ميغيل ديّاز كانيل... «الرفيق الحاكم» في هافانا

جيل جديد يتسلّق قمّة الثورة الكوبية

ميغيل ديّاز كانيل... «الرفيق الحاكم» في هافانا
TT

ميغيل ديّاز كانيل... «الرفيق الحاكم» في هافانا

ميغيل ديّاز كانيل... «الرفيق الحاكم» في هافانا

مثلما يصعب أن تتصوّر الهند من غير آنديرا غاندي، أو فرنسا من غير الجنرال شارل ديغول، أو بريطانيا من غير وينستون تشرشل، ليس من السهل أن تتخيّل كوبا من غير الأخوين فيديل وراؤول كاسترو... أكان فيديل الذي اختصر في شخصه أسطورة الثورة العصيّة على الإخماد، أو شقيقه الذي قلَب صفحة من غير أن يطويها، ورفع المرساة ببطء وحذر لتبحر «لؤلؤة» الكاريبي بهدوء بين أنواء الانتكاسات الإقليمية والضوائق الاقتصادية والمعيشية التي أصبحت طبيعة ثانية لدى أهل الجزيرة منذ أكثر من نصف قرن.
إلا أن سبحة الزمن السياسي تكرّ من غير انقطاع، وليس هناك ما يحول دون حتميّة التعاقب الذي تفرضه سنة الحياة، ويمليه منطق التسلسل في الأحداث والحقب. ميغيل دِيّاز كانيل، مهندس إلكتروني مولود بعد الثورة، هو منذ أول من الخميس الرئيس الجديد لكوبا بإجماع أعضاء الجمعية الوطنية وبركة الجنرال راؤول كاسترو، الذي يتنحّى عن الرئاسة ويحتفظ بقيادة الحزب الشيوعي الذي أنهك الإدارات الأميركية بامتداداته وتشعّباته في شبه القارة منذ بدايات الحرب الباردة الأولى إلى اليوم.

جيل جديد يتسلّق قمة الثورة الغنيّة بالرموز، التي كانت بمثابة المرأة الثانية في حياة كل يساري أو حالم بتغيير العالم.
إنه الفصل ما قبل الأخير في وداع الجيل التاريخي الذي أطلق عام 1959 حلماً من هضاب «السييرا مايسترا»، تجسّد في واحدة من أكثر الثورات رومانسية في التاريخ الحديث. هذه الثورة بقيت عصيّة على كل محاولات الوأد التي تعرّضت لها طوال ستة عقود، بيد أنها عجزت عن إطعام أبنائها وإطلاق حرياتهم وطاقاتهم المكبوتة.
ميغيل دِيّاز كانيل، الرئيس «الوسيم» - كما أصبح الكوبيون ينادونه - الذي ليس عسكرياً ولا ملتحياً، لم يوارب في خطابه المرتقب. بل أسهب عندما أشاد بـ«الجنرال» (راؤول كاسترو) الذي أخذه تحت جناحيه منذ سنوات قائلاً: «سيبقى مرجعنا الثوري، ومعلّمنا، حاملاً بندقيته وجاهزاً في الصفوف الأمامية لمواجهة الإمبريالية وحماية الثورة». أما عن فيديل فلم يبخل، لكن من غير إسراف، إذ قال: «سنبقى أوفياء لميراث القائد التاريخي للثورة». ولمَن كانوا ينتظرون منه مجرد تلميح إلى انفتاح محتمل، أكّد أنه «لن يكون ثمّة مجال لمرحلة انتقالية في السياسة أو للعودة إلى النظام الرأسمالي».
الجنرال المتنحّي، من جهته، أغدق على خلفه المختار كل المدائح الممكنة. وكشف أن القيادة دأبت منذ التسعينات على إعداد مَن سيتولى القيادة بعد الرعيل التاريخي. ثم فاجأ سامعيه عندما قال إن ديّاز كانيل هو الوحيد الذي تبقّى من المجموعة التي وقع الاختيار عليها في المرحلة الأولى ليؤكد «... لقد أصبنا عين الهدف». لكن الإشارة الأهم داخلياً في خطاب راؤول كاسترو كانت إعلانه أن ديّاز كانيل سيتولّى أيضاً الأمانة العامة للحزب عندما يتعذّر عليه هو أن يتولاها أو يقرر أن يتنحّى، أي أن الرئيس الجديد سيمسك بكل مقاليد الحكم على غرار الأخوين فيديل وراؤول.

النشأة والمسيرة
يُعرف كلُّ شيء عن مسيرة هذا الرجل الهادئ والفارع الطول الذي وُلد في مثل هذا اليوم من عام 1960 في محافظة فيلّا كلارا، متحدرّاً من أصول إسبانية على غرار عائلة كاسترو، والمتزوّج مرّتين وله ولدان من زوجته الأولى.
بدأ ديّاز كانيل نشاطه السياسي مطالع الثمانينات في «اتحاد الشباب الشيوعيين»، ليتولّى أمانة الحزب الشيوعي في تلك المحافظة بين عامي 1994 و2004، حيث اشتهر بانفتاحه على التيارات والأنشطة الثقافية الرائدة... وولعه بالموسيقى الحديثة وأغاني البيتلز. وثمّة اعتقاد بأن راؤول كاسترو كان قد بدأ بمتابعة مساره منذ تلك الحقبة تأهباً للقدر المحتوم الذي كان ما يزال قصيّاً بعد.
وفي عام 2003 فتح له «الجنرال» أبواب المكتب السياسي، ثم توّلى أمانة الحزب في محافظة هولغين إلى أن عُيّن وزيراً للتربية عام 2009، ثم عيّن نائباً لرئيس الوزراء عام 2012، ليضيف إلى مهامه بعد عام منصب نائب رئيس مجلس الدولة في مؤتمر حاشد حضره فيديل كاسترو، وألقى كلمة وصفه فيها بأنه «ليس بحديث العهد ولا وليد الارتجال» مؤشراً إلى أن قرار تعيين الخلف قد اتُخذ.

الطريق نحو القمة
وبعكس ما حصل مع العديد من الموعودين في ظلّ فيديل الذين تحطمّت آمالهم بسرعة بسبب من إفراطهم بالمبادرة والطموح، كان ديّاز كانيل حذراً وبارعاً في تحاشي تجاوز المسرى الجانبي الذي رسمه له «الجنرال» المعروف بتقديره صفات الولاء والتكتم عند معاونيه. كذلك حرص دائماً على التصرّف كامتداد طبيعي للخط الذي رسمه راؤول منذ تسلّمه القيادة من أخيه فيديل. لكن إذا كان يُعرف الكثير عن مسيرته، فإن أفكاره ما زالت موضع تأويلات وتكهّنات عديدة، فهو لم يخرج أبداً في تصريحاته عن «دوغماتيّة» الحزب، وليس بإمكان أحد أن يجزم ما إذا كان سيدفع باتجاه الانفتاح الاقتصادي والتعددية السياسية التي ينشدها السواد الأعظم من الكوبيين، أم أنه سيُبقي الإصلاح شعاراً خاوياً من أي مضمون حقيقي.
في أواسط الشهر الماضي، خلال استقباله لأمين عام الحزب الشيوعي الفيتنامي في العاصمة هافانا، ألقى ديّاز كانيل كلمة امتدح فيها «الجيل التاريخي الذي قادنا إلى الثورة وأرسى دعائمها الوطيدة طوال عقود في وجه التحديات...». ولا ينسى كثيرون من الذين لا يعقدون آمالاً كبيرة على رغبته في الإصلاح ما قاله منذ أشهر عن «... المشاريع التخريبية المتلطيّة وراء المواقع الصحافية الإلكترونية المستقلة تحت شعارات اجتماعية ديمقراطية...»، أو انتقاداته لما يُروّج من مآثر ومزايا عن صغار رجال الأعمال الذين يتزايد عددهم في كوبا بعد الانفتاح الاقتصادي الخجول في السنوات الأخيرة.
خمس سنوات هي مدة ولاية الرئيس المنصّب، قابلة للتجديد مرة واحدة فحسب بفعل التعديلات التي أدخلها راؤول كاسترو على أحكام الدستور بشأن المناصب العليا في الدولة. لكن «الجنرال» سيحتفظ بمنصب الأمين العام للحزب حتى العام 2021 مشرفاً على المرحلة الانتقالية، ومستنداً إلى النص الدستوري الذي يعتبر الحزب الشيوعي «القوة القائدة العليا للمجتمع والدولة». ومن الطبيعي أن يلجأ ديّاز كانيل، على الأقل في المرحلة الأولى من ولايته، إلى نصائح «الجنرال» وإرشاداته، خصوصاً من أجل بسط زعامته على الحزب الشيوعي والقوات الثورية المسلحة والأجهزة الأمنية النافذة وترويضها.

النيات الإصلاحية المؤجلة
الشيء الوحيد الأكيد بالنسبة لنيات الرئيس الجديد «الإصلاحية» هو أنها ما زالت لغزاً، وستبقى كذلك حتى إشعار آخر. ستبقى إلى أن يكشف عن برنامجه الاقتصادي، حيث تكمن التحديات الأكبر مثل الوحدة النقدية بين العملتين المتداولتين في الجزيرة: البيزو الذي يتقاضى الموظفون أجورهم به، والدولار الأميركي المستخدم على نطاق واسع في قطاعات الخدمات والسياحة والمبادلات التجارية، ما يؤدي عملياً إلى تساكن مجتمعين متفاوتين تتسع الهوة بينهما يوما غبّ اليوم، وتتراكم فيها عناصر المواجهة والاضطرابات. وستبقى أيضاً إلى أن يبتّ الرئيس الجديد في مصير المعتقلين والملاحقين السياسيين، ويميط اللثام عن مآل التعددية السياسية الموعودة، وتخفيف الضغط على حريّة الصحافة.
في المقابل، المفاجآت ليست مستبعدة، والأمثلة ليست بعيدة في التاريخ. فبعد وفاة الجنرال فرانشيسكو فرنكو الذي حكم إسبانيا 45 سنة بقبضة من حديد، جاء أدولفو سواريث من قلب النظام ليكون حارس الموروث، غير أنه سرعان ما انقلب على «رُعاته»، وأرسى قواعد نظام ديمقراطي حديث في عملية انتقالية سلمية أصبحت قدوة تُدرّس في معاهد العلوم السياسية. وعندما تسلّم ميخائيل غورباتشوف مقاليد السلطة في الاتحاد السوفياتي كان رجلاً شبه مغمور في قيادة الحزب الشيوعي، وما حصل بعد ذلك ما كان في حساب أحد.

السيطرة على الحزب
المحلل السياسي الكوبي البارز كارلوس آلبرتو مونتانير، الذي يعيش ويحاضر في الجامعات والحلقات الفكرية الإسبانية، يعتقد أن «راؤول كاسترو سيساعد ديّاز كانيل على بسط نفوذه وسيطرته داخل دوائر الحكم، كابحاً جماح التيّار المتشدّد المعارض للإصلاحات السياسية والاقتصادية». ويتوقع من الرئيس الجديد أن «ينحو مسلكاً محافظاً في المرحلة الأولى. إذ إن وصوله إلى موقع الرئاسة جاء محمولاً على ما أظهره من استمرارية وتشدّد في المناصب التي تولاها خلال السنوات الأخيرة... لكن متى توطّدت دعائم حكمه فلن يكون أمامه خيار سوى الإصلاح الذي من دونه باتت ديمومة النظام مستحيلة في كوبا».
من ناحية ثانية، فإن توطيد حكم ديّاز كانيل، الذي يفتقر إلى الهالة التي كان يتمتع بها الأخوان كاسترو، وبخاصة فيديل، واستمراره في السلطة، ليسا مرهونين بولاء مراكز النفوذ العسكري والأمني والسياسي بقدر ما هو مرهون بتحسّن الوضع الاقتصادي، واتساع هامش الحريات. فهذا هو التحدي في مجتمع حطّم أرقام الصمود بوجه الصعاب المعيشية منذ ستة عقود معظم أفراده مولودون بعد الثورة. إن الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها كوبا اليوم هي الأسوأ منذ التسعينات. وتوقعات المؤسسات المالية العالمية، مثل صندوق النقد والبنك الدولي، والمنظمات الإقليمية مثل لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية لأميركا اللاتينية، تنذر بسنوات أصعب إذا ما استمر الوضع على حاله، ولم تُقدم الحكومة على إجراء التغييرات الهيكلية اللازمة بسرعة.
ويتزامن هذا مع انهيار الاقتصاد الفنزويلي الذي حرم كوبا من نصف الهبات النفطية والعملة الصعبة التي كانت تصلها من فنزويلا مقابل خدمات مهنية واستشارات فنية، إضافة إلى تدهور العلاقات التجارية والسياحية مع الولايات المتحدة بعد وصول دونالد ترمب إلى البيت الأبيض.

معجب بالتجربة الفيتنامية
بعض الذين يعرفون ديّاز كانيل عن قرب يقولون إن التجربة الفيتنامية هي قدوته في الإصلاحات الاقتصادية، التي سيقدم عليها ما إن يرسّخ سيطرته على مقاليد الحكم، ويُبطل مفاعيل الحرس القديم الذي ما زال يحافظ على بعض المواقع في الأجهزة العسكرية والأمنية. ويتوقع هؤلاء أن تساعد هذه الإصلاحات المرتقبة، مع بعض الانفتاح السياسي، على اجتذاب رؤوس أموال «الدياسبورا» - أو الشتات - الكوبية في الولايات المتحدة، التي تملك فائضاً نقدياً مهماً يمكن أن يشكّل رافعة لإنهاض الاقتصادي الكوبي.
الكوبيّون في الشتات الأميركي، خصوصاً في مدينة ميامي حيث يزيد عددهم عن المليون، لا يتوقعون الكثير من الرئيس الجديد في القريب المنظور، لكنهم يعتقدون أن غياب «الكاسترية» عن المشهد سيساعد على انفتاح النظام، ومدّ الجسور مع خصومه في الداخل وأعدائه في الخارج.
معظم الكوبيين في الخارج يتفاءلون بحذر بعد الخيبات العديدة التي أصابتهم كلّما أطلق النظام وعوداً بالإصلاح ولوّح ببعض الحريات عند اشتداد الضغوط الخارجية عليه. وهؤلاء لا يتوقعون أي تغيير جذري طالما أن راؤول كاسترو لم ينسحب كليّاً من المشهد السياسي، خصوصاً أن ابنه آليخاندرو هو الذي يرأس «مجلس الدفاع والأمن القومي» المشرف على أجهزة الاستخبارات. مع ذلك فبقاء «الجنرال» في الظل ليس بالضرورة عائقاً في وجه الانفتاح. لا بل قد يكون هو الضامن لتحييد التيّار المتشدد عندما يقرر ديّاز كانيل أن وقت الإصلاحات الفعلية قد أزف. ولم يعد سرّاً أن راؤول يحاول أن يدفع منذ سنوات في اتجاه الانفتاح السياسي والاقتصادي رغم معارضة فيديل - الذي لم يتردد في أن يعلن صراحة رفضه للتقارب مع واشنطن وإعادة العلاقات الدبلوماسية معها على عهد باراك أوباما - . وليس مستبعداً ألا ينتظر الرئيس الجديد طويلاً قبل اتخاذ الخطوات الانفتاحية الأولى مستغلاً وجود «الجنرال» على رأس الحزب كضامن لوحدة النظام العضوية وأعلى سلطة دستورية في البلاد.
عيون العالم اليوم تراقب في أي اتجاه ستبحر هذه الثورة العائمة في مياه مضطربة منذ قيامها... فيما تبدو كوبا من غير كاسترو، مثل كوبا من غير سيجار.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.