القوة الفرنسية المرابطة في بلدان الساحل الأفريقي باقية إلى «أمد طويل»

الجنرال لوكوانتر قائد الأركان: نريد من دوله أن تتولى أمنها بنفسها

TT

القوة الفرنسية المرابطة في بلدان الساحل الأفريقي باقية إلى «أمد طويل»

في الأول من أغسطس (آب) عام 2014، أعادت فرنسا تنظيم قواتها المرابطة في بلدان الساحل الأفريقي تحت مسمى عملية «برخان». وغرضها الرئيسي كان «ولا يزال» محاربة المجموعات الإرهابية في منطقة ذاتأهمية حيوية واستراتيجية لفرنسا. وجاءت العملية عقب عمليتين عسكريتين واسعتين أمرت بهما السلطات الفرنسية في مالي «عام 2013» لمنع وصول التنظيمات المتطرفة النازلة من شمال البلاد باتجاه العاصمة باماكو. والأخرى، في العام الذي بعده في جمهورية أفريقيا الوسطى لوضع حد لحالة العنف التي ضربت هذا البلد وكادت أن تفضي إلى حرب أهلية واسعة النطاق. ولهذا الغرض؛ جندت باريس نحو أربعة آلاف رجل من الفرقة الأجنبية والقوات الخاصة و200 مدرعة و200 عربة نقل وشحن، إضافة إلى 20 طائرة هليكوبتر قتالية، و6 طائرات حربية، و4 طائرات من غير طيار للرصد والمراقبة. وعمدت إلى توزيع هذه القوات بشكل يوفر لها القدرة على التحرك في محاربة وملاحقة المجموعات المتشددة. وقد أقامت قواعد عسكرية في تشاد «أبيشيه ونجامينا» والنيجر «نيامي» ومالي «غاو» وبوركينا فاسو «واغادوغو» وموريتانيا «آتار». وتفيد الوثائق الرسمية الخاصة بوزارة الدفاع، بأن إحدى مهام القوة مد يد المساعدة للقوات المسلحة الأفريقية وتمكينها شيئا فشيئا من الاضطلاع بمسؤولية الأمن والاستقرار ومحاربة الإرهاب في بلدانها. والحال أنه بعد أربع سنوات ما زالت «برخان» في أفريقيا وستبقى على ما يبدو إلى أجل غير مسمى، ليس فقط قوة إسناد، بل أولاً قوة «تدخل» أولي وسريع. وعملت فرنسا منذ العام الماضي على الدفع باتجاه إنشاء القوة العسكرية المشتركة المسماة «جي 5» المشكّلة من دول الساحل الخمس والتي يفترض أن تكون قد أصبحت جاهزة لنشر ما لا يقل عن 5000 جندي من البلدان الخمسة منتصف العام الحالي. وتعمل فرنسا على توفير التمويل اللازم للقوة التي تحظى بدعم أوروبي وأميركي وخليجي (السعودية تبرعت لها بـ100 مليون دولار والإمارات بـ30 مليون دولار).
بيد أن كل هذه الخطوات لا تبدو، بالنسبة للقيادة العسكرية الفرنسية كافية لوضع حد لمهام «برخان»، خصوصاً أن المجموعات الجهادية التي كان هدف التدخل الفرنسي في مالي القضاء عليها قد أعادت تنظيم صفوفها. والدليل على ذلك الهجوم الذي استهدف قبل أيام قليلة مقر قيادة القوات المسلحة والسفارة الفرنسية في واغادوغو، والعمليات الإرهابية المتلاحقة المتنقلة بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو. وقالت وزارة الدفاع الفرنسية يوم الخميس، إن قواتها قتلت وأسرت في شهر واحد ما لا يقل عن ستين متطرفاً في المنطقة المسماة «الحدود الثلاثية» «مالي والنيجر وبوركينا فاسو» وأنها تنفذ دورياً عمليات استباقية تستهدف هذه المجموعات. كذلك، فإن باريس تخسر عدداً من رجالها في هذه العمليات، وآخر من سقط جنديان في 21 فبراير (شباط) الماضي. وتعترف المصادر الفرنسية والدولية «قوة مينوسما المنتشرة في مالي» أن «مناطق واسعة» من مالي خرجت عن سيطرة القوات المالية أو القوة الدولية المتشكلة من عناصر أفريقية.
اعترافاً بهذا الواقع المعقد، أعلن قائد أركان الجيش الفرنسي الجنرال فرنسوا لوكوانتر، أن عملية «برخان» لن يوضع لها حد سريع. وقال في حديث لإذاعة «أوروبا رقم1» أمس: «أعتقد أن العملية في منطقة الساحل هي عملية طويلة الأمد نشارك فيها اليوم لدعم تنامي قوة الدول الشريكة في المنطقة». وأضاف المسؤول العسكري الفرنسي: «إن الفكرة تكمن في أن يتحملوا المسؤولية عن هذا الأمن (في حين دورنا) أن نوفر لهم الدعم في القتال ضد هذا العدو المشترك. لا أرى أنه يمكننا أن نغادر الآن بكل الأحوال». لكن هذا لا يعني بالنسبة لباريس أن تبقى القوة على حالها، بل ثمة حاجة إلى تأقلمها، وإنه «من الضروري تطوير التزامنا حتى نكون قادرين على التكيف مع أي تغيير يقوم به العدو، ومواجهة تطورات الأوضاع وفي أقرب وقت ممكن استعادة هامش التحرك للتدخل في مكان آخر». وما تأمله باريس هو أن تكون زيادة الدعم والمساندة للقوات الأفريقية المحلية أو للقوة المشتركة كافية حتى تتمتع القوة المشتركة بحد أكبر من الاستقلالية.
حقيقة الأمر، أن ما يقوله رئيس الأركان الفرنسي يعكس رؤية المؤسسة التي ينتمي إليها؛ إذ سبقته وزيرة الدفاع فلورانس بارلي حينما زارت القوات الفرنسية المرابطة في قاعدة عيساليت في شمال مالي نهاية العام الماضي. وبكل صراحة قالت بارلي: إن «فرنسا ستبقى حاضرة ما دام كان ذلك ضرورياً، لكن وجود فرنسا ليس أبدياً. يجب أن تتولى منطقة الساحل أمنها بنفسها، نحن هنا لمساعدتها».
وما تخطط له باريس لا يعني أبداً أن الأهمية الاستراتيجية لهذه المنطقة قد تراجعت، بل بكل بساطة أن الحكومة الفرنسية تريد خفض الإنفاق، بما في ذلك الإنفاق العسكري، حيث مطلوب من كافة الوزارات أن تمارس التقشف؛ الأمر الذي ينسحب أيضاً على وزارة الدفاع. من هنا، الحملة الفرنسية في الدفع لتعزيز القوة الأفريقية المشتركة ومطالبتها الاتحاد الأوروبي والشريك الأميركي وبلداناً بعيدة عن الساحل الأفريقي مثل البلدان الخليجية أن تمد يد المساعدة لهذه القوة علها تخفف أعباء القوة المستعمرة السابقة.



الشراكة مع فرنسا تثير جدلاً واسعاً في نيجيريا

الرئيس الفرنسي ماكرون مستقبلاً مع عقيلته نظيره النيجيري تينوبو وعقيلته في باحة قصر الإليزيه 28 نوفمبر (إ.ب.أ)
الرئيس الفرنسي ماكرون مستقبلاً مع عقيلته نظيره النيجيري تينوبو وعقيلته في باحة قصر الإليزيه 28 نوفمبر (إ.ب.أ)
TT

الشراكة مع فرنسا تثير جدلاً واسعاً في نيجيريا

الرئيس الفرنسي ماكرون مستقبلاً مع عقيلته نظيره النيجيري تينوبو وعقيلته في باحة قصر الإليزيه 28 نوفمبر (إ.ب.أ)
الرئيس الفرنسي ماكرون مستقبلاً مع عقيلته نظيره النيجيري تينوبو وعقيلته في باحة قصر الإليزيه 28 نوفمبر (إ.ب.أ)

في وقت تسحب فرنسا قواتها من مراكز نفوذها التقليدي في الساحل وغرب أفريقيا، وتبحث عن شركاء «غير تقليديين»، يحتدمُ الجدل في نيجيريا حول السماح للفرنسيين بتشييد قاعدة عسكرية في البلد الأفريقي الغني بالنفط والغاز، ويعاني منذ سنوات من تصاعد وتيرة الإرهاب والجريمة المنظمة.

يأتي هذا الجدل في أعقاب زيارة الرئيس النيجيري بولا تينوبو نهاية نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي إلى فرنسا، والتي وصفت بأنها «تاريخية»، لكونها أول زيارة يقوم بها رئيس نيجيري إلى فرنسا منذ ربع قرن، ولكن أيضاً لأنها أسست لما سمّاه البلدان «شراكة استراتيجية» جديدة.

وتمثلت الشراكة في اتفاقيات تعاون هيمنت عليها ملفات الطاقة والاستثمار والمعادن، ولكنّ صحفاً محلية في نيجيريا تحدّثت عن اتفاقية تسمحُ للفرنسيين بإقامة قاعدة عسكرية داخل أراضي نيجيريا، وذلك بالتزامن مع انسحاب القوات الفرنسية من دول الساحل، خصوصاً تشاد والنيجر، البلدين المجاورين لنيجيريا.

لا قواعد أجنبية

ومع تصاعد وتيرة الجدل، تدخل الجيش النيجيري ليؤكد أن ما يجري تداوله بخصوص «قاعدة عسكرية» أجنبية فوق أراضي نيجيريا مجرد «شائعات»، نافياً وجود خطط للسماح لأي قوة أجنبية بإقامة قاعدة عسكرية في نيجيريا.

وتولّى قائد الجيش النيجيري، الجنرال كريستوفر موسى، بنفسه مهمة الرد، فأوضح أن «زيارة الرئيس بولا تينوبو الأخيرة إلى فرنسا، وُقِّعت خلالها عدد من الاتفاقيات الثنائية، لم تشمل السماح بإنشاء قواعد عسكرية أجنبية في نيجيريا».

وكان قائد الجيش يتحدّث خلال حفل عسكري بمقر وزارة الدفاع في العاصمة أبوجا، بمناسبة تغيير شعار القوات المسلحة النيجيرية، وقال إنه يوّد استغلال الفرصة لتوضيح ما جرى تداوله حول «قاعدة عسكرية أجنبية» في نيجيريا. وقال: «لقد أوضح الرئيس بشكل لا لبس فيه أن ما تم توقيعه هو اتفاقيات ثنائية تتعلق بالتجارة، والثقافة، والتقاليد، والتعاون، والاقتصاد، ولا وجود لأي شيء يتعلق بقاعدة عسكرية أجنبية».

وأوضح الجنرال موسى أن الرئيس تينوبو «يدرك تماماً عواقب مثل هذا القرار، ويعلم أن من واجبه حماية نيجيريا، ومن ثم، لن يسمح مطلقاً لأي قوة أجنبية بدخول نيجيريا»، ولكن قائد الجيش أكد: «سنستمر في التعاون بشكل ثنائي من خلال التدريب المشترك وإرسال ضباطنا كما هو معتاد، ولكن إنشاء قاعدة عسكرية أجنبية في نيجيريا ليس ضمن خطط الرئيس».

كراهية فرنسا

ورغم تصريحات قائد الجيش، فإن الجدل لم يتوقف؛ حيث عَبَّر «تحالف جماعات الشمال»، وهو هيئة سياسية ناشطة في نيجيريا، عن إدانته قرار السماح للعسكريين الفرنسيين بدخول أراضي نيجيريا، بل ذهب إلى أبعد من ذلك، حين انتقد بشكل لاذع عقد شراكة مع فرنسا.

وقال التحالف: «إن القرار يتعلق باتفاقية ثنائية جرى توقيعها بين نيجيريا وفرنسا تمنح الأخيرة وصولاً غير مقيد إلى الموارد المعدنية في نيجيريا»، وذلك في إشارة إلى اتفاقية وقعها البلدان للتعاون في مجال المعادن النادرة.

