تحل هذه الأيام الذكرى السابعة لـ«انتفاضة 17 فبراير» في ليبيا. لم تأتِ من فراغ، لكن نظام العقيد الراحل معمر القذافي كان يُفترض أنه استعد لاحتوائها جيداً؛ كونه اختبر للتو، وبنجاح: «بروفة» لكيف يمكن أن يتحرك الشارع الليبي بعفوية ويخرج عن نطاق السيطرة.
ربما لا يذكر كثيرون هذه «البروفة»، التي حصلت قبل شهور فقط من «انتفاضة فبراير»، وكانت تداعياتها لم تنته بعد عندما بدأت ثورات ما يُعرف بـ«الربيع العربي»، وأطاحت بنظامي الحكم في تونس ومصر، جارتي ليبيا غرباً وشرقاً.
تعود القصة إلى منتصف العام 2010، عندما كان العقيد الليبي في زيارة لمدينة سبها، معقل مؤيديه في جنوب البلاد. ما أن استعد كعادته في جولاته لإلقاء «خطاب جماهيري»، حتى فوجئ ببعض الحاضرين – الذين ينتمون إلى ضاحية حجارة الفقيرة - يتوجهون إليه مباشرة بشكواهم. قالوا إن أرضهم التي عاشوا فوقها داخل منازل متداعية أو في أكواخ من الصفيح، تم أخذها منهم بهدف بناء مشروع سكني تقوم به الدولة، على أن يتم تسليمهم مساكن جديدة بعد إنجاز المشروع. وبحسب شكواهم، تم بناء المساكن، لكن لم يُسمح لهم بالسكن فيها، وعوض ذلك مُنحت الشقق لأشخاص غير أولئك الذين وُعدوا بها. فما كان من القذافي إلا أن سارع، ومن دون استشارة مساعديه على ما يبدو، إلى إبلاغ المحتجين بأن «يزحفوا» على المساكن الشعبية ويأخذوا حقهم بأنفسهم، بما أن الأرض أرضهم، وقد وُعدوا أصلاً بمنحهم مساكن فيها.
وفي تصريحات إلى «الشرق الأوسط»، يقول نعمان بن عثمان، الذي عمل لفترة في «مشروع الغد»، الذي يقوده سيف الإسلام القذافي، نجل الزعيم الليبي، وشارك في مساعيه للمصالحة مع الإسلاميين (وهم رفاقه السابقون في «الجماعة المقاتلة»): إن العقيد القذافي «انفعل بشكل عفوي بعدما سمع بتفاصيل قضيتهم، ومن دون أن يراجع الحكومة قال لهم: ما دام أنهم (شعبية بلدية سبها) أخرجوكم من أرضكم، فالمساكن من حقكم... اذهبوا واسترجعوها. وما أن غادر القذافي سبها حتى بدأت الجماهير تزحف على المباني السكنية فوراً. لكن الغريب أن هذه القصة التي بدأت في سبها، سرعان ما انتشرت لتشمل مشروعات البناء السكني في عموم ليبيا، ووصلت حتى العاصمة طرابلس التي تبعد عن سبها بأكثر من 700 كلم».
وأثار هذا «الزحف الجماهيري» على المساكن الشعبية بلبلة واسعة في ليبيا. وجادل محتلو المساكن بأنهم لا يقومون سوى بما يدعو له القذافي نفسه في خطاباته. لم يتحججوا فقط بما قاله في سبها، بل قالوا إنهم يطبقون نظرياته الاجتماعية من قبيل أن «البيت لساكنه»، وليس بالضرورة لمالكه.
في المقابل، قال منتقدو هذا التصرف: إن المساكن الشعبية - وعددها بعشرات الآلاف - بُنيت لتلبية حاجات المجتمع، خصوصاً جيل الشباب لمساعدته على الزواج، واقتناء مسكن بأسعار مخفضة، ومن دون دفع فوائد قروض أثارت آنذاك اعتراضاً دينياً بين الليبيين، الذين رفضوا «قروض الربا». وقال هؤلاء الرافضون أيضاً إن كثيراً من المساكن الشعبية قد تم بيعها، وسُجّلت بأسماء أصحابها الجدد الذين يملكون صكوك ملكية تثبت أنهم دفعوا على الأقل الأقساط الأولى من قروض الشراء، وأنهم عندما ذهبوا لتفقد شققهم الجديدة وجدوا فيها أشخاصاً آخرين أقاموا فيها، وأكملوا تقسيمها وتركيب أبواب جديدة لها.
يقول بن عثمان، رئيس مؤسسة «كويليام» الدولية لمكافحة التطرف، في شرحه لما حصل آنذاك: «بعض المشروعات السكنية كان قد تم إنجاز 50 في المائة منها، وبعضها 60 في المائة، أو حتى 70 في المائة عندما اندلعت الأحداث (في فبراير/شباط 2011). كان لسيف الإسلام علاقة بطريقة ما بهذه المشروعات من خلال الضغط، الذي مارسه على الدولة لتوفير نصف مليون مسكن جديد، مع إعطاء الأولوية لجيل الشباب. كان الشاب يدفع ما بين خمسة آلاف إلى سبعة آلاف دينار ليبي للحصول على شقة، لكن ثمنها كان زهيداً لأنها مدعومة من الدولة. المشكلة التي واجهتها (الدولة) آنذاك هي أن الناس رفضت فكرة القروض الائتمانية على أساس أن فيها ربا، ففشلت مشروعات الإسكان. وجرت دراسات من قبل سيف الإسلام، وتم الاستخلاص أنه يجب تأمين مساكن بأي طريقة، ما دام الناس لن تقبِل على القروض الائتمانية التي فيها ربا. فكان الحل هو أن المواطن يدفع مالاً من دون أن توضع عليه أعباء الدين... لكن الذي حصل (بعد خطاب القذافي في سبها) هو أن الدولة وجدت آلاف الشقق مصادرة من المواطنين بالقوة، واستدعى ذلك أسابيع طويلة إلى أن تمكنت قوات الأمن من إخراج الناس منها».
لم تتم عملية إخراج محتلي الشقق «المصادرة» بالقوة، «فقد صدرت أوامر فورية من معمر نفسه بعدم التعرض لهم بعنف. قال إنه يمنع منعاً باتاً المس بهم. لكنه كان في غاية الاستياء والغضب»، بحسب بن عثمان الذي يضيف: «كنت حاضراً شخصياً ما حصل آنذاك. كان القذافي مستاءً جداً، وخشي أن هناك تحريضاً ضده عن طريق (قضية) المساكن، فكلّف شخصاً صديقاً لي - وهو ضابط برتبة عميد مقرب من معمر– بإجراء تحقيق موازٍ خارج أجهزة الدولة لتحديد كيف دخل هؤلاء الناس إلى البيوت في ليبيا كلها، في حين أن الكلام كان محصوراً بسبها؟ أراد القذافي أن يعرف كيف صارت هذه الفوضى فجأة، وبدأ الناس يتكلمون في السياسة. طلب أن يعرف من هي الشخصيات التي دعت المواطنين إلى القيام بما قاموا به (احتلال المساكن الشعبية)».
وبالفعل، باشر العميد الليبي تحقيقاته، وأخذ مع فريق من معاونيه في استقبال الناس، والسماع منهم بخصوص الأسباب التي دعتهم إلى «الزحف» على المساكن الشعبية، كما استمع بالطبع إلى شكاوى «المالكين» للشقق، والذين وجدوا أشخاصاً آخرين يقيمون فيها. يقول بن عثمان: «جاء أحدهم (إلى مكتب عميد الأمن) قائلاً إنه كان يستعد للزواج، ويدفع أقساطا تُخصم من راتبه. لكنه عندما ذهب إلى شقته وجد فيها عائلة ثانية. كانت فوضى عارمة. طالب مشترو الشقق باستعادتها، وحصلت مشكلات بينهم وبين مواطنين آخرين، وصارت الناس تتجرأ على الدولة. كان الأمر، في الواقع، بمثابة بروفة لكيف يمكن أن يخرج الشعب على الدولة ويتجرأ على تجاوز القانون. لكن البروفة كانت مقبولة؛ كونها جاءت في إطار مقولة البيت لساكنه، وتم توظيف أفكار القذافي ضده».
ويؤكد بن عثمان، أن القذافي أمر في بداية الأزمة قوات الأمن المركزي بعدم إخراج أي شخص من شقة، أو عقار يسكن فيه بشكل غير شرعي، لكنه بعد فترة قصيرة طلب البدء في إخراجهم منها، «لكن دون استخدام العنف والقوة. تم اللجوء إلى النيابة والاستعانة بالشرطة، لكن كل ذلك تم بهدوء إلى أن انتهت موجة احتلال المساكن». لكن ما كادت هذه القضية أن تنتهي حتى اندلعت حادثة البوعزيزي في تونس المجاورة، وفجّرت ثورة شعبية أطاحت حكم الرئيس السابق زين العابدين بن علي، في مطلع عام 2011، وتلتها «ثورة يناير»، التي أطاحت أيضاً بحكم الرئيس المصري السابق حسني مبارك.
وعلى رغم أن «بروفة المساكن الشعبية» انتهت بنجاح القذافي في احتوائها، فإن تداعياتها والتحقيقات التي أجريت بيّنت، كما يكشف بن عثمان، أن تحرك الشارع «لم يكن عفوياً»، بل كانت هناك جهات متورطة فيه، علما بأن النظام الليبي كان يشهد آنذاك صراعاً حامياً بين سيف القذافي وتياره «الإصلاحي»، وبين تيارات أخرى معارضة لهذا النهج، ومدعومة من أبناء آخرين للزعيم الليبي. ويوضح بن عثمان قائلاً: «كان القذافي مهتماً بمعرفة من يدفع بهؤلاء (الذين «زحفوا» على المساكن الشعبية). بدأت الاتهامات تنطلق في كل اتجاه. بعضهم حاول أن يقول إن سيف (متورط) من خلال منظمته الشبابية. وقال آخرون إن ذلك غير صحيح، بل إن المتورطين هم جماعة من المعارضين (في الخارج)، في حين قال آخرون أيضاً إن تصرف المواطنين كان عملاً طبيعياً يقوم به الشعب نتيجة الفقر. استمر التحقيق، وما سمعته مباشرة من الشخص (العميد) الذي قام به، هو أن التحريض كان من أجل أغراض سياسية، وأن كلمة معمر في سبها تم استغلالها لهذه الغاية. كان هو شخصياً (عميد الأمن) متضايقاً ومرتبكاً، وقال لي إنه لا يعرف كيف يمكن أن يقول للقائد إن هذا الأمر لم يكن عفوياً. صحيح أن الناس تريد بيوتاً، ولكن هناك من قام بتوجيهها في لحظة معينة، واