع هذا، ما كانت الأرقام في مصلحة سانشيز عندما انشطر الحزب بين خصومه المؤيدين لمنح الثقة لحكومة راخوي اليمينية مقابل بعض التنازلات، وتيّاره المعارض منحها الثقة لأنها «حكومة حزب يعشّش فيه الفساد، تتغاضى عن الفساد وتكافئ مرتكبيه، ويتوجب حجب الثقة عنها لأسباب أخلاقية». وبالتالي، أجبر القيادي الشاب، يومذاك، على الاستقالة من منصب الأمين العام للحزب. وعلى الأثر قرّر التخلّي عن مقعده البرلماني كي لا يضطر لتأييد حكومة راخوي عملاً بالقرار الذي اتخذته اللجنة التنفيذية للحزب الاشتراكي والذي يُلزِم النواب الاشتراكيين تنفيذه.
تلك كانت في توقعات كثيرين النهاية المعلنة لمسيرة الشاب الوسيم الذي «دأب يدرس ويتعلّم، ويحلم بأنه سيتمكن يوما من تغيير الحياة السياسية في إسبانيا نحو الأفضل»، كما يقول شقيقه الأصغر - الذي درس الاقتصاد أيضاً - وانتهى به الأمر قائدا لأوركسترا. غير أن الذين راهنوا على استسلام سانشيز كانوا يجهلون قوة عزمه وصلابة إرادته وإصراره على مواصلة السعي نحو الهدف الذي وضعه نصب عينيه منذ سنوات.

العودة إلى القمة
وحقاً، بعد أسابيع من استقالته عاد بيدرو سانشيز لينافس خصومه، وفي طليعتهم زعيمة الحزب الاشتراكي في إقليم الأندلس - الذي يعد الخزّان الانتخابي للاشتراكيين - في الانتخابات الأولية لمنصب الأمين العام. وبعد حملة مكثفة جال فيها على قواعد الحزب في الأقاليم الإسبانية، وبخلاف كل التوقعات، فاز على منافسيه الأندلسية سوزانا ديّاز (ديّاث) والباسكي باتشي لوبيز (لوبيث)، وعاد إلى زعامة الحزب من غير منازع منظور هذه المرة.
هذه العودة إلى قيادة الحزب الاشتراكي كانت انتصاراً شخصياً كبيراً لسانشيز على خصومه الذين حاولوا إسقاطه بإصرار غير معهود، واستخدموا كل الوسائل لتدمير سمعته والتشكيك في قدراته القيادية. لكن حنكته، التي راحت تتبدّى مع ظهور الانتكاسات في طريقه، تجلّت في خطابه الجامع دائماً، ونأيه عن تغذية الأحقاد، وحرصه على احتواء الخصوم وتحاشي الوقوع في إغراء الإجراءات الانتقامية. كذلك تجلت في الروح الانضباطية والرياضية التي واجه بها العثرات، وتغليبه الاعتبارات الأخلاقية على المقتضيات التقليدية للعمل السياسي.

التكتيك الذكي

لقد كان يدرك أن انتصاره داخل الحزب سيبقى منقوصاً بقدر ما هو قصي عن هدف الوصول إلى رئاسة الحكومة. إذ كانت دون هذا الهدف عقبات كثيرة ليس أقلّها التمثيل البرلماني الضعيف للحزب الاشتراكي في البرلمان والتشرذم الكبير وغير المسبوق للأحزاب السياسية.
من هنا تتجلّى براعة القيادي الشاب وجرأته في اختيار أسلوب العمل السياسي وتحديد أهداف مراحله. إذ كان يدرك أن تغيير معادلة التمثيل البرلماني، الذي هو الأساس للوصول إلى رئاسة الحكومة، مستحيل في الظروف الراهنة التي تحول دون إجراء انتخابات قبل موعدها الدستوري بعد سنتين. أيضاً كان موقناً أن الانتخابات المبكرة، في حال إجرائها، قد تكون كارثيّة بالنسبة للحزب الاشتراكي طالما هو في المعارضة. ولذا، انصبّت كل حسابات سانشيز على الوصول إلى رئاسة الحكومة من خارج صناديق الاقتراع بالطريقة الوحيدة الممكنة، أي حجب الثقة عن حكومة راخوي في البرلمان، وتشكيل حكومة اشتراكية تتجاوب مع المطالب الملّحة للمواطنين، كالاهتمام بالأوضاع الاجتماعية ومكافحة الفساد السياسي المُستشري وتنفيس الاحتقان الانفصالي. كل هذا تمهيداً للانتخابات العامة المقبلة واستعادة الشعبية المفقودة.
لم يكشف سانشيز أوراقه إلا لعدد ضئيل جداً من مساعديه، مع العلم أن بعضهم حذروه من مغبَّة الإقدام على هذه المجازفة التي قد تعيده إلى نقطة الصفر في حال فشلها، لا سيّما أن خصومه في الداخل ينتظرون أي هفوة لاستئناف معركة إزاحته عن قيادة الحزب. غير أنه لم يكن مستعداً للانتظار طويلاً في صفوف المعارضة بانتظار أن تسنح الفرصة التي قد لا تأتي أبداً وهو خارج البرلمان. وهكذا، مدّ يده كزعيم مسؤول للمعارضة إلى غريمه راخوي لمواجهة التحدي الانفصالي في إقليم كاتالونيا، وراح يراقب المسار الاهترائي للحزب اليميني الحاكم أمام عجزه عن فتح معابر التهدئة مع الانفصاليين وتحت وطأة فضائح الفساد، منتظراً اقتناص المناسبة التي تتيح له الانقضاض على خصمه وهزيمته بالضربة القاضية. وعندما أعلنت المحكمة العليا قرارها النهائي في كبرى قضايا الفساد ضد الحزب الشعبي الحاكم، وقضت بسجن عدد من الوزراء وكبار المسؤولين السابقين وشكّكت في صدقية الشهادة التي أدلى بها رئيس الحكومة راخوي أمام المحققين، أدرك سانشيز أنه بات قاب قوسين أو أدنى من الموعد المنتظر. إلا أنه مع ذلك - كما كشف أحد أعوانه أخيراً، فضّل التريّث مراهناً على عدم صدور ردة فعل من راخوي في مستوى خطورة الأحكام القضائية والاستياء العميق بين المواطنين، ما سيفاقم وضعه ويزيد من عزلته. وصحّ الرهان عندما أصرّ راخوي على أن الأحكام كانت مجحفة من حيث قسوتها. وادعى أنها تطال حقبة سابقة لعهده كرئيس للحكومة، مكتفياً بالدعوة إلى تركيز الجهود على ترسيخ الاستقرار الاقتصادي ومواجهة التحرك الانفصالي بثبات.
ولكن، عندما حان موعد تقديم طلب سحب الثقة من حكومة راخوي، قرر سانشيز المغامرة بالمضي في رهانه حتى النهاية، رافضاً التفاوض مع أي من القوى السياسية التي يتعذر إسقاط الحكومة من غير تأييدها لطلب سحب الثقة، وصرّح بأن الدافع وراء خطوته هو الاعتبار الأخلاقي والاستجابة لمطالب المواطنين بسياسة نزيهة واجتماعية.
مجدداً، روح المغامرة، أو النزاهة السياسية، عند القيادي الإسباني الشاب ما كانت قد بلغت ذروتها بعد. إذ إنه عندما تيقّن من أنه سيحصل على التأييد الكافي لإسقاط الحكومة، عرض على راخوي الاستقالة مقابل سحب طلبه حجب الثقة بحيث يبقى الحزب الشعبي في الحكم ويكلّف شخص آخر تشكيل الوزارة، لكنه لم يلقَ تجاوباً من راخوي الذي كان اتهمه بأنه يريد الوصول بأي ثمن إلى رئاسة الحكومة.

في نعيم السلطة
عشرة أيام فقط انقضت على تشكيل حكومة بيدرو سانشيز، لكن الأجواء السياسية والاجتماعية تبدو أكثر انفراجا وميلا إلى التفاؤل في إسبانيا.
لم يضع سانشيز عناوين كبيرة لبرنامجه الحكومي الذي حصر أهدافه الكبرى بمعالجة القضايا الاجتماعية الملحة التي أهملتها الحكومات اليمينية السابقة، واستعادة ثقة المواطنين بإدارة الشأن العام ومكافحة الفساد من غير تساهل، وفتح قنوات الحوار التي انقطعت بين القوى والأحزاب السياسية. وقد جاء القرار الأول الذي اتخذه سانتشيث باستقبال المهاجرين الأفارقة الذين رفضت إيطاليا استقبال سفينتهم التائهة في عرض البحر، بمبادرة فردية من غير التشاور مع أفراد حكومته، كمؤشر قوي على تغيير سياسة الحكومة في ملف الهجرة ومقاربة القضايا الاجتماعية والإنسانية. كما أن معالجته السريعة والحاسمة لأول أزمة واجهت حكومته عندما أوعز لوزير الثقافة بالاستقالة الفورية بعد انكشاف محاولته التهرب من دفع الضرائب منذ عشر سنوات، رغم تسوية وضعه القانوني لاحقاً مع وزارة المالية وسداد ما عليه من مستحقات، أظهرت أن ثمة ثقافة جديدة ستقوم عليها سياسة سانتشيث في التصدّي لمشكلة الفساد.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.