المنسق الوطني لتحالف جماعات الشمال، جميل علي تشارانشي، اتهم الرئيس تينوبو بالسعي نحو «تسليم سيادة نيجيريا إلى فرنسا، والتغطية على ذلك بمبررات مضللة»، ثم وصف ما يقوم به تينوبو بأنه «مناورة دبلوماسية مكشوفة».

الناشط السياسي كان يتحدث بلغة حادة تجاه فرنسا؛ حيث وصفها بأنها «دولة عدوانية؛ تدعم وتمول تفكيك المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)»، قبل أن يحملها مسؤولية «جو الحرب الذي تعيشه منطقة غرب أفريقيا».

وخلُص الناشط السياسي إلى أنه مصدوم من «إمكانية أن تخضع نيجيريا، بتاريخها الفخور بالدفاع عن السيادة الأفريقية، لتأثير أجنبي، نحن نرفض ذلك، وسنعارضه بشدة»، على حد قوله.

شراكة مفيدة

الرئيس النيجيري بولا تينوبو لدى حضوره حفل تنصيب رئيس تشاد في ندامينا 23 مايو (رويترز)

في المقابل، ارتفعت أصوات في نيجيريا تدافع عن تعزيز التعاون والشراكة مع فرنسا، وعدّت الحديث عن «قاعدة عسكرية» محاولة للتشويش على الطموحات الاقتصادية للبلدين.

في هذا السياق، قال المحلل السياسي النيجيري، نيكسون أوكوارا: «إن العالم يتّجه بسرعة نحو نظام متعدد الأقطاب، وإعادة صياغة التحالفات التقليدية، وهذا الواقع الجديد يتطلب من نيجيريا الاصطفاف مع شركاء يقدمون فوائد استراتيجية دون التنازل عن سيادتها».

وأضاف المحلل السياسي أن «فرنسا، رغم تاريخها غير الجيد في أفريقيا، فإنها تمنح لنيجيريا فرصة إعادة التفاوض على العلاقات من موقع قوة؛ حيث تواجه فرنسا معضلة تراجع نفوذها بشكل مطرد في الساحل وغرب أفريقيا».

وشدّد المحلل السياسي على أن نيجيريا يمكنها أن تربح «مزايا اقتصادية كبيرة» من الشراكة مع فرنسا، كما أكّد أنّه «مع تصاعد التحديات الأمنية في منطقة الساحل، يمكن للخبرات والموارد العسكرية الفرنسية أن تكمل جهود نيجيريا لتحقيق الاستقرار في المنطقة».

تعاون عسكري

التعاون العسكري بين فرنسا ونيجيريا عرف صعوداً مهماً عام 2016، حين وقع البلدان اتفاقية للتعاون العسكري والأمني، خصوصاً في مجالات الاستخبارات، والتدريب والإعداد العملياتي.

في الفترة الأخيرة، بدأ الحديث عن رغبة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في تعزيز هذا التعاون، وهو الذي عمل لستة أشهر في السفارة الفرنسية في أبوجا، حين كان طالباً في المدرسة الوطنية للإدارة. وبوصفها خطوة لتطوير التعاون العسكري بين البلدين، أعلن الجنرال حسن أبو بكر، قائد القوات الجوية النيجيرية، الأسبوع الماضي، أن بلاده تستعد للاستحواذ على 12 طائرة من طراز «ألفاجيت» مستعملة من القوات الجوية الفرنسية، ستتم إعادة تشغيل 6 منها، في حين ستُستخدم الـ6 أخرى مصدراً لقطع الغيار.

ورغم أنه لم تعلن تفاصيل هذه الصفقة، فإن نيجيريا أصبحت خلال السنوات الأخيرة «زبوناً» مهماً للصناعات العسكرية الأوروبية، وسوقاً تتنافس عليها القوى المصنعة للأسلحة، خصوصاً سلاح الجو الذي تراهن عليه نيجيريا لمواجهة خطر الإرهاب في غابات حوض بحيرة تشاد، أقصى شمال شرقي البلاد.