لويجي دي مايو... هل يكون «ماكرون إيطاليا»؟

بعد الخريطة البرلمانية الجديدة لميزان القوى الحزبية

لويجي دي مايو... هل يكون «ماكرون إيطاليا»؟
TT

لويجي دي مايو... هل يكون «ماكرون إيطاليا»؟

لويجي دي مايو... هل يكون «ماكرون إيطاليا»؟

في مثل هذه الأيام من عام 2014، صعد ماتّيو رينزي إلى سدّة رئاسة الحكومة الإيطالية وهو لم يبلغ بعد الأربعين من عمره إثر فوزه الكاسح بمنصب الأمين العام للحزب الديمقراطي (يسار وسط)، ثم في الانتخابات العامة (البرلمانية) العامة ليصبح أصغر رئيس وزراء في تاريخ إيطاليا. وفي ذلك العام وضعته مجلة «فورتشن» في المرتبة الثالثة بين الأشخاص الأكثر تأثيراً في العالم دون سن الأربعين، واختارته مجلة «فورين بوليسي» بين أول 100 مفكّر في العالم.
إلا أن كل هذه الأرقام القياسية التي جمعها ماتّيو «السريع» توشك اليوم أن تتحطّم أمام الصعود المعلن لنجم آخر من نجوم السياسة الإيطالية هو لويجي دي مايو، القيادي البارز في حركة «النجوم الخمس»، أكبر المنتصرين في الانتخابات العامة التي أجريت يوم الأحد الماضي.
ولد لويجي دي مايو، القيادي الإيطالي الشاب، الذي ينتظر كثرة من المراقبين أن تسند إليه رئاسة الحكومة الإيطالية الخيرة، عام 1986، في كنف عائلة متواضعة بجنوب إيطاليا.
كان والده ناشطاً في حزب الحركة الاجتماعية (الفاشيون الجدد) التي قامت على أنقاض الحزب الفاشي الإيطالي. ولم يكمل لويجي دراسته الجامعية في نابولي، كبرى مدن جنوب إيطاليا، بعدما تنقّل بين كليّتي الهندسة والحقوق، وشارك في تأسيس الاتحاد الطلابي في كل منهما. ومن ثم، تدرّب كصحافي لفترة قصيرة في إحدى الصحف المحلية، ثم عمل كبنّاء ومراقب في ملعب كرة القدم لنادي نابولي.
في عام 2007 كان لويجي دي مايو من مؤسسي «مجموعة أصدقاء بيبي غريلّو» التي قامت عليها بعد سنتين حركة «النجوم الخمس» التي أسسها النجم الكوميدي المعروف غريلو تحت شعار محاربة الفساد وإصلاح المنظومة السياسية والخروج من منطقة اليورو. وفي عام 2013 فاز بمقعد في البرلمان، ثم انتُخِب نائباً للرئيس ليصبح الأصغر سنّاً في تاريخ الجمهورية الإيطالية.
أما القفزة الأبرز والأهم لدي مايو فكانت خلال خريف العام الماضي عندما اختارته حركة «النجوم الخمس» مرشّحاً لها لرئاسة الحكومة في الانتخابات التي انتزعت فيها المرتبة الأولى بنسبة 32 في المائة من الأصوات، ما يضع هذا السياسي الشاب في الموقع المتقدم لرئاسة الحكومة الجديدة.

خطيب مفوَّه وواسع الاطلاع
لمع دي مايو إبان الحملة الانتخابية، وقبلها، كخطيب مفوّه واسع الاطلاع وملمّ بأدقّ تفاصيل المواضيع السياسية والاقتصادية. ويؤكد الذين تابعوه في اللقاءات التي أجراها مع مسؤولين سياسيين وماليين، في أوروبا والولايات المتحدة أخيراً، أنه ترك انطباعاً إيجابياً أشاع الارتياح في أوساطهم إزاء احتمال تكليفه رئاسة الحكومة.
إلا أنه، في المقابل، لم يتجاوب خلال الحملة الانتخابية مع الدعوات المتكرّرة التي وجّهت إليه لإجراء مناظرة مع ماتيو رينزي، الخاسر الأكبر في الانتخابات إلى جانب الملياردير سيلفيو برلسكوني. وكان هذا الأخير، الذي بدأ يكسب رزقه مغنّياً على متن السفن السياحية التي تجوب المتوسط قبل أن يجمع ثروته الطائلة كمقاول، قد ركّز سهام انتقاداته على الحركة في شخص دي مايو. ووصلت الحملة إلى حّد تعييره دي مايو مراراً بأنه «طالب فاشل... لم يستقرّ في وظيفة... حتى إنه عمل حمّالاً في ورش البناء، ثم مراقباً في ملعب نادي نابولي كي يتسنّى له مشاهدة المباريات مجاناً».

ليس نسخة عن غريللو
من اللافت أن شخصية دي مايو المتزّنة والهادئة تتعارض، من حيث الشكل والأسلوب، مع شخصية مؤسس «النجوم الخمس» بيبي غريلّو، الذي راهن على أن يكون دي مايو خلَفه في قيادة الحركة، فبينما يتّصف الأول بالاتزان في كلامه وتصرفاته وتبدو عليه ملامح التلميذ النبيه والمهذّب، يفرط الثاني في مظهره البوهيمي والفوضوي، ويسرف في استخدام تعابير نابية وشبه سوقيّة في خطبه المباشرة والمسجّلة.
والجدير بالذكر، أنه، على غرار دي مايو، لم يكمل غريلو دراسته الجامعية مكتفياً بالحصول على شهادة محاسب قبل أن يكتشف مواهبه الفنية بل والكوميدية أحد المذيعين التلفزيونيين المشهورين، فيعرض عليه المشاركة في برنامج للمنوّعات عام 1977. كان هذا البرنامج باب غريللو إلى النجاح والشهرة. ومنه انطلق لإعداد برامجه الخاصة، التي سرعان ما بدأ يستخدمها لتوجيه انتقادات جريئة ولاذعة للطبقة السياسية، إلى أن اتخذت إدارة التلفزيون الرسمي قراراً بمنعه من الظهور على قنواتها بعد تهجّمه على رئيس الوزراء - آنذاك - بتّينو كراكسي بمناسبة زيارة قام بها إلى الصين الشعبية.
ومن ثم، تابع غريلّو نشاطه الفني - السياسي خارج أطر الإعلام الرسمي. وكانت انتقاداته الجريئة تلقى تجاوباً واسعاً لدى الجمهور مع تفشّي الفساد في الجسم السياسي الإيطالي، وانكشاف الفضائح نتيجة الملاحقات القضائية التي قادتها مجموعة القضاة المعروفة باسم «الأيادي النظيفة». وفي عام 2005 أطلق غريللو مدوّنته بالإيطالية والإنجليزية واليابانية، وسرعان ما أصبحت بين المدونات العشر الأوسع انتشاراً في العالم. وفي عام 2008 اختارتها صحيفة «الغارديان» البريطانية من بين الأكثر تأثيراً.

بدايات «النجوم الخمس»
هذا النجاح الشعبي دفع غريللو في عام 2009 إلى تأسيس حركته السياسية «النجوم الخمس» على الشبكة الرقمية لنشر أفكاره حول النزاهة والديمقراطية المباشرة، ولم يلبث أن حقق نجاحات متتالية في الانتخابات الإقليمية عامي 2010 و2012. بل في عام 2013 حلّت الحركة في المرتبة الثانية في الانتخابات العامة بنسبة 25 في المائة من الأصوات، لكنها لم تحصل سوى على 109 مقاعد في مجلس النواب بسبب طبيعة القانون الانتخابي الذي كان في مصلحة اللوائح التحالفية.
وفي ذروة الأزمة المالية والاقتصادية الأوروبية، التي وضعت عدداً من المصارف الإيطالية على شفا الإفلاس، وأجبرت حكومة برلسكوني اليمينية على الاستقالة، سعى غريلّو للحصول على 4 ملايين توقيع لإجراء استفتاء حول بقاء إيطاليا في منطقة اليورو رغم أن الدستور لا يجيز ذلك. لكنه لم يجمع أكثر من مائتي ألف توقيع، فتراجع عن اقتراحه.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن غريللو كان يشرف على إدارة الحركة - التي أسسها مع صديقه الراحل الخبير في الاتصالات الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي جيانروبرتو كازاليجيو - من غير أن يترشّح في الانتخابات، مكتفياً بدور الموّجه والمرجع لحسم الخلافات واتخاذ القرارات الاستراتيجية في الحركة. غير أن كثيرين لا يعرفون أن السبب في عدم ترشحه يعود لحكم صادر بإدانته في حادث سير أودى بحياة أحد الأشخاص، مما يحرمه من حق الترشّح بموجب القانون الإيطالي. كذلك من بين الانتقادات التي توجه إلى غريللو أنه ديماغوغي يهاجم خصومه مركّزاً على مواضيع سطحية وحياتهم الخاصة، علماً انه يملك يختاً ويتنقّل في سيارة «فيراري».

تشكيل الحكومة الجديدة
ليست إيطاليا مثالاً يُحتذى من حيث وضوح مشهدها السياسي وسهولته، ولا من حيث استقرار الحكومات فيها. لكنها نادراً ما واجهت مشهداً معقدّاً وحسّاساً كالذي تمخّض عن انتخابات يوم الأحد الماضي. برز في هذه الانتخابات طرفان قويّان من خارج التركيبة السياسية التقليدية، يطالب كل منهما بأحقيّة تشكيل حكومة جديدة: الأول هو حركة «النجوم الخمس» التي فازت بأكثر من 30 في المائة من الأصوات، والثاني هو تحالف يمين الوسط الذي باتت تتزعمه «عصبة الشمال» بعد الهزيمة التي مني بها حزب برلسكوني «فورتسا إيطاليا» (إلى الأمام يا إيطاليا)، إلا أن أياً من الطرفين لا يملك الدعم الكافي لتشكيلها، وهو مما يقتضي الدخول في تحالفات أقل ما يقال فيها إنها غير طبيعية وشبه مستحيلة.
المسؤولية الكبرى الآن ملقاة على عاتق رئيس الجمهورية، رجل الدولة الهادئ، سيرجيو ماتاريلا الذي عليه أن يبحر بصمت في هذه الأجواء المعتكرة التي أفاقت عليها إيطاليا، سعياً إلى حل لا يستبعد أن يفضي (في أسوأ الأحوال) إلى العودة إلى صناديق الاقتراع بعد تعديل القانون الانتخابي.
وفي غضون ذلك، وبينما يراقب الاتحاد الأوروبي بقلق متزايد تطورات الوضع في البيت الإيطالي، تواصل حكومة تصريف الأعمال مهامها برئاسة باولو جنتيلوني، الذي لا شك في أنه يظل من بين الأوراق التي يحتفظ بها رئيس الجمهورية لساعة الحسم الاضطراري التي قد لا تكون بعيدة.

مرونة وتكيّف
في أي حال، لا ينتظر أن يظهر أي تغيير كبير في المشهد الراهن - باستثناء التصدّع التقليدي الذي بدأت تتسّع شروخه في أوساط اليسار وإعلان برلسكوني الولاء لزعامة جديدة لليمين - قبل الثالث والعشرين من هذا الشهر عندما يعقد البرلمان الجديد جلسته العامة الأولى. لا بد عندئذ أن تظهر الملامح الأولى للتحالفات المحتملة لانتخاب رئيس المجلس ونوابه وأعضاء هيئة المكتب، وليس مستبعداً أن تتضح خطوط الانشقاقات داخل الأحزاب والتحالفات الانتخابية وفاءً للتقاليد الإيطالية العريقة.
أما اللافت في الفترة القصيرة التي انقضت حتى الآن منذ إجراء الانتخابات، أن «النجوم الخمس» التي كانت الأكثر تشدداً من حيث رفضها لمبدأ التحالفات والمساومات، بدأت تُظهر استعدادا للانفتاح والليونة. إذ أعلن مؤسسها «بيّبي غريلّو» أن «البقاء ليس للأقوى، بل لمَن يحسن التكيّف. نحن فينا بعض من الديمقراطيين المسيحيين، وبعض من اليمين وبعض من اليسار وبعض آخر من الوسط. بإمكاننا أن نتكيّف مع أي شيء... ولذلك سنفوز دائماً».
وحقاً، بعد ساعات من هذا التصريح صدر عن هيئة الصناعيين الإيطالية - وهي إحدى ركائز الثالوث الفاعل في البلاد، إلى جانب رئاسة الجمهورية والفاتيكان - بيان يؤكد أنها لا تخشى من تشكيل حكومة بقيادة «النجوم الخمس»، بل ترى أن المشكلة تكمن في تعذر تشكيل حكومة.
ما لم تقله هيئة الصناعيين إنها تفضّل حكومة بقيادة شعبوية مناهضة للنظام السائد لكنها مخفّفة بتحالف مع الحزب الديمقراطي، على حكومة برئاسة زعيم «عصبة الشمال» اليمينية المتطرفة. لكن المشكلة بالنسبة لليسار تذهب أبعد من ذلك. إذ إن ماتّيو رينزي أوضح انه يفضّل الانتقال إلى المعارضة على التحالف مع «النجوم الخمس».
وطلب من مؤيدي مثل هذا التحالف أن يكشفوا علناً عن مواقفهم، ثم ذهب في عطلة للتزلّج. وفي حين يرى رينزي أن التحالف مع «النجوم الخمس» قد يؤدي إلى مزيد من الانحسار في قاعدة حزبه لصالح الحركة، يخشى آخرون من أن الوصول إلى طريق مسدود والعودة إلى صناديق الاقتراع من شأنه أن يلحق بهم هزيمة أكبر.

«السيناريوهات» الممكنة
في ضوء كل ذلك ليس أمام رئيس الجمهورية ماتاريلا سوى الخيارات التالية:
- «اتفاق على الطريقة الألمانية» بين «النجوم الخمس» والحزب الديمقراطي يُعطى بموجبه هذا الأخير رئاسة مجلس النواب مع المشاركة في الحكومة أو من دونها. وثمة معلومات تفيد بأن مفاوضات تجري حول هذا الاتفاق من دون علم رينزي، الذي قال إن صفقة كهذه لن تمّر إلا فوق جثته. لكن وضع رينزي اليوم هو - في مطلق الأحوال - أقرب ما يكون إلى الجثة.
- «اتفاق على الطريقة الإيطالية»، أي أن يتمكن تحالف اليمين من «إقناع» 56 نائباً من خارجه بالانضمام إليه لتشكيل حكومة برئاسة ماتيو سالفيني (عصبة الشمال). مثل هذا «النزوح» الحزبي ليس مستهجناً في إيطاليا، وإن كان العدد هذه المرة يتجاوز الحالات السابقة. مع هذا يرى مراقبون أنه ليس مستعصياً بالنسبة للاعب ماهر مثل برلسكوني، لا سيما أن البرلمان الإيطالي قد شهد في العقود الخمسة الماضية 566 حالة نزوح لبرلمانيين من حزب إلى آخر. - «اتفاق ضد أوروبا»، بين «النجوم الخمس» و«عصبة الشمال» يعطيهما غالبية مريحة في مجلسي النواب والشيوخ. قد يبدو هذا الاتفاق شبه مستحيل في الظرف الراهن، لكن نصف الإيطاليين صوّتوا لأحد هذين الحزبين اللذين كانا ثمرة الاستياء العارم من تفشّي الفساد، وفشل المؤسسات، والتوتر الاجتماعي الناشئ عن الأزمة الاقتصادية وظاهرة الهجرة.
- «اتفاق ميثاقي». إذا تعذرت الحلول السابقة قد يطلب رئيس الجمهورية من القوى الرئيسية تشكيل «حكومة مؤقتة» تنحصر مهامها بإقرار الموازنة وتأمين استقرار المؤسسات وتعديل القانون الانتخابي والدعوة لإجراء انتخابات جديدة. مثل هذا الاتفاق يستثني سيلفيو برلسكوني، وقد يكون بمثابة الخاتمة الفعلية لمسيرته السياسية وثمناً باهظاً لعودته المتعثرة.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.