مثلما يصعب أن تتصوّر الهند من غير آنديرا غاندي، أو فرنسا من غير الجنرال شارل ديغول، أو بريطانيا من غير وينستون تشرشل، ليس من السهل أن تتخيّل كوبا من غير الأخوين فيديل وراؤول كاسترو... أكان فيديل الذي اختصر في شخصه أسطورة الثورة العصيّة على الإخماد، أو شقيقه الذي قلَب صفحة من غير أن يطويها، ورفع المرساة ببطء وحذر لتبحر «لؤلؤة» الكاريبي بهدوء بين أنواء الانتكاسات الإقليمية والضوائق الاقتصادية والمعيشية التي أصبحت طبيعة ثانية لدى أهل الجزيرة منذ أكثر من نصف قرن.
إلا أن سبحة الزمن السياسي تكرّ من غير انقطاع، وليس هناك ما يحول دون حتميّة التعاقب الذي تفرضه سنة الحياة، ويمليه منطق التسلسل في الأحداث والحقب. ميغيل دِيّاز كانيل، مهندس إلكتروني مولود بعد الثورة، هو منذ أول من الخميس الرئيس الجديد لكوبا بإجماع أعضاء الجمعية الوطنية وبركة الجنرال راؤول كاسترو، الذي يتنحّى عن الرئاسة ويحتفظ بقيادة الحزب الشيوعي الذي أنهك الإدارات الأميركية بامتداداته وتشعّباته في شبه القارة منذ بدايات الحرب الباردة الأولى إلى اليوم.
جيل جديد يتسلّق قمة الثورة الغنيّة بالرموز، التي كانت بمثابة المرأة الثانية في حياة كل يساري أو حالم بتغيير العالم.
إنه الفصل ما قبل الأخير في وداع الجيل التاريخي الذي أطلق عام 1959 حلماً من هضاب «السييرا مايسترا»، تجسّد في واحدة من أكثر الثورات رومانسية في التاريخ الحديث. هذه الثورة بقيت عصيّة على كل محاولات الوأد التي تعرّضت لها طوال ستة عقود، بيد أنها عجزت عن إطعام أبنائها وإطلاق حرياتهم وطاقاتهم المكبوتة.
ميغيل دِيّاز كانيل، الرئيس «الوسيم» - كما أصبح الكوبيون ينادونه - الذي ليس عسكرياً ولا ملتحياً، لم يوارب في خطابه المرتقب. بل أسهب عندما أشاد بـ«الجنرال» (راؤول كاسترو) الذي أخذه تحت جناحيه منذ سنوات قائلاً: «سيبقى مرجعنا الثوري، ومعلّمنا، حاملاً بندقيته وجاهزاً في الصفوف الأمامية لمواجهة الإمبريالية وحماية الثورة». أما عن فيديل فلم يبخل، لكن من غير إسراف، إذ قال: «سنبقى أوفياء لميراث القائد التاريخي للثورة». ولمَن كانوا ينتظرون منه مجرد تلميح إلى انفتاح محتمل، أكّد أنه «لن يكون ثمّة مجال لمرحلة انتقالية في السياسة أو للعودة إلى النظام الرأسمالي».
الجنرال المتنحّي، من جهته، أغدق على خلفه المختار كل المدائح الممكنة. وكشف أن القيادة دأبت منذ التسعينات على إعداد مَن سيتولى القيادة بعد الرعيل التاريخي. ثم فاجأ سامعيه عندما قال إن ديّاز كانيل هو الوحيد الذي تبقّى من المجموعة التي وقع الاختيار عليها في المرحلة الأولى ليؤكد «... لقد أصبنا عين الهدف». لكن الإشارة الأهم داخلياً في خطاب راؤول كاسترو كانت إعلانه أن ديّاز كانيل سيتولّى أيضاً الأمانة العامة للحزب عندما يتعذّر عليه هو أن يتولاها أو يقرر أن يتنحّى، أي أن الرئيس الجديد سيمسك بكل مقاليد الحكم على غرار الأخوين فيديل وراؤول.
النشأة والمسيرة
يُعرف كلُّ شيء عن مسيرة هذا الرجل الهادئ والفارع الطول الذي وُلد في مثل هذا اليوم من عام 1960 في محافظة فيلّا كلارا، متحدرّاً من أصول إسبانية على غرار عائلة كاسترو، والمتزوّج مرّتين وله ولدان من زوجته الأولى.
بدأ ديّاز كانيل نشاطه السياسي مطالع الثمانينات في «اتحاد الشباب الشيوعيين»، ليتولّى أمانة الحزب الشيوعي في تلك المحافظة بين عامي 1994 و2004، حيث اشتهر بانفتاحه على التيارات والأنشطة الثقافية الرائدة... وولعه بالموسيقى الحديثة وأغاني البيتلز. وثمّة اعتقاد بأن راؤول كاسترو كان قد بدأ بمتابعة مساره منذ تلك الحقبة تأهباً للقدر المحتوم الذي كان ما يزال قصيّاً بعد.
وفي عام 2003 فتح له «الجنرال» أبواب المكتب السياسي، ثم توّلى أمانة الحزب في محافظة هولغين إلى أن عُيّن وزيراً للتربية عام 2009، ثم عيّن نائباً لرئيس الوزراء عام 2012، ليضيف إلى مهامه بعد عام منصب نائب رئيس مجلس الدولة في مؤتمر حاشد حضره فيديل كاسترو، وألقى كلمة وصفه فيها بأنه «ليس بحديث العهد ولا وليد الارتجال» مؤشراً إلى أن قرار تعيين الخلف قد اتُخذ.
الطريق نحو القمة
وبعكس ما حصل مع العديد من الموعودين في ظلّ فيديل الذين تحطمّت آمالهم بسرعة بسبب من إفراطهم بالمبادرة والطموح، كان ديّاز كانيل حذراً وبارعاً في تحاشي تجاوز المسرى الجانبي الذي رسمه له «الجنرال» المعروف بتقديره صفات الولاء والتكتم عند معاونيه. كذلك حرص دائماً على التصرّف كامتداد طبيعي للخط الذي رسمه راؤول منذ تسلّمه القيادة من أخيه فيديل. لكن إذا كان يُعرف الكثير عن مسيرته، فإن أفكاره ما زالت موضع تأويلات وتكهّنات عديدة، فهو لم يخرج أبداً في تصريحاته عن «دوغماتيّة» الحزب، وليس بإمكان أحد أن يجزم ما إذا كان سيدفع باتجاه الانفتاح الاقتصادي والتعددية السياسية التي ينشدها السواد الأعظم من الكوبيين، أم أنه سيُبقي الإصلاح شعاراً خاوياً من أي مضمون حقيقي.
في أواسط الشهر الماضي، خلال استقباله لأمين عام الحزب الشيوعي الفيتنامي في العاصمة هافانا، ألقى ديّاز كانيل كلمة امتدح فيها «الجيل التاريخي الذي قادنا إلى الثورة وأرسى دعائمها الوطيدة طوال عقود في وجه التحديات...». ولا ينسى كثيرون من الذين لا يعقدون آمالاً كبيرة على رغبته في الإصلاح ما قاله منذ أشهر عن «... المشاريع التخريبية المتلطيّة وراء المواقع الصحافية الإلكترونية المستقلة تحت شعارات اجتماعية ديمقراطية...»، أو انتقاداته لما يُروّج من مآثر ومزايا عن صغار رجال الأعمال الذين يتزايد عددهم في كوبا بعد الانفتاح الاقتصادي الخجول في السنوات الأخيرة.
خمس سنوات هي مدة ولاية الرئيس المنصّب، قابلة للتجديد مرة واحدة فحسب بفعل التعديلات التي أدخلها راؤول كاسترو على أحكام الدستور بشأن المناصب العليا في الدولة. لكن «الجنرال» سيحتفظ بمنصب الأمين العام للحزب حتى العام 2021 مشرفاً على المرحلة الانتقالية، ومستنداً إلى النص الدستوري الذي يعتبر الحزب الشيوعي «القوة القائدة العليا للمجتمع والدولة». ومن الطبيعي أن يلجأ ديّاز كانيل، على الأقل في المرحلة الأولى من ولايته، إلى نصائح «الجنرال» وإرشاداته، خصوصاً من أجل بسط زعامته على الحزب الشيوعي والقوات الثورية المسلحة والأجهزة الأمنية النافذة وترويضها.
النيات الإصلاحية المؤجلة
الشيء الوحيد الأكيد بالنسبة لنيات الرئيس الجديد «الإصلاحية» هو أنها ما زالت لغزاً، وستبقى كذلك حتى إشعار آخر. ستبقى إلى أن يكشف عن برنامجه الاقتصادي، حيث تكمن التحديات الأكبر مثل الوحدة النقدية بين العملتين المتداولتين في الجزيرة: البيزو الذي يتقاضى الموظفون أجورهم به، والدولار الأميركي المستخدم على نطاق واسع في قطاعات الخدمات والسياحة والمبادلات التجارية، ما يؤدي عملياً إلى تساكن مجتمعين متفاوتين تتسع الهوة بينهما يوما غبّ اليوم، وتتراكم فيها عناصر المواجهة والاضطرابات. وستبقى أيضاً إلى أن يبتّ الرئيس الجديد في مصير المعتقلين والملاحقين السياسيين، ويميط اللثام عن مآل التعددية السياسية الموعودة، وتخفيف الضغط على حريّة الصحافة.
في المقابل، المفاجآت ليست مستبعدة، والأمثلة ليست بعيدة في التاريخ. فبعد وفاة الجنرال فرانشيسكو فرنكو الذي حكم إسبانيا 45 سنة بقبضة من حديد، جاء أدولفو سواريث من قلب النظام ليكون حارس الموروث، غير أنه سرعان ما انقلب على «رُعاته»، وأرسى قواعد نظام ديمقراطي حديث في عملية انتقالية سلمية أصبحت قدوة تُدرّس في معاهد العلوم السياسية. وعندما تسلّم ميخائيل غورباتشوف مقاليد السلطة في الاتحاد السوفياتي كان رجلاً شبه مغمور في قيادة الحزب الشيوعي، وما حصل بعد ذلك ما كان في حساب أحد.
السيطرة على الحزب
المحلل السياسي الكوبي البارز كارلوس آلبرتو مونتانير، الذي يعيش ويحاضر في الجامعات والحلقات الفكرية الإسبانية، يعتقد أن «راؤول كاسترو سيساعد ديّاز كانيل على بسط نفوذه وسيطرته داخل دوائر الحكم، كابحاً جماح التيّار المتشدّد المعارض للإصلاحات السياسية والاقتصادية». ويتوقع من الرئيس الجديد أن «ينحو مسلكاً محافظاً في المرحلة الأولى. إذ إن وصوله إلى موقع الرئاسة جاء محمولاً على ما أظهره من استمرارية وتشدّد في المناصب التي تولاها خلال السنوات الأخيرة... لكن متى توطّدت دعائم حكمه فلن يكون أمامه خيار سوى الإصلاح الذي من دونه باتت ديمومة النظام مستحيلة في كوبا».
من ناحية ثانية، فإن توطيد حكم ديّاز كانيل، الذي يفتقر إلى الهالة التي كان يتمتع بها الأخوان كاسترو، وبخاصة فيديل، واستمراره في السلطة، ليسا مرهونين بولاء مراكز النفوذ العسكري والأمني والسياسي بقدر ما هو مرهون بتحسّن الوضع الاقتصادي، واتساع هامش الحريات. فهذا هو التحدي في مجتمع حطّم أرقام الصمود بوجه الصعاب المعيشية منذ ستة عقود معظم أفراده مولودون بعد الثورة. إن الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها كوبا اليوم هي الأسوأ منذ التسعينات. وتوقعات المؤسسات المالية العالمية، مثل صندوق النقد والبنك الدولي، والمنظمات الإقليمية مثل لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية لأميركا اللاتينية، تنذر بسنوات أصعب إذا ما استمر الوضع على حاله، ولم تُقدم الحكومة على إجراء التغييرات الهيكلية اللازمة بسرعة.
ويتزامن هذا مع انهيار الاقتصاد الفنزويلي الذي حرم كوبا من نصف الهبات النفطية والعملة الصعبة التي كانت تصلها من فنزويلا مقابل خدمات مهنية واستشارات فنية، إضافة إلى تدهور العلاقات التجارية والسياحية مع الولايات المتحدة بعد وصول دونالد ترمب إلى البيت الأبيض.
معجب بالتجربة الفيتنامية
بعض الذين يعرفون ديّاز كانيل عن قرب يقولون إن التجربة الفيتنامية هي قدوته في الإصلاحات الاقتصادية، التي سيقدم عليها ما إن يرسّخ سيطرته على مقاليد الحكم، ويُبطل مفاعيل الحرس القديم الذي ما زال يحافظ على بعض المواقع في الأجهزة العسكرية والأمنية. ويتوقع هؤلاء أن تساعد هذه الإصلاحات المرتقبة، مع بعض الانفتاح السياسي، على اجتذاب رؤوس أموال «الدياسبورا» - أو الشتات - الكوبية في الولايات المتحدة، التي تملك فائضاً نقدياً مهماً يمكن أن يشكّل رافعة لإنهاض الاقتصادي الكوبي.
الكوبيّون في الشتات الأميركي، خصوصاً في مدينة ميامي حيث يزيد عددهم عن المليون، لا يتوقعون الكثير من الرئيس الجديد في القريب المنظور، لكنهم يعتقدون أن غياب «الكاسترية» عن المشهد سيساعد على انفتاح النظام، ومدّ الجسور مع خصومه في الداخل وأعدائه في الخارج.
معظم الكوبيين في الخارج يتفاءلون بحذر بعد الخيبات العديدة التي أصابتهم كلّما أطلق النظام وعوداً بالإصلاح ولوّح ببعض الحريات عند اشتداد الضغوط الخارجية عليه. وهؤلاء لا يتوقعون أي تغيير جذري طالما أن راؤول كاسترو لم ينسحب كليّاً من المشهد السياسي، خصوصاً أن ابنه آليخاندرو هو الذي يرأس «مجلس الدفاع والأمن القومي» المشرف على أجهزة الاستخبارات. مع ذلك فبقاء «الجنرال» في الظل ليس بالضرورة عائقاً في وجه الانفتاح. لا بل قد يكون هو الضامن لتحييد التيّار المتشدد عندما يقرر ديّاز كانيل أن وقت الإصلاحات الفعلية قد أزف. ولم يعد سرّاً أن راؤول يحاول أن يدفع منذ سنوات في اتجاه الانفتاح السياسي والاقتصادي رغم معارضة فيديل - الذي لم يتردد في أن يعلن صراحة رفضه للتقارب مع واشنطن وإعادة العلاقات الدبلوماسية معها على عهد باراك أوباما - . وليس مستبعداً ألا ينتظر الرئيس الجديد طويلاً قبل اتخاذ الخطوات الانفتاحية الأولى مستغلاً وجود «الجنرال» على رأس الحزب كضامن لوحدة النظام العضوية وأعلى سلطة دستورية في البلاد.
عيون العالم اليوم تراقب في أي اتجاه ستبحر هذه الثورة العائمة في مياه مضطربة منذ قيامها... فيما تبدو كوبا من غير كاسترو، مثل كوبا من غير سيجار.