العاصم: لا بد من أن نؤمن بحرية الفكر... والمعرض يدعم ثقافة التنوع والاختلاف

عدد من المؤلفين يتناوبون على منصة التوقيع في معرض الرياض الدولي للكتاب

TT

العاصم: لا بد من أن نؤمن بحرية الفكر... والمعرض يدعم ثقافة التنوع والاختلاف

أكد المشرف العام على معرض الرياض الدولي للكتاب، الدكتور عبد الرحمن العاصم أن المعرض متاح للجميع، ولا يقتصر على فئة المثقفين فحسب؛ بل يستقبل جميع الشرائح بفئاتها العمرية المختلفة.
وقال العاصم إن «الوزارة غيّرت وجهة النظر المأخوذة عن المعرض؛ حيث لم يعد مجرد مكان لبيع الكتب، بل هو فعالية ثقافية ومشاركة معرفية تدعم ثقافة التنوع والاختلاف».
وأضاف: «لا بد أن نُؤمن بحرية الفكر، وأن المعرض يحتوي مجموعة مختلفة من الكتب؛ ولدينا 330 ألف عنوان، بعدد إجمالي بلغ مليونا ومائتي ألف نسخة، سيحظى بعضها بإقبال ونفاد، وأخرى لن يحالفها الحظ، ودائما نقول لكل كتاب قارئ ولكل مؤلف جمهور».
وأشار العاصم إلى أن المهتمين بقطاع الكتب والنشر سيلاحظون أن الدور المشاركة هي الأفضل في العالم العربي، حيث أجرينا 4 مراحل من الفلترة، لاختيارها، واستعنا بجمعية الناشرين السعوديين واتحاد الناشرين العرب، وكذلك الاتحادات في كل البلدان العربية لضمان تواجد أفضل الناشرين.
وأبان الدكتور العاصم أن الزائر العادي سيلاحظ تنوع الفعاليات الثقافية، حيث أصبحت غالبتيها تدار وتقدم من قبل الشباب، وتم تكريم مبادرات شبابية للمرة الأولى، حيث كان من المعتاد تكريم المثقفين والمترجمين والمحققين من المخضرمين الذين نعتز بهم، لكن الوزارة اتجهت للشباب وهو ما يحسب لها ويحسب للوزير بالذات.
وأفاد المشرف العام على معرض الرياض الدولي للكتاب، بأن ركن الطفل يستغل مساحة 900 متر مربع، حيث يستطيع الطفل أن يقضي ساعتين في ركنه الخاص من دون والديه، حيث سيتعلم مهارات متنوعة ثرية عبر تجوله في 23 ركنا داخل الجناح، في الوقت الذي سيتمكن والداه من التمتع في المعرض والتسوق، مطمئنين على أن الطفل بأيد أمينة ومتخصصة.
منصات التوقيع
يذكر أن منصة تواقيع معرض الرياض الدولي للكتاب استضافت عدداً من الكتاب الشعراء والمثقفين والأدباء، للتوقيع على مؤلفاتهم الثقافية والأدبية والدواوين الشعرية، إضافة إلى كتب في التوثيق التاريخي.
السبت الماضي وقع الشاعر محمد علي مانع ديوان «إلا أنا»، ووقعت الكاتبة لطيفة عبد الله بن طلحة كتاب «غرق»، عقبهما، وقع المؤلف أحمد بن حسن البقشي كتاب «من الذاكرة الأحسائية»، كما وقع كتاب «أجناس السيرة الذاتية السعودية» للمؤلف جزاع فرحان الشمري.
كما وقع المؤلف عبد الوهاب آل كاسي كتابه «مشاعل النور في بني البشر»، ثم وقع الكاتب والإعلامي حسن محمد مشهور كتابه «الميتافيزيقيا الشعرية»، كما وقعت الكاتبة نور الخالدي «غنيتك شعرا لا يكتمل».
بعدها وقعت الكاتبة هيفاء محمد فقيه كتابها «الهنداوية»، ووقعت بدور صويلح المالكي كتابها «في خدها عناب»، ووقعت منال فهد العتيبي «في العتمة هناك أنثى»، ووقعت منيرة مهدي العنزي كتابها «بيوت من زجاج»، كما وقع الكاتب محمد صقر السلمي كتابه «الآخر العربي في الفكر الإيراني الحديث»، وريم راجح البقمي كتابها «سم أفعى».
وقدمت الدكتورة فاطمة البريكي على منصة التواقيع كتابها «تقنيات الكتابة الإبداعية»، كما وقع كتاب «غاب تحت الثرى أحباء قلبي» للكاتب حمد عبد الله القاضي، وكتاب «ردني إليك» للمؤلف سلمان حكمي، وكتاب «عواذيب» للمؤلف عبد المجيد الذيابي، ووقع الكاتب عبد الله عوض الشهري «سراديب الروح»، ووقعت المؤلفة أمل مطر الشلوي كتابها «لبنى»، كما وقع كتاب «لحظات على قيد الحياة» للكاتبة هديل سويلم السويلم.
واختتمت منصة التواقيع بمجموعة قيمة هي: كتاب «رؤية تشكيلية لشعر النبطي السعودي» للكاتبة ليلى عبد الله الغامدي، وتوقيع كتاب «تحفيز الذات في تطوير القدرات» للكاتب محمد إبراهيم الجماعي، كما وقع الكاتب إبراهيم أحمد حلوش ديوانه «أنثى تحرر الوجع».
كما استضافت منصة التوقيع المؤلف أستاذ الأدب والنقد المساعد بكلية الآداب والفنون بجامعة حائل الدكتور جزاع بن فرحان الشمري لتوقيع كتابه «أجناسية السيرة الذاتية السعودية».



«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين
TT

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

سورين كيركيغارد

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!