البرنامج الكيماوي السوري... من السبعينات إلى اليوم

انطلق بحجة «ردع» إسرائيل

البرنامج الكيماوي السوري... من السبعينات إلى اليوم
TT

البرنامج الكيماوي السوري... من السبعينات إلى اليوم

البرنامج الكيماوي السوري... من السبعينات إلى اليوم

رغم مضي خمس سنوات على اتخاذ مجلس الأمن قراره الرقم 2118 الذي يلزم النظام السوري بالتعاون لتدمير ترسانته من الأسلحة الكيماوية وكل ما يتصل بها من مواد ومعدات، تواصلت التقارير والادعاءات عن استخدام الغازات السامة المحظورة دولياً منذ زهاء 100 سنة، في سياق الحرب الطاحنة التي تشهدها سوريا منذ عام 2011.
والواقع أنه طوال سنوات الحرب السورية، واظب نظام البعث على التعامل مع كل تشكيلات المعارضة السورية المسلحة باعتبارها «جماعات إرهابية» تنتشر مثل «الخلايا السرطانية» في نسيج المجتمع السوري، وبالتالي: «لا بد من العلاج الكيماوي للقضاء على هذا السرطان».
هذا، على الأقل، هو «المنطق» الذي روّج له «المنحبكجية»، وهذا التعبير الأخير أطلقه معارضون على محبي رأس النظام بشار الأسد عبر وسائل التواصل الاجتماعي.

ظهر الفصل الأخير من أزمة استخدام الأسلحة الكيماوية في سوريا عندما توالت الأنباء يوم 7 أبريل (نيسان) الجاري عن هجوم جديد شنه نظام الرئيس بشار الأسد على مدينة دوما في الغوطة الشرقية بضواحي العاصمة دمشق. غير أن الغوطة كانت أصلاً مسرح هذه المأساة الكبرى صبيحة 21 أغسطس (آب) 2013 حين قضى أكثر من 1400 شخص بهجوم أفادت المعارضة السورية أن قوات من «اللواء 155» في الجيش السوري شنته على مناطق الغوطة، ومنها مدن عربين وزملكا والمعضمية وبلدة عين ترما. وفي المقابل، ردّد النظام السوري روايات عدة متضاربة، إذ نفى أولاً وقوع هجوم بالأسلحة الكيماوية، متهماً «قنوات خليجية» بمحاولة حرف لجنة التحقيق الأممية عن هدفها بالتحقيق في هجوم سابق وقع في منطقة خان العسل (على بعد 14 كلم من مدينة حلب) بشمال سوريا، ثم اتهم «مسلحين وإرهابيين» بتنفيذ الهجوم لتبرير التدخل الأجنبي. أما روسيا التي دافعت طويلاً، ولا تزال تدافع عن نظام الأسد، فاتهمت المعارضة بـ«تزوير صور الضحايا». بيد أنها وافقت تحت وطأة السخط الدولي على القرار 2118 لتدمير مخزون سوريا من الأسلحة الكيماوية.
على أثر هذا الهجوم، أعد فريق من الباحثين تقريراً للكونغرس الأميركي عن برنامج الأسلحة الكيماوية في سوريا. ووافق في خلاصته مع تقرير سابق تلقاه مكتب مدير الاستخبارات الوطنية في الولايات المتحدة عام 2011. وكان تقييم استخباري أميركي عام 1995 قد أورد أن «سوريا لديها برنامج للحرب الكيماوية منذ منتصف الثمانينات»، علما بأن وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) أفادت عام 1997 أن البرنامج السوري انطلق في عقد السبعينات من القرن الماضي.
غالبية التقارير الأميركية ترجح أن تكون دمشق طوّرت برنامج أسلحتها الكيماوية للتعامل مع تهديد محتمل من إسرائيل. ويفيد محللون أن مصر قدّمت لسوريا كميات صغيرة من الأسلحة الكيماوية وأنظمة إطلاقها قبيل حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973. بيد أن سوريا باشرت توسيع برنامجها في أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات. كذلك، تفيد وثائق أميركية رفعت عنها السرية أن الاتحاد السوفياتي السابق زوّد سوريا بعوامل كيماوية وأنظمة إطلاق، فضلاً عن التدريب على استخدام الأسلحة الكيماوية. ولا يستبعد أن تكون سوريا اشترت معدات وعوامل كيماوية من شركات خاصة في أوروبا الغربية.

معاهدة الأسلحة الكيماوية
من جهة أخرى، رغم انضمام سوريا عام 1968 إلى «بروتوكول جنيف لعام 1925» الخاص بحظر الاستخدام الحربي للغازات الخانقة أو السامة أو سواها، فإنها بقيت لفترة طويلة واحدة من خمس دول فقط لم توقع على معاهدة الأسلحة الكيماوية، التي تحظر تطوير هذه الأسلحة وإنتاجها وتخزينها ونقلها واستخدامها. وهذا، مع العلم، أن سلطات دمشق تعهدت مراراً وتكراراً بالمصادقة على المعاهدة «إذا صدقت البلدان المجاورة» لها - ولا سيما إسرائيل - عليها.
وفي هذا السياق، تفيد وثائق لدى الحكومة الأميركية أن دمشق سعت إلى الاكتفاء الذاتي في برنامجها للأسلحة الكيماوية منذ منتصف الثمانينات. ورغم تقديرات للاستخبارات الوطنية الأميركية عام 1983 عن أن سوريا «غير قادرة محلياً على إنتاج مواد أو عوامل» لسلاح كيماوي، كشفت برقية لوزارة الخارجية عام 1985 عن أنها «تحاول تطوير سلاحها الكيماوي الخاص بها».

مركز البحوث العلمية
قبل تفجّر الثورة السورية، كان يسود اعتقاد أن «مركز البحوث العلمية» السوري يدير ما لا يقل عن أربعة معامل لتصنيع المواد الكيماوية في كل من الضُّمَير وخان عبو وخان أبو الشامات والفرقلس، فضلاً عن تشغيل مواقع تخزين في نحو 50 موقعاً في كل أنحاء البلاد.
وعلى الرغم التقارير الغربية - منذ السبعينات والثمانينات من القرن الماضي - عن امتلاك نظام دمشق مخزوناً كبيراً من غاز الخردل والعوامل المحفّزة له، وكذلك غازات الأعصاب كالسارين و«في إكس» ووسائل إطلاقها، لم يعترف النظام بقيادة الرئيس السابق الراحل حافظ الأسد ثم وريثه الرئيس بشار الأسد، بامتلاك أسلحة كيماوية إلا في يوليو (تموز) 2012. حين أفاد الناطق باسم وزارة الخارجية السورية - آنذاك - جهاد مقدسي أن سوريا تمتلك أسلحة كيماوية، مضيفاً أن هذه الأسلحة لن تُستخدم قط ضد الشعب السوري، ولكن فقط لصدّ أي «عدوان خارجي».
وبعد أقل من شهر على هذا التصريح، أعلن الرئيس الأميركي باراك أوباما أن استخدام الغازات السامة في سوريا «خط أحمر»، مدّعياً أن حساباته بشأن الرد العسكري ستتغير بدرجة كبيرة إذا رأت الولايات المتحدة «مجموعة كاملة من الأسلحة الكيماوية تتحرك أو يجري استخدامها». غير أن أوباما لم يحرّك ساكناً عندما جرى الإبلاغ في23 ديسمبر (كانون الأول) 2012 عن مقتل سبعة أشخاص في حمص بـ«غاز سام» استخدمه نظام الأسد. وتكرّر الأمر حين قال مسؤول في وزارة الخارجية الأميركية إن «هناك أدلة دامغة على أن الجيش السوري استخدم سلاحاً كيماوياً يُعرف باسم «العامل 15» في حمص يوم 23 ديسمبر (كانون الأول) 2012. ومنذ ذلك الحين بدأ يتلاشى «الخط الأحمر» الذي وضعه أوباما، إذ أن التقارير توالت عن استخدام الغازات السامة من دون أن تحرك الإدارة الأميركية ساكناً.
وبعد رسائل كثيرة من فرنسا وبريطانيا، أعلن الأمين العام السابق للأمم المتحدة بان كي - مون يوم 21 مارس (آذار) 2013 «أن المنظمة الدولية ستجري تحقيقاً بالتعاون مع منظمة الصحة العالمية ومنظمة حظر الأسلحة الكيماوية حول إمكان استخدام الأسلحة الكيماوية في سوريا». وأكد يوم 17 أبريل (نيسان) 2013 «أن السلطات السورية عرقلت تحقيقات عن طريق رفضها نطاق التحقيق الذي تجريه الأمم المتحدة بشأن استخدام الأسلحة الكيماوية».

«سماح» بعد عرقلة
حيال تكاثر الاتهامات من كل الأطراف المتحاربة في شأن استخدام الأسلحة الكيماوية، سمح نظام الأسد يوم 14 أغسطس (آب) 2013 لفريق من الأمم المتحدة بالتحقيق في ثلاثة حوادث. غير أن تفويض الفريق ما كان يسمح إلا بتحديد ما إذا كانت الغازات السامة استخدمت أم لا، من دون تحديد من استخدمها.
ولم تمض أيام قليلة على السماح المشروط، حتى وقع هجوم الغوطة يوم 21 أغسطس 2013 فهزّت الصور البشعة الواردة من هناك العالم. وعقد مجلس الأمن اجتماعاً طارئاً، وأعلن الناطق باسم الأمم المتحدة أن الأمين العام يريد إجراء «تحقيق شامل ومحايد وسريع» حول الهجوم.
كذلك أعرب المدير العام لمنظمة حظر الأسلحة الكيماوية أحمد أوزومجو عن «قلقه الشديد» من الهجوم، الذي وقع بينما كان خبراء المنظمة موجودين بالفعل في سوريا مع فريق التحقيق التابع للأمم المتحدة.
وفي ضوء ردود الفعل الدولية على هجوم الغوطة وبناءً على اقتراح من روسيا لمساعدتها في التخلص من ترسانتها، أعلنت سلطات دمشق يوم 10 سبتمبر (أيلول) 2013 أنها تعتزم الانضمام إلى معاهدة الأسلحة الكيماوية. ومن ثم، سلّمت الأمم المتحدة، بصفتها الجهة المودعة، صك الانضمام إلى المعاهدة رسمياً خلال أربعة أيام (يوم 14 سبتمبر 2013). وأعلنت الولايات المتحدة وروسيا أنهما اتفقتا على «إطار لنزع السلاح من شأنه أن يقضي على برامج سوريا للأسلحة الكيماوية». وبموجب ذلك كان يتوجب على سوريا تقديم «قائمة شاملة» بأسلحتها «في غضون أسبوع»، ومع وجوب تدمير المعدات اللازمة لإنتاج الأسلحة الكيماوية وخلطها وتعبئتها بحلول نوفمبر (تشرين الثاني) من العام نفسه، على أن تكتمل «الإزالة التامة لجميع مواد الأسلحة الكيماوية ومعداتها في النصف الأول من عام 2014». وبناءً عليه، شُكّلت يوم 16 أكتوبر 2013 بعثة مشتركة بين منظمة حظر الأسلحة الكيماوية والأمم المتحدة للإشراف على هذه العملية.

مناورات وهجمات جديدة
وفعلاً، في أكتوبر 2013 أكدت منظمة حظر الأسلحة الكيماوية أنها تمكنت من فحص 21 من المواقع الـ23 التي كانت توجد فيها مرافق تطوير الأسلحة الكيماوية. أما الموقعان المتبقيان فتعذرت زيارتهما بسبب «مخاوف أمنية». لكن المفتشين أكدوا أن المعدات نُقلت من هذه المواقع ودمّرت.
ثم أﻋﻠﻦ اﻟﻤﺠﻠﺲ اﻟﺘﻨﻔﻴﺬي للمنظمة أن خبراءها ﺗﻤﻜﻨوا ﻣﻦ اﻟﺘﺤﻘﻖ ﻣﻦ أن 60 في المائة ﻣﻦ اﻟﺬﺧﺎﺋﺮ اﻟﺴﻮرﻳﺔ اﻟﻤﻌﻠﻨﺔ ﺪﻣّﺮت. والباقي سيدمّر على متن سفينة أميركية باستخدام التحلل المائي، وهو عملية تكسير العوامل الكيماوية باستخدام الماء الساخن ومركبات كيماوية أخرى. وجرى الانتهاء رسمياً من تدمير الأسلحة المعلنة بحلول أغسطس 2014.
ولكن على رغم ذلك، ظلت التقارير ترد عن استخدام الغازات السامة، فأصدر مجلس الأمن في 7 أغسطس 2015 القرار الـ2235 الذي أنشئت بموجبه آلية التحقيق المشتركة بين الأمم المتحدة ومنظمة حظر الأسلحة الكيماوية لتحديد الأطراف المسؤولة عن الهجمات المبلغ عنها في سوريا. وأوردت الآلية في تقريرها الثالث أن هليكوبترات عسكرية ألقت غاز الكلور على بلدتي تلمنس في 21 أبريل (نيسان) 2014 وسرمين في 16 مارس (آذار) 2015. وأضاف التقرير أن تنظيم داعش استخدم غاز الخردل في مارع يوم 21 أغسطس 2015.
وأنحى التقرير الرابع للتحقيق باللوم على جيش النظام السوري في هجوم بالغازات السامة في قميناس بمحافظة إدلب في 16 مارس 2015، غير أن الخبراء لم يجمعوا أدلة كافية لتحديد المسؤولية عن هجومين كيماويين آخرين في بلدتي بنّش بالمحافظة نفسها يوم 24 مارس (آذار) 2015 وكفر زيتا بمحافظة حماه في 18 أبريل (نيسان) 2014.
ثم، في 4 أبريل 2017 استخدم السلاح الكيماوي مجدداً في هجوم نسب إلى قوات النظام وأدى إلى مقتل العشرات في بلدة خان شيخون بمحافظة إدلب. وبعد يومين، استهدفت الولايات المتحدة قاعدة الشعيرات العسكرية السورية بصواريخ كروز من نوع «توماهوك».
وعلى الأثر، استخدمت روسيا حق النقض «الفيتو» ضد مشروع قرار يندد بالهجوم بغاز السارين. وبعد أشهر، أكدت آلية التحقيق أن السارين استخدم في هجوم خان شيخون، وأن نظام الأسد مذنب فيه. وفي 16 نوفمبر انتهت ولاية الآلية بعد فشل القرارين اللذين عرضا في مجلس الأمن في تمديدها. وكذلك أفشل «الفيتو» الروسي محاولات لاحقة لإحياء هذا التحقيق.
أما الهجوم الأخير فوقع يوم 7 أبريل الجاري في دوما، وفشلت مشاريع قرارات عدة في الصدور عن مجلس الأمن. كذلك لم يتمكن خبراء منظمة حظر الأسلحة الكيماوية من الوصول على الفور إلى المنطقة لتحديد ما إذا كانت الهجمات الكيماوية وقعت أو لم تقع. وكما هو معروف، شنت الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا ضربات وصفت بأنها دقيقة على ثلاثة مرافق للأسلحة الكيماوية في سوريا، وقال الرئيس الأميركي دونالد ترمب في خطاب بثه التلفزيون بأن الغرض هو «إنشاء رادع قوي ضد إنتاج الأسلحة الكيماوية ونشرها واستخدامها».



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.