رغم مضي خمس سنوات على اتخاذ مجلس الأمن قراره الرقم 2118 الذي يلزم النظام السوري بالتعاون لتدمير ترسانته من الأسلحة الكيماوية وكل ما يتصل بها من مواد ومعدات، تواصلت التقارير والادعاءات عن استخدام الغازات السامة المحظورة دولياً منذ زهاء 100 سنة، في سياق الحرب الطاحنة التي تشهدها سوريا منذ عام 2011.
والواقع أنه طوال سنوات الحرب السورية، واظب نظام البعث على التعامل مع كل تشكيلات المعارضة السورية المسلحة باعتبارها «جماعات إرهابية» تنتشر مثل «الخلايا السرطانية» في نسيج المجتمع السوري، وبالتالي: «لا بد من العلاج الكيماوي للقضاء على هذا السرطان».
هذا، على الأقل، هو «المنطق» الذي روّج له «المنحبكجية»، وهذا التعبير الأخير أطلقه معارضون على محبي رأس النظام بشار الأسد عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
ظهر الفصل الأخير من أزمة استخدام الأسلحة الكيماوية في سوريا عندما توالت الأنباء يوم 7 أبريل (نيسان) الجاري عن هجوم جديد شنه نظام الرئيس بشار الأسد على مدينة دوما في الغوطة الشرقية بضواحي العاصمة دمشق. غير أن الغوطة كانت أصلاً مسرح هذه المأساة الكبرى صبيحة 21 أغسطس (آب) 2013 حين قضى أكثر من 1400 شخص بهجوم أفادت المعارضة السورية أن قوات من «اللواء 155» في الجيش السوري شنته على مناطق الغوطة، ومنها مدن عربين وزملكا والمعضمية وبلدة عين ترما. وفي المقابل، ردّد النظام السوري روايات عدة متضاربة، إذ نفى أولاً وقوع هجوم بالأسلحة الكيماوية، متهماً «قنوات خليجية» بمحاولة حرف لجنة التحقيق الأممية عن هدفها بالتحقيق في هجوم سابق وقع في منطقة خان العسل (على بعد 14 كلم من مدينة حلب) بشمال سوريا، ثم اتهم «مسلحين وإرهابيين» بتنفيذ الهجوم لتبرير التدخل الأجنبي. أما روسيا التي دافعت طويلاً، ولا تزال تدافع عن نظام الأسد، فاتهمت المعارضة بـ«تزوير صور الضحايا». بيد أنها وافقت تحت وطأة السخط الدولي على القرار 2118 لتدمير مخزون سوريا من الأسلحة الكيماوية.
على أثر هذا الهجوم، أعد فريق من الباحثين تقريراً للكونغرس الأميركي عن برنامج الأسلحة الكيماوية في سوريا. ووافق في خلاصته مع تقرير سابق تلقاه مكتب مدير الاستخبارات الوطنية في الولايات المتحدة عام 2011. وكان تقييم استخباري أميركي عام 1995 قد أورد أن «سوريا لديها برنامج للحرب الكيماوية منذ منتصف الثمانينات»، علما بأن وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) أفادت عام 1997 أن البرنامج السوري انطلق في عقد السبعينات من القرن الماضي.
غالبية التقارير الأميركية ترجح أن تكون دمشق طوّرت برنامج أسلحتها الكيماوية للتعامل مع تهديد محتمل من إسرائيل. ويفيد محللون أن مصر قدّمت لسوريا كميات صغيرة من الأسلحة الكيماوية وأنظمة إطلاقها قبيل حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973. بيد أن سوريا باشرت توسيع برنامجها في أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات. كذلك، تفيد وثائق أميركية رفعت عنها السرية أن الاتحاد السوفياتي السابق زوّد سوريا بعوامل كيماوية وأنظمة إطلاق، فضلاً عن التدريب على استخدام الأسلحة الكيماوية. ولا يستبعد أن تكون سوريا اشترت معدات وعوامل كيماوية من شركات خاصة في أوروبا الغربية.
معاهدة الأسلحة الكيماوية
من جهة أخرى، رغم انضمام سوريا عام 1968 إلى «بروتوكول جنيف لعام 1925» الخاص بحظر الاستخدام الحربي للغازات الخانقة أو السامة أو سواها، فإنها بقيت لفترة طويلة واحدة من خمس دول فقط لم توقع على معاهدة الأسلحة الكيماوية، التي تحظر تطوير هذه الأسلحة وإنتاجها وتخزينها ونقلها واستخدامها. وهذا، مع العلم، أن سلطات دمشق تعهدت مراراً وتكراراً بالمصادقة على المعاهدة «إذا صدقت البلدان المجاورة» لها - ولا سيما إسرائيل - عليها.
وفي هذا السياق، تفيد وثائق لدى الحكومة الأميركية أن دمشق سعت إلى الاكتفاء الذاتي في برنامجها للأسلحة الكيماوية منذ منتصف الثمانينات. ورغم تقديرات للاستخبارات الوطنية الأميركية عام 1983 عن أن سوريا «غير قادرة محلياً على إنتاج مواد أو عوامل» لسلاح كيماوي، كشفت برقية لوزارة الخارجية عام 1985 عن أنها «تحاول تطوير سلاحها الكيماوي الخاص بها».
مركز البحوث العلمية
قبل تفجّر الثورة السورية، كان يسود اعتقاد أن «مركز البحوث العلمية» السوري يدير ما لا يقل عن أربعة معامل لتصنيع المواد الكيماوية في كل من الضُّمَير وخان عبو وخان أبو الشامات والفرقلس، فضلاً عن تشغيل مواقع تخزين في نحو 50 موقعاً في كل أنحاء البلاد.
وعلى الرغم التقارير الغربية - منذ السبعينات والثمانينات من القرن الماضي - عن امتلاك نظام دمشق مخزوناً كبيراً من غاز الخردل والعوامل المحفّزة له، وكذلك غازات الأعصاب كالسارين و«في إكس» ووسائل إطلاقها، لم يعترف النظام بقيادة الرئيس السابق الراحل حافظ الأسد ثم وريثه الرئيس بشار الأسد، بامتلاك أسلحة كيماوية إلا في يوليو (تموز) 2012. حين أفاد الناطق باسم وزارة الخارجية السورية - آنذاك - جهاد مقدسي أن سوريا تمتلك أسلحة كيماوية، مضيفاً أن هذه الأسلحة لن تُستخدم قط ضد الشعب السوري، ولكن فقط لصدّ أي «عدوان خارجي».
وبعد أقل من شهر على هذا التصريح، أعلن الرئيس الأميركي باراك أوباما أن استخدام الغازات السامة في سوريا «خط أحمر»، مدّعياً أن حساباته بشأن الرد العسكري ستتغير بدرجة كبيرة إذا رأت الولايات المتحدة «مجموعة كاملة من الأسلحة الكيماوية تتحرك أو يجري استخدامها». غير أن أوباما لم يحرّك ساكناً عندما جرى الإبلاغ في23 ديسمبر (كانون الأول) 2012 عن مقتل سبعة أشخاص في حمص بـ«غاز سام» استخدمه نظام الأسد. وتكرّر الأمر حين قال مسؤول في وزارة الخارجية الأميركية إن «هناك أدلة دامغة على أن الجيش السوري استخدم سلاحاً كيماوياً يُعرف باسم «العامل 15» في حمص يوم 23 ديسمبر (كانون الأول) 2012. ومنذ ذلك الحين بدأ يتلاشى «الخط الأحمر» الذي وضعه أوباما، إذ أن التقارير توالت عن استخدام الغازات السامة من دون أن تحرك الإدارة الأميركية ساكناً.
وبعد رسائل كثيرة من فرنسا وبريطانيا، أعلن الأمين العام السابق للأمم المتحدة بان كي - مون يوم 21 مارس (آذار) 2013 «أن المنظمة الدولية ستجري تحقيقاً بالتعاون مع منظمة الصحة العالمية ومنظمة حظر الأسلحة الكيماوية حول إمكان استخدام الأسلحة الكيماوية في سوريا». وأكد يوم 17 أبريل (نيسان) 2013 «أن السلطات السورية عرقلت تحقيقات عن طريق رفضها نطاق التحقيق الذي تجريه الأمم المتحدة بشأن استخدام الأسلحة الكيماوية».
«سماح» بعد عرقلة
حيال تكاثر الاتهامات من كل الأطراف المتحاربة في شأن استخدام الأسلحة الكيماوية، سمح نظام الأسد يوم 14 أغسطس (آب) 2013 لفريق من الأمم المتحدة بالتحقيق في ثلاثة حوادث. غير أن تفويض الفريق ما كان يسمح إلا بتحديد ما إذا كانت الغازات السامة استخدمت أم لا، من دون تحديد من استخدمها.
ولم تمض أيام قليلة على السماح المشروط، حتى وقع هجوم الغوطة يوم 21 أغسطس 2013 فهزّت الصور البشعة الواردة من هناك العالم. وعقد مجلس الأمن اجتماعاً طارئاً، وأعلن الناطق باسم الأمم المتحدة أن الأمين العام يريد إجراء «تحقيق شامل ومحايد وسريع» حول الهجوم.
كذلك أعرب المدير العام لمنظمة حظر الأسلحة الكيماوية أحمد أوزومجو عن «قلقه الشديد» من الهجوم، الذي وقع بينما كان خبراء المنظمة موجودين بالفعل في سوريا مع فريق التحقيق التابع للأمم المتحدة.
وفي ضوء ردود الفعل الدولية على هجوم الغوطة وبناءً على اقتراح من روسيا لمساعدتها في التخلص من ترسانتها، أعلنت سلطات دمشق يوم 10 سبتمبر (أيلول) 2013 أنها تعتزم الانضمام إلى معاهدة الأسلحة الكيماوية. ومن ثم، سلّمت الأمم المتحدة، بصفتها الجهة المودعة، صك الانضمام إلى المعاهدة رسمياً خلال أربعة أيام (يوم 14 سبتمبر 2013). وأعلنت الولايات المتحدة وروسيا أنهما اتفقتا على «إطار لنزع السلاح من شأنه أن يقضي على برامج سوريا للأسلحة الكيماوية». وبموجب ذلك كان يتوجب على سوريا تقديم «قائمة شاملة» بأسلحتها «في غضون أسبوع»، ومع وجوب تدمير المعدات اللازمة لإنتاج الأسلحة الكيماوية وخلطها وتعبئتها بحلول نوفمبر (تشرين الثاني) من العام نفسه، على أن تكتمل «الإزالة التامة لجميع مواد الأسلحة الكيماوية ومعداتها في النصف الأول من عام 2014». وبناءً عليه، شُكّلت يوم 16 أكتوبر 2013 بعثة مشتركة بين منظمة حظر الأسلحة الكيماوية والأمم المتحدة للإشراف على هذه العملية.
مناورات وهجمات جديدة
وفعلاً، في أكتوبر 2013 أكدت منظمة حظر الأسلحة الكيماوية أنها تمكنت من فحص 21 من المواقع الـ23 التي كانت توجد فيها مرافق تطوير الأسلحة الكيماوية. أما الموقعان المتبقيان فتعذرت زيارتهما بسبب «مخاوف أمنية». لكن المفتشين أكدوا أن المعدات نُقلت من هذه المواقع ودمّرت.
ثم أﻋﻠﻦ اﻟﻤﺠﻠﺲ اﻟﺘﻨﻔﻴﺬي للمنظمة أن خبراءها ﺗﻤﻜﻨوا ﻣﻦ اﻟﺘﺤﻘﻖ ﻣﻦ أن 60 في المائة ﻣﻦ اﻟﺬﺧﺎﺋﺮ اﻟﺴﻮرﻳﺔ اﻟﻤﻌﻠﻨﺔ ﺪﻣّﺮت. والباقي سيدمّر على متن سفينة أميركية باستخدام التحلل المائي، وهو عملية تكسير العوامل الكيماوية باستخدام الماء الساخن ومركبات كيماوية أخرى. وجرى الانتهاء رسمياً من تدمير الأسلحة المعلنة بحلول أغسطس 2014.
ولكن على رغم ذلك، ظلت التقارير ترد عن استخدام الغازات السامة، فأصدر مجلس الأمن في 7 أغسطس 2015 القرار الـ2235 الذي أنشئت بموجبه آلية التحقيق المشتركة بين الأمم المتحدة ومنظمة حظر الأسلحة الكيماوية لتحديد الأطراف المسؤولة عن الهجمات المبلغ عنها في سوريا. وأوردت الآلية في تقريرها الثالث أن هليكوبترات عسكرية ألقت غاز الكلور على بلدتي تلمنس في 21 أبريل (نيسان) 2014 وسرمين في 16 مارس (آذار) 2015. وأضاف التقرير أن تنظيم داعش استخدم غاز الخردل في مارع يوم 21 أغسطس 2015.
وأنحى التقرير الرابع للتحقيق باللوم على جيش النظام السوري في هجوم بالغازات السامة في قميناس بمحافظة إدلب في 16 مارس 2015، غير أن الخبراء لم يجمعوا أدلة كافية لتحديد المسؤولية عن هجومين كيماويين آخرين في بلدتي بنّش بالمحافظة نفسها يوم 24 مارس (آذار) 2015 وكفر زيتا بمحافظة حماه في 18 أبريل (نيسان) 2014.
ثم، في 4 أبريل 2017 استخدم السلاح الكيماوي مجدداً في هجوم نسب إلى قوات النظام وأدى إلى مقتل العشرات في بلدة خان شيخون بمحافظة إدلب. وبعد يومين، استهدفت الولايات المتحدة قاعدة الشعيرات العسكرية السورية بصواريخ كروز من نوع «توماهوك».
وعلى الأثر، استخدمت روسيا حق النقض «الفيتو» ضد مشروع قرار يندد بالهجوم بغاز السارين. وبعد أشهر، أكدت آلية التحقيق أن السارين استخدم في هجوم خان شيخون، وأن نظام الأسد مذنب فيه. وفي 16 نوفمبر انتهت ولاية الآلية بعد فشل القرارين اللذين عرضا في مجلس الأمن في تمديدها. وكذلك أفشل «الفيتو» الروسي محاولات لاحقة لإحياء هذا التحقيق.
أما الهجوم الأخير فوقع يوم 7 أبريل الجاري في دوما، وفشلت مشاريع قرارات عدة في الصدور عن مجلس الأمن. كذلك لم يتمكن خبراء منظمة حظر الأسلحة الكيماوية من الوصول على الفور إلى المنطقة لتحديد ما إذا كانت الهجمات الكيماوية وقعت أو لم تقع. وكما هو معروف، شنت الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا ضربات وصفت بأنها دقيقة على ثلاثة مرافق للأسلحة الكيماوية في سوريا، وقال الرئيس الأميركي دونالد ترمب في خطاب بثه التلفزيون بأن الغرض هو «إنشاء رادع قوي ضد إنتاج الأسلحة الكيماوية ونشرها واستخدامها».