محمد ولد عبد العزيز... محارب موريتانيا الذي لم يخطط للرئاسة

صدم أنصاره برفضه البقاء في السلطة بموجب تعديل دستوري

محمد ولد عبد العزيز... محارب موريتانيا الذي لم يخطط للرئاسة
TT

محمد ولد عبد العزيز... محارب موريتانيا الذي لم يخطط للرئاسة

محمد ولد عبد العزيز... محارب موريتانيا الذي لم يخطط للرئاسة

بعد أقل من سنتين سيخرج الرئيس الموريتاني محمد ولد عبد العزيز من قصره، وسيتفرّغ لقطعان الإبل ومجالسه الخاصة في البوادي بعيداً عن ضوضاء المدينة وصخب السياسة. هذا، على الأقل، ما أكده في تصريح الأسبوع الماضي، غير أن الأمر -على ما يبدو- لم يعجب بعض أنصاره. فهؤلاء يحرضونه على تعديل الدستور كي يبقى في الحكم، وهو الذي قاد انقلابين ناجحين عطّل خلالهما العمل بالدستور، كما أشرف على 3 تعديلات دستورية حاسمة في تاريخ موريتانيا.
وباختصار شديد، استطاع ولد عبد العزيز في أقل من عقدين من الزمن أن يترك بصمته على التاريخ الحديث لبلاده.
الشمس تميل إلى الغروب. لون أشعتها الصفراء يغطي الصحراء الممتدة في الأفق. سيارات رباعية الدفع تشق السكون بسرعة كبيرة، تاركة خلفها عاصفة من الغبار سرعان ما تتلاشى.
إنه موكب الرئيس محمد ولد عبد العزيز –أو «عزيز»– العائد من إحدى رحلاته الأسبوعية إلى بوادي صحراء إنشيري، بشمال موريتانيا.
اشتهر «رجل موريتانيا القوي» بأنه لا يستغني عن أجواء البادية، حيث مضارب الإبل وأحاديث الرعاة وقصص الآباء والأجداد. ويذهب الموريتانيون إلى أبعد من ذلك فيقولون إن الكثير من القرارات الحاسمة المتعلقة بتسيير بلدهم، اتخذها الرجل وهو جالس في خيمته بين الكثبان، على بعد مئات الكيلومترات عن مكتبه في القصر الرئاسي بالعاصمة نواكشوط.

سيرة شخصية
الوثائق الرسمية تقول إن محمد ولد عبد العزيز وُلد في مدينة أكجوجت، وهي مدينة صغيرة تشتهر بمناجم النحاس والذهب في الشمال الموريتاني، وخرج من أحيائها -والمضارب القريبة منها- كثيرٌ من رجال الدولة الموريتانية الحديثة. بعض هؤلاء نجحوا في الوصول إلى مناصب قيادية في الدولة من ضمنها منصب الرئيس، في حين سيطر آخرون على قطاع المال والأعمال في الدولة الفتية، وأغلبهم ينحدرون من قبائل كانت ذات شوكة قبل الاستعمار، وتحوّلت إلى قيادة الجيش بعد الاستقلال.
ولكن رواية أخرى تقول إن ولد عبد العزيز وُلد في مدينة دارُ موستي، بوسط السنغال («جارة» موريتانيا إلى الجنوب)، حيث كانت عائلته تمارس التجارة، على غرار العديد من العائلات الموريتانية في ذلك الوقت. وتضيف هذه الرواية أن عائلة ولد عبد العزيز عادت إلى موريتانيا عقب إعلان استقلال البلدين (موريتانيا والسنغال) عن فرنسا.
لم يكن ولد عبد العزيز الموريتاني الوحيد الذي تتضارب الروايات حول تاريخ ومحل ميلاده. إلا أن موقعه كرئيس للبلاد أعطى زخماً لهذه القضية، فاستغلتها المعارضة في الكثير من خطاباتها لإثارة الشكوك حول انتماء الرجل ووطنيته، لكنه تجاهل مثل هذه الاتهامات ولم يعلِّق عليها طيلة فترة حكمه، وكانت تثير سخرية العديد من أنصاره.

يكره السياسيين
أكمل «عزيز» تعليمه الثانوي، في فترة لم تكن موريتانيا تتوافر على جامعة. وكان أغلب الطلاب المتميّزين يومذاك يتوجّهون إلى الدول العربية لإكمال دراساتهم العليا. بيد أن الشاب الطموح توجه إلى المؤسسة العسكرية، وهو خيار لعب فيه المحيط الاجتماعي الدور الأكبر.
لم تُعرف عن الشاب أي ميول سياسية ولا اهتمامات بالشأن العام في بلده، بينما كان يعيش أوجّ الصراع السياسي بين الحركات الآيديولوجية، وكان من النادر أن تجد شاباً سلِم من الانخراط في صفوف القوميين أو الكادحين أو الإسلاميين. ولكن ولد عبد العزيز كان حقاً من تلك الفئة النادرة التي لم يُعرف عنها أي اهتمام سياسي أو حركي إبّان فترة الشباب.
يصفه مقرّبون منه بـ«الغامض» في تلك الفترة. ويقول آخرون إنه كان «خجولاً، صامتاً، يميل كثيراً إلى الجلوس وحده». في حين يؤكد أحد أقاربه أنه «يكره السياسيين»... وكثيراً ما قال في مجالسه الخاصة إنهم «يكذبون»، من دون أن يبدي أي رغبة في القيادة ولا الانخراط في أي نشاط سياسي.
وفي الوقت الذي كان الشباب الموريتاني يخوض الصراعات السياسية والنقاشات الآيديولوجية، كان «الشاب الخجول» ينفق الكثير من وقته في ممارسة الرياضة. مقرّبون منه يتذكّرون أنه كان «مدمناً على ممارسة رياضة الجري في الساعات المبكرة من الصباح، وكان رياضياً من الطراز الأول». ويؤكد هؤلاء أنه «جاد ومنضبط» إلا أنه «عصبي ومتهوّر»... ليست لديه أي ميول أدبية و«لا يحب الشاي ويكره الشعر»، مع أن الشعر والشاي من أقرب الأشياء إلى قلوب الموريتانيين.

الالتحاق بالجيش
التحق محمد ولد عبد العزيز بالجيش تحت ضغط من محيطه الاجتماعي، وهذا أمر دارج في موريتانيا، حيث كان من النادر أن يختار الشاب مستقبله. ذلك أن الكلمة الأخيرة دوماً بيد القبيلة وأبناء العمومة، ولقد كان التوجه نحو الجيش قراراً يُتخذ لتهذيب الشباب وإصلاحهم، وفي بعض المرات لانتشالهم من الضياع والتيه.
عندما التحق ولد عبد العزيز بالجيش كانت «حرب الصحراء» في أوجّها، وكان الجيش الموريتاني يخوض مواجهة مبكرة ومباشرة مع «جبهة البوليساريو» المدعومة من الجزائر، في حرب عصابات أنهكت الموريتانيين واستنزفت قوتهم المحدودة. وأثرت هذه الظرفية الصعبة في مستقبل الشاب، ليقود بعد 3 عقود عملية إصلاح واسعة داخل الجيش، نجحت في رفع مستواه، ومكّنته من خوض حرب شرسة ضد «الإرهاب».
وبعد فترة وجيزة من دخول الجيش، حصل ولد عبد العزيز عام 1977 على منحة دراسية إلى المملكة المغربية، وتحديداً في الأكاديمية العسكرية الملكية بمدينة مكناس، حيث تخرّج عام 1980 برتبة ضابط، إلا أن الضابط الشاب غادر بلاده وهي تحت حكم الرئيس المؤسس المختار ولد داداه، وعاد إليها وهي في قبضة الجيش.
وفي أعقاب الانقلاب العسكري على نظام الرئيس المختار ولد داداه عام 1978، دخلت موريتانيا فترة من الاضطراب السياسي، وشهدت تعاقب العديد من الرؤساء العسكريين في الفترة الممتدة من 1978 حتى 1984. وهذه هي الفترة التي أمضى ولد عبد العزيز جلّها خارج البلاد، يتابع الأحداث عن بُعد. وبعد عودته من المغرب عام 1980، توجّه إلى الجزائر حيث تلقى تكويناً في مجال «اللوجيستية العسكرية» امتد ما بين عامي 1981 و1982.

في ظل «الرئيس»
بعد انقلاب أبيض عام 1984 استتب الأمر في موريتانيا للرئيس معاوية ولد سيد أحمد الطائع، الذي قاد عملية مصالحة داخلية، وأفرج عن السجناء السياسيين، وباشر إصلاحات دستورية فتحت الباب أمام التعدّدية السياسية، ونُظمت أول انتخابات تعددية في تاريخ البلاد. كان ولد عبد العزيز قريباً من ولد الطائع وهو يقطع أولى خطواته في حكم سيستمر لأكثر من 20 سنة.
يمكن القول إن ولد عبد العزيز هو الابن الشرعي لنظام ولد الطائع. إذ ترقّى في المناصب القريبة من الرئيس، وكان مطّلعاً على الكثير من دقائق الأمور، مع بقائه في الظل وبعيداً عن الأضواء. وبدأت مسيرة ولد عبد العزيز في ظل ولد الطائع عندما عيّنه الرئيس السابق مرافقاً عسكرياً له عام 1984، واستمر في هذا الموقع حتى عام 1987، عندما عيّن قائداً لكتيبة الأمن الرئاسي حتى عام 1991، وانتقل إلى قيادة كتيبة القيادة والخدمات في قيادة الأركان الوطنية، وظل هنالك سنتين قبل نقله عام 1993 إلى منصب القائد المساعد للمنطقة العسكرية السادسة، وهي واحدة من أهم المناطق العسكرية في موريتانيا.
بعد ذلك، أعاده ولد الطائع إلى جانبه، عام 1998، عندما عيّنه في منصبه السابق قائداً لكتيبة الأمن الرئاسي، وهو المنصب الذي احتفظ به إلى أن قرر الخروج من «دائرة الظل»، فقاد «انقلاباً أبيض» على ولد الطائع عام 2005 يشبه كثيراً في تفاصيله انقلاب 1984.

صعود السُّلّم
كانت السرعة التي صعد بها محمد ولد عبد العزيز سُلّم الترقيات العسكرية كبيرة، حتى إن مسيرته في المؤسسة العسكرية كانت تثير الكثير من الأسئلة لدى أقرانه من الضباط. وبالفعل، برز هذا الجدل إلى العلن في مناسبات خاطفة، وأخذت الأسئلة تُطرح حول المعايير المُعتمَدة للترقيات العسكرية، وبات الحديث يتكرر عن انعدام الشفافية في منح الترقيات والرتب.
المصادر المطلعة تشير إلى أن ولد عبد العزيز قطع مراحل مهمة في حياة أي عسكري خلال فترة وجيزة، في حين أن هناك من هم أقدم منه في المؤسسة، لكنهم لم يحصلوا على مثل هذه الترقيات. هذه قضية تثير الكثير من الحساسيات في موريتانيا، ويفضل أغلب الموريتانيين تحاشي الكلام عنها لأنها تتعلق بنفوذ القبائل وامتداداتها داخل المؤسسة العسكرية، تلك المؤسسة القوية والصلبة، التي يعتقد أغلب الموريتانيين أنها أقرب إلى «صندوق أسود» يستحيل لأحد معرفة ما يجري داخله. غير أن المصادر الرسمية تقول إن ولد عبد العزيز حصل على رتبة ملازم أول عام 1980، ورقّي إلى رتبة نقيب عام 1988، ثم حصل على رتبة رائد عام 1994، ونال رتبة مقدم عام 1998، قبل ترقيته إلى رتبة عقيد عام 2004 «مكافأةً» له على دوره في إفشال المحاولة الانقلابية التي شهدتها البلاد في ذلك العام. غير أنه قاد «انقلابه الأبيض» الناجح بعد ذلك بسنة واحدة، مطيحاً بنظام ولد الطائع، الذي كان يتباهى به وقرّر بنفسه ترقيته.
وأخيراً، عام 2008 حصل على ترقيته الأخيرة، وهي رتبة جنرال (من لواء إلى فريق)، من طرف الرئيس المدني سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله. وهذه الرتبة كانت الأعلى في الجيش الموريتاني آنذاك، والغريب أنه انقلب على ولد الشيخ عبد الله في العام نفسه، ومنذ ذلك الوقت وهو يحكم موريتانيا.

رئيس بـ«المصادفة»
سبق أن قال ولد عبد العزيز، بصراحة، إنه لم يخطّط لأن يكون رئيساً لموريتانيا، ولم تكن لديه أي رغبة في الرئاسة. وأوضح أن سياسات الرئيس السابق سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله، هي التي أرغمته على الانقلاب عام 2008، ومنذ ذلك الحين، رفض وصف ما جرى آنذاك بأنه انقلاب، بل دأب على وصفه بـ«الحركة التصحيحية»، متهماً ولد الشيخ عبد الله بـ«الانحراف عن المسار الديمقراطي».
إلا أن ولد عبد العزيز سرعان ما أتقن دور الرئيس، وأمسك بزمام الأمور، ليصبح ذلك الرجل الذي قاد انقلابين عسكريين ناجحين (2005 و2008»، وفاز في اقتراعين رئاسيين (2009 و2014»، وعدل الدستور 3 مرات (2006 و2011 و2017). وهو يحاول اليوم أن يغادر السلطة من دون أن ينتهي النظام الذي حكم به البلاد. إنه يريد إبقاء الحكم في أيدي «رفاقه».
ولقد أكد ذلك في أكثر من مناسبة، منها عندما قال في خطاب شعبي عام 2016 إن «الباب مسدود أمام المعارضة» للوصول إلى الرئاسة، وأضاف بعد ذلك بأشهر أنه «سيدعم مرشحاً في الانتخابات الرئاسية».
وعلى الرغم من أن ولد عبد العزيز «لم يخطط» للوصول إلى الرئاسة، فإنه يعتقد أن «المشروع» الذي أطلقه سينتهي بتحقيق نهضة اقتصادية في موريتانيا. وهو حتى اللحظة يرفض التنازل عن ذلك «المشروع»، ويؤكد مواصلته المحاربة من أجل تطبيقه، وهو القائم على 3 حروب شرسة: الحرب على الفساد، والحرب على الإرهاب، والحرب على المعارضة «اللاوطنية»، حسب وصفه.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.