من التاريخ.. حروب الفكرة: توماس هوبز

من التاريخ.. حروب الفكرة: توماس هوبز
TT

من التاريخ.. حروب الفكرة: توماس هوبز

من التاريخ.. حروب الفكرة: توماس هوبز

يزداد إيماني يوما بعد يوم بأن الحدث التاريخي أو السياسي إما تسبقه فكرة ما وإما مجموعة أفكار تؤدي إليه وإما تنتج عنه مجموعة من الأفكار، وهذه ظاهرة إنسانية وتاريخية طبيعية ازدادت وتيرتها بشكل ملحوظ خلال القرون الخمسة الماضية التي شكلت النظام الدولي وذلك حتى وصولنا لمرحلة العولمة، التي أصبحت لها فلسفتها السياسية والاقتصادية الخاصة ومبشروها الذين ينادون بها، وهو ما دفع مفكر مثل «فرنسيس فوكوياما» لاعتبار العالم قد وصل لمحطة النهاية للفكر فاستقرت عندها مبادئ الديمقراطية وآليات السوق الحرة والفكر الليبرالي، بعدما استطاعت هذه الآيديولوجية أن تهزم الآيديولوجيات المنافسة، وعلى رأسها الفاشية خلال الحرب العالمية الثانية والشيوعية خلال الحرب الباردة، وهو نفس ما وصل إليه مفكر مثل «كارل ماركس»، ولكن بشكل عكسي عندما رأى في اعتناق البشرية مستقبلا للشيوعية المنتظرة نهاية لجدليته المادية والفكرية على حد سواء؛ وتقديري أن كل هؤلاء المفكرين قد ذهبوا لأبعد نقاط التفكير البشري، لأنهما حجما الإنسان ونزعوه قدرته على التنوع والتغيير والتحريك، وهي في تقديري محاولات فاشلة للتحجيم البشري.
ومن هذا المنطق، فإنني استأذن القارئ العزيز أن نتناول خلال الأسابيع القليلة المقبلة ما يمكن تسميته عمليا «صراع الفكرة» التي ولَّدت لنا ما يسمى انتصار الآيديولوجية الليبرالية وآليات السوق الحرة، التي بدا كأنها تسيطر على الضمير الإنساني في أغلبية بقاع العالم بشكل قد يختلف معه البعض.
أيا كانت الآراء، فإنه مما لا شك فيه أن أوروبا شهدت خلال القرون الخمسة الماضية حركة فكرية هائلة، جعلت هناك صراعا فكريا حول مسيرة السياسة ما بين الفكر المحافظ والليبرالي والفاشي، ثلاثية آيديولوجية مؤثرة كان لها دورها في تطور أنظمة الحكم الأوروبية والدولية، ويمثل الفيلسوف الإنجليزي «توماس هوبز» المركز الأساسي للفكر السلطوي المحافظ الذي تظل أركانه الأساسية صالحة في تقدير البعض لعدد من المجتمعات، بينما ترى أغلبية أنه يؤسس للحكم الأوتوقراطي - السلطوي، الذي لا مكان له في عالم اليوم.
لقد ولد «هوبز» فكريا على هامش الثورة الإنجليزية التي أتت بعد ذلك بـ«أوليفر كرومويل» في نهاية المطاف بدلا من الملك «تشارلز الأول» الذي قُطِع رأسه على أيدي الثوريين، وقد بدأ «هوبز» فكره برفض الفكر الثوري، وهو ما جعل الكثير يعتبرونه ملكيا بسبب أفكاره المتحفظة ضد الثورة، ولكننا يمكن أن نحسبه اليوم على اعتباره ميالا للدولة أو السلطة المركزية أكثر منه للملك، فالملك بالنسبة له ما هو إلا تجسيد للدولة، خاصة أنه بعد سنوات في المنفى عاد ليعلن ولاءه للديكتاتور الديني «أوليفر كرومويل» باعتباره مخلصا سياسيا لإنجلترا الثورية من حالة الفوضى الممتدة والفراغ السياسي الذي أصابها.
وأيا كانت ميوله، فإن «هوبز» يظل يمثل فكرا محافظا شاملا يعرض لرؤية أساسية، بدأت من منطلق رئيس وهو عدم ثقته بالإنسانية، فلقد وصف حياة إنسان الفطرة، أو كما يحلو له تسميته «حالة الطبيعة»، بأنه شخصية أنانية وغير ملتزمة، هدفها الأساسي هو الحصول على أكبر قدر من السلطة، وهو شعور لا ينتهي إلا بموته، ومن ثم تكون حياته - كما وصفها - «وحيدة وفقيرة وقاسية وقصيرة»، ومن ثم جاء فكره الذي عبر عنه في كتابه «المارد Leviathan» ليعكس هذه الرؤية، فكان يقصد بالمارد هنا الدولة ذات السلطة، التي يرى أنها المنظم الوحيد للأفراد لكي يعيشوا حياة إيجابية ومنتجة، فكتب يقول: «إنني أضع التوجه العام للإنسانية الذي تسيطر عليه رغبة جارفة في السلطة تلو السلطة بشكل ممتد وغير منظم، وهو شعور لا ينتهي إلا بالموت...». ولذلك، فإن الفرد لا يمكن أن يضمن هذا القدر من السلطة أو الحياة الكريمة إلا بمزيد من السلطة، من هنا رأى هذا المفكر أن الفرد لن يكون في مأمن طالما غابت السلطة المدنية عن تنظيم العلاقات بين أفراده، وإلا فستصبح الحياة في المجتمع «حربا بين كل إنسان وآخر».
ولهذا، يقر «هوبز» بوجود اختلافات كبيرة بين العالم المادي والفرد، الأول يحركه نظام هندسي رياضي واضح الأبعاد، كذلك الجسد البشري فلديه البعدان المادي والنفسي، ودور الفرد في المجتمع أمر مختلف، فالنظام الاجتماعي مصطنع وليس طبيعيا، من ثم فإن الإنسان يجب أن يصل له من خلال القانون الطبيعي والحدس السياسي، وهو ما يشير إلى ضرورة إيجاد السلطة المنظمة بين أفراده من خلال ما وصفه بالعقد الاجتماعي، ولكن هذا العقد بالنسبة له كان يعني شكلا مختلفا، فبمقتضاه يدخل الأفراد فيه ويتنازلون عن بعض حقوقهم لصالح السلطة المركزية لتقوم بتنظيم «الكومنولث» أو المجتمع أو الدولة كما وصفها، ويكون لهذه السلطة دورها الواضح كخط فاصل بين أمن ومصلحة الفرد من ناحية مقابل المصلحة الجماعية للأفراد من ناحية أخرى، بحيث يتم التنازل عن بعض جوانب الفردية لصالح التوجه الجمعي.
ولكن فكر الرجل لم يقف عند هذا الحد، بل إنه كان على قناعة كاملة بأن هذه السلطة المركزية يجب أن تكون مطلقة، فالعقد الاجتماعي بالنسبة له لم يتضمن النيل من سلطة الحاكم، وهنا يؤكد الرجل ضرورة أن يكون القائم بأعمال الدولة شخصا قويا، يفضل أن يكون ملكا، لأن هذا لا يضع الأعباء على الدولة لكي تحكم من خلال مجموعة فيكون إرضاء كل فرد فيها على حساب الدولة ومصلحتها، وقد برر «هوبز» السلطة المطلقة بكلمات واضحة هي أن «رباط الكلمة أضعف من أي يواجه طموحات الفرد أو غضبه أو مشاعره الجياشة، وذلك من دون الخوف من قوة قادرة على استخدام العنف ضده»، وعندئذ فقط تكون لهذه الشخصية أو الحكومة القدرة على إبقاء السلام الاجتماعي وفقا لهوبز، ومن ثم منح الحاكم حق فرض العقوبات لكبح جماح الميول غير الاجتماعية داخل المجتمع، وقد وصل تقديس «هوبز» للدولة كمفهوم تنظيمي على اعتبارها أهم شيء على الأرض والخروج عليها يمثل خطيئة سياسية ومعنوية على حد سواء، فهي أهم من الكنيسة أو السلطة الدينية التي اعتبرها جزءا من الدولة أو الكومنولث وليس العكس، ومن ثم ضرورة أن تخضع سلطات الكنيسة الدنيوية للدولة بشكل واضح وصريح.
وواقع الأمر أن التخوف الذي ملأ هذا الرجل كان جارفا، فلقد وصل «هوبز» في تقديسه السلطة الحاكمة إلى الحد الذي دفعه لرفض أي نوع من أنواع الثورة، لأنه كان يعتقد أن الحاكم خارج نطاق العقد الاجتماعي، فهو عقد بين المواطنين أنفسهم لصالح السلطة المركزية التي يجب ألا تخضع له: «فالملك فوق الرعية» من وجهة نظره، كما أنه يجب ألا يشاركه في سلطته أي أجهزة أخرى، بما فيها البرلمان، وهنا كان الرجل واقعا تحت تأثير ظروف الثورة الإنجليزية، لأنه كان يرى أن من أسباب اندلاعها تقاسم السلطات بين الملك واللوردات ومجلس العموم (البرلمان)، وعندما كتب كتابه الشهير «ليفياثان» فإن كرومويل الثوري لم يكن قد بسط نفوذه على إنجلترا بعد بالشكل الكامل.
لعل من أكثر الانتقادات التي يسوقها البعض لنظرية «هوبز»، هي أنه رأى العالم بنظرة قاسية وموحدة من خلال معادلة السلطة المطلقة أو الفوضى المطلقة، ولكن هذا شيء طبيعي يحدث للمفكرين أثناء الثورات، ففي هذه الظروف وعندما تعم الفوضى البلاد عقب الموجة الثورية، فإن التركيز غالبا ما يكون على أهمية الحفاظ على كيان الدولة والسلطة الحاكمة فيها، ومن ثم فإن البعض قد يميل إلى فكر «هوبز» السلطوي إذا ما كانت الدولة في خطر على أساس أن أخطر ما يصيب الفرد السياسي مصيبتان، الأولى الحرب الأهلية التي يتبعها بشكل يكاد يكون حتميا تفكك أجهزة الدولة أو حتى الدولة ذاتها، وهو ما يعني في نهاية المطاف كارثة حقيقية ومحققة.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.