يزداد إيماني يوما بعد يوم بأن الحدث التاريخي أو السياسي إما تسبقه فكرة ما وإما مجموعة أفكار تؤدي إليه وإما تنتج عنه مجموعة من الأفكار، وهذه ظاهرة إنسانية وتاريخية طبيعية ازدادت وتيرتها بشكل ملحوظ خلال القرون الخمسة الماضية التي شكلت النظام الدولي وذلك حتى وصولنا لمرحلة العولمة، التي أصبحت لها فلسفتها السياسية والاقتصادية الخاصة ومبشروها الذين ينادون بها، وهو ما دفع مفكر مثل «فرنسيس فوكوياما» لاعتبار العالم قد وصل لمحطة النهاية للفكر فاستقرت عندها مبادئ الديمقراطية وآليات السوق الحرة والفكر الليبرالي، بعدما استطاعت هذه الآيديولوجية أن تهزم الآيديولوجيات المنافسة، وعلى رأسها الفاشية خلال الحرب العالمية الثانية والشيوعية خلال الحرب الباردة، وهو نفس ما وصل إليه مفكر مثل «كارل ماركس»، ولكن بشكل عكسي عندما رأى في اعتناق البشرية مستقبلا للشيوعية المنتظرة نهاية لجدليته المادية والفكرية على حد سواء؛ وتقديري أن كل هؤلاء المفكرين قد ذهبوا لأبعد نقاط التفكير البشري، لأنهما حجما الإنسان ونزعوه قدرته على التنوع والتغيير والتحريك، وهي في تقديري محاولات فاشلة للتحجيم البشري.
ومن هذا المنطق، فإنني استأذن القارئ العزيز أن نتناول خلال الأسابيع القليلة المقبلة ما يمكن تسميته عمليا «صراع الفكرة» التي ولَّدت لنا ما يسمى انتصار الآيديولوجية الليبرالية وآليات السوق الحرة، التي بدا كأنها تسيطر على الضمير الإنساني في أغلبية بقاع العالم بشكل قد يختلف معه البعض.
أيا كانت الآراء، فإنه مما لا شك فيه أن أوروبا شهدت خلال القرون الخمسة الماضية حركة فكرية هائلة، جعلت هناك صراعا فكريا حول مسيرة السياسة ما بين الفكر المحافظ والليبرالي والفاشي، ثلاثية آيديولوجية مؤثرة كان لها دورها في تطور أنظمة الحكم الأوروبية والدولية، ويمثل الفيلسوف الإنجليزي «توماس هوبز» المركز الأساسي للفكر السلطوي المحافظ الذي تظل أركانه الأساسية صالحة في تقدير البعض لعدد من المجتمعات، بينما ترى أغلبية أنه يؤسس للحكم الأوتوقراطي - السلطوي، الذي لا مكان له في عالم اليوم.
لقد ولد «هوبز» فكريا على هامش الثورة الإنجليزية التي أتت بعد ذلك بـ«أوليفر كرومويل» في نهاية المطاف بدلا من الملك «تشارلز الأول» الذي قُطِع رأسه على أيدي الثوريين، وقد بدأ «هوبز» فكره برفض الفكر الثوري، وهو ما جعل الكثير يعتبرونه ملكيا بسبب أفكاره المتحفظة ضد الثورة، ولكننا يمكن أن نحسبه اليوم على اعتباره ميالا للدولة أو السلطة المركزية أكثر منه للملك، فالملك بالنسبة له ما هو إلا تجسيد للدولة، خاصة أنه بعد سنوات في المنفى عاد ليعلن ولاءه للديكتاتور الديني «أوليفر كرومويل» باعتباره مخلصا سياسيا لإنجلترا الثورية من حالة الفوضى الممتدة والفراغ السياسي الذي أصابها.
وأيا كانت ميوله، فإن «هوبز» يظل يمثل فكرا محافظا شاملا يعرض لرؤية أساسية، بدأت من منطلق رئيس وهو عدم ثقته بالإنسانية، فلقد وصف حياة إنسان الفطرة، أو كما يحلو له تسميته «حالة الطبيعة»، بأنه شخصية أنانية وغير ملتزمة، هدفها الأساسي هو الحصول على أكبر قدر من السلطة، وهو شعور لا ينتهي إلا بموته، ومن ثم تكون حياته - كما وصفها - «وحيدة وفقيرة وقاسية وقصيرة»، ومن ثم جاء فكره الذي عبر عنه في كتابه «المارد Leviathan» ليعكس هذه الرؤية، فكان يقصد بالمارد هنا الدولة ذات السلطة، التي يرى أنها المنظم الوحيد للأفراد لكي يعيشوا حياة إيجابية ومنتجة، فكتب يقول: «إنني أضع التوجه العام للإنسانية الذي تسيطر عليه رغبة جارفة في السلطة تلو السلطة بشكل ممتد وغير منظم، وهو شعور لا ينتهي إلا بالموت...». ولذلك، فإن الفرد لا يمكن أن يضمن هذا القدر من السلطة أو الحياة الكريمة إلا بمزيد من السلطة، من هنا رأى هذا المفكر أن الفرد لن يكون في مأمن طالما غابت السلطة المدنية عن تنظيم العلاقات بين أفراده، وإلا فستصبح الحياة في المجتمع «حربا بين كل إنسان وآخر».
ولهذا، يقر «هوبز» بوجود اختلافات كبيرة بين العالم المادي والفرد، الأول يحركه نظام هندسي رياضي واضح الأبعاد، كذلك الجسد البشري فلديه البعدان المادي والنفسي، ودور الفرد في المجتمع أمر مختلف، فالنظام الاجتماعي مصطنع وليس طبيعيا، من ثم فإن الإنسان يجب أن يصل له من خلال القانون الطبيعي والحدس السياسي، وهو ما يشير إلى ضرورة إيجاد السلطة المنظمة بين أفراده من خلال ما وصفه بالعقد الاجتماعي، ولكن هذا العقد بالنسبة له كان يعني شكلا مختلفا، فبمقتضاه يدخل الأفراد فيه ويتنازلون عن بعض حقوقهم لصالح السلطة المركزية لتقوم بتنظيم «الكومنولث» أو المجتمع أو الدولة كما وصفها، ويكون لهذه السلطة دورها الواضح كخط فاصل بين أمن ومصلحة الفرد من ناحية مقابل المصلحة الجماعية للأفراد من ناحية أخرى، بحيث يتم التنازل عن بعض جوانب الفردية لصالح التوجه الجمعي.
ولكن فكر الرجل لم يقف عند هذا الحد، بل إنه كان على قناعة كاملة بأن هذه السلطة المركزية يجب أن تكون مطلقة، فالعقد الاجتماعي بالنسبة له لم يتضمن النيل من سلطة الحاكم، وهنا يؤكد الرجل ضرورة أن يكون القائم بأعمال الدولة شخصا قويا، يفضل أن يكون ملكا، لأن هذا لا يضع الأعباء على الدولة لكي تحكم من خلال مجموعة فيكون إرضاء كل فرد فيها على حساب الدولة ومصلحتها، وقد برر «هوبز» السلطة المطلقة بكلمات واضحة هي أن «رباط الكلمة أضعف من أي يواجه طموحات الفرد أو غضبه أو مشاعره الجياشة، وذلك من دون الخوف من قوة قادرة على استخدام العنف ضده»، وعندئذ فقط تكون لهذه الشخصية أو الحكومة القدرة على إبقاء السلام الاجتماعي وفقا لهوبز، ومن ثم منح الحاكم حق فرض العقوبات لكبح جماح الميول غير الاجتماعية داخل المجتمع، وقد وصل تقديس «هوبز» للدولة كمفهوم تنظيمي على اعتبارها أهم شيء على الأرض والخروج عليها يمثل خطيئة سياسية ومعنوية على حد سواء، فهي أهم من الكنيسة أو السلطة الدينية التي اعتبرها جزءا من الدولة أو الكومنولث وليس العكس، ومن ثم ضرورة أن تخضع سلطات الكنيسة الدنيوية للدولة بشكل واضح وصريح.
وواقع الأمر أن التخوف الذي ملأ هذا الرجل كان جارفا، فلقد وصل «هوبز» في تقديسه السلطة الحاكمة إلى الحد الذي دفعه لرفض أي نوع من أنواع الثورة، لأنه كان يعتقد أن الحاكم خارج نطاق العقد الاجتماعي، فهو عقد بين المواطنين أنفسهم لصالح السلطة المركزية التي يجب ألا تخضع له: «فالملك فوق الرعية» من وجهة نظره، كما أنه يجب ألا يشاركه في سلطته أي أجهزة أخرى، بما فيها البرلمان، وهنا كان الرجل واقعا تحت تأثير ظروف الثورة الإنجليزية، لأنه كان يرى أن من أسباب اندلاعها تقاسم السلطات بين الملك واللوردات ومجلس العموم (البرلمان)، وعندما كتب كتابه الشهير «ليفياثان» فإن كرومويل الثوري لم يكن قد بسط نفوذه على إنجلترا بعد بالشكل الكامل.
لعل من أكثر الانتقادات التي يسوقها البعض لنظرية «هوبز»، هي أنه رأى العالم بنظرة قاسية وموحدة من خلال معادلة السلطة المطلقة أو الفوضى المطلقة، ولكن هذا شيء طبيعي يحدث للمفكرين أثناء الثورات، ففي هذه الظروف وعندما تعم الفوضى البلاد عقب الموجة الثورية، فإن التركيز غالبا ما يكون على أهمية الحفاظ على كيان الدولة والسلطة الحاكمة فيها، ومن ثم فإن البعض قد يميل إلى فكر «هوبز» السلطوي إذا ما كانت الدولة في خطر على أساس أن أخطر ما يصيب الفرد السياسي مصيبتان، الأولى الحرب الأهلية التي يتبعها بشكل يكاد يكون حتميا تفكك أجهزة الدولة أو حتى الدولة ذاتها، وهو ما يعني في نهاية المطاف كارثة حقيقية ومحققة.
من التاريخ.. حروب الفكرة: توماس هوبز
من التاريخ.. حروب الفكرة: توماس هوبز
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة