كأنها طالعة من جعبة هيتشكوك أو من خزائن التراجيديا الإغريقية هذه الأزمة السياسية الإيطالية المتمادية التي تحبس الأنفاس في العواصم الأوروبية وأسواق المال منذ نهاية الأسبوع المنصرم، وتنذر بدفع المشروع الأوروبي إلى شفا هاوية أعمق من الأزمة اليونانية أو الاستفتاء البريطاني للخروج من الاتحاد. كل عناصر المأساة متوفرة في هذا البلد الذي تعوّد العيش على خطوط التوتر فيما يراقب انحلال تركيبته السياسية التقليدية في ماء الفساد والفشل، بينما تتشكّل وتترسّخ معادلات عشوائية بدأت توقظ أشباح الماضي غير البعيد وتلقي بظلالها القاتمة على المشهد الاقتصادي والاجتماعي في أوروبا المجاهدة للنهوض من كبواتها المتواصلة.
بعد الدراما التي عاشتها إيطاليا مساء الأحد الماضي عندما وصلت حدة الصدام بين رئيس الجمهورية وحركة النجوم الخمس المتحالفة مع رابطة الشمال حول تأليف الحكومة إلى مرحلة القطيعة النهائية، والبيان الحازم الذي صدر عن ماتّاريلّا يعفي فيه الرئيس المكلف من مهامه، تنفّست أوروبا الصعداء بعد أن كانت تغلي على قلق من تشكيل حكومة تتصدر مناهضة المشروع الأوروبي بنود برنامجها. وفيما كان جيوزيبي كونتي يغيب بأسرع مما ظهر على خشبة المسرح السياسي الإيطالي الذي لا يترك مجالا للرتابة أو الملل، كان رئيس الجمهورية يستدعي كارلو كوتّاريلّي، الموظف السابق في صندوق النقد الدولي، لتكليفه تشكيل حكومة انتقالية تشرف على تصريف الأعمال حتى إجراء الانتخابات المقبلة.
كوتاريلي لم يقدم أمس تشكيلة حكومته عقب اجتماعه مع الرئيس ماتاريلا كما كان متوقعا، مشيرا إلى أن الاثنين سيلتقيان مجددا اليوم الأربعاء. وقال جيوفاني جراسو المتحدث باسم الرئيس: «رئيس الوزراء المعين التقى بالرئيس وأبلغه بشأن الموقف الحالي. سيلتقي الاثنان مجددا صباح غد (اليوم)».
تلك الخطوة كانت أبغض الحلال بالنسبة للرئيس الذي كان يخشى الأعظم من إصرار الرابطة والحركة على تولية حقيبة الاقتصاد والمال لشخصية معروفة بعدائها الشديد للعملة الأوروبية الموحدة، ومن المعلومات التي كانت تتحدث عن خطة جاهزة لإخراج إيطاليا من منطقة اليورو في الأسابيع الأولى من تولّي الحكومة مهامها. لكن ماتّاريلّا كان يعرف أن الحكومة التي سيشكّلها كوتّاريلّي ستولد ميتة لحظة مثولها أمام البرلمان حيث تمسك حركة النجوم الخمس ورابطة الشمال بالأغلبية، وأن الفصل التالي المحتوم في هذه الأزمة سيكون العودة إلى الانتخابات التي يُرجّح أن يتعزّز فيها فوز الحركة والرابطة بأغلبية أوسع.
وعمل كوتاريلي، 64 عاما، مديرا لدائرة الشؤون المالية في صندوق النقد الدولي بين 2008 و2013، وهو معروف بتأييده التقشف حيث قام بخفض الإنفاق العام في إيطاليا في عامي 2013 و2014، وقال إنه إذا حصلت حكومته على ثقة البرلمان ستبقى لتصريف الأعمال حتى تنظيم انتخابات «مطلع 2019». لكن في حال عدم حصولها على ثقة البرلمان، تتم الدعوة لانتخابات مبكرة «بعد أغسطس (آب)، وهو ما يبدو مرجحا نظرا لحجم الشعبويين في البرلمان. وفقط الحزب الديمقراطي (وسط - يسار) أعلن إنه سيصوت على منح الثقة.
المؤشرات الأولى على خطورة تداعيات هذه الأزمة جاءت من أسواق المال، حيث سجّلت بورصة ميلانو تراجعا بنسبة 2.5 نقطة مئوية وتبعتها البورصات الأخرى في المحيط الأوروبي، فيما كان مؤشر المخاطر على المديونية الإيطالية (الفارق في معدّل الفائدة على الدين العام بين إيطاليا وألمانيا) يصل إلى أعلى مستوى منذ العام 2014، ومما يزيد من خطورة هذا الوضع أن الاقتصاد الإيطالي يعاني من الركود منذ عشرين عاما، ويجرّ أعباء الدين العام الرابع في العالم والثاني في أوروبا بعد اليونان. أما المفوضّية الأوروبية التي تحاول تمويه قلقها من الأزمة الإيطالية، فقد بدأت تلمّح إلى أن الإجراءات التقشفية والتدابير المالية الصارمة التي تعتزم طرحها على القمة الأوروبية المقبلة لحماية اليورو «يمكن تأجيلها في الوقت الراهن».
المستشارة الألمانية آنغيلا ميركيل أعلنت من جهتها.. «أنه لا بد من التنسيق مع كل الحكومات، لكن ينبغي الامتثال للمبادئ التي قامت عليها منطقة اليورو»، وتمنّت أن تتشكل حكومة مستقرة وملتزمة المشروع الأوروبي في إيطاليا. لكن هذه التصريحات لم تبدد الغضب الذي ساد أوساطا سياسية واسعة في إيطاليا تتهم برلين بالتدخل في الأزمة الحكومية ومحاولة فرض برنامج اقتصادي يتماشى مع أهدافها ومصالحها. وكان زعيم الرابطة ماتّيو سالفيني قد رفض أن تكون بلاده مستعمرة ألمانية، فيما يعتبر الاقتصادي باولو سافونا الذي أصّرت عليه الحركة والرابطة كوزير للمال، أن «السياسة الاقتصادية لبرلين تقوم على نفس المبادئ التي قامت عليها السياسة الاقتصادية والمالية للرايخ الثالث»، وأن دخول إيطاليا إلى منطقة اليورو خطأ تاريخي يجب الاستعداد للخروج منها عند الحاجة.
مفوّضة السياسة الخارجية الأوروبية فيديريكا موغيريني، التي سبق أن تولّت حقيبة الخارجية في إيطاليا، أعربت عن ثقتها في المؤسسات الإيطالية وبرئيس الجمهورية «للدفاع عن مصالح الإيطاليين التي تتطابق مع استقرار الاتحاد الأوروبي وقوة مـؤسساته». لكن المفاعيل الداخلية لهذه الأزمة قد بلغت مستوى غير مسبوق من التصعيد والخطورة بعد الهجوم المباشر على موقع رئيس الجمهورية والدعوة إلى عزله في البرلمان، والاحتمالات شبه المؤكدة بالعودة إلى نقطة الصفر بعد الانتخابات المسبقة، هذا إذا تمكّن المشهد السياسي من الصمود في وجه مزاجية أسواق المال وجبروتها.
كونتي يغيب بأسرع مما ظهر على المسرح السياسي الإيطالي
حكومة كوتاريلي ستولد ميتة لحظة مثولها أمام البرلمان
كونتي يغيب بأسرع مما ظهر على المسرح السياسي الإيطالي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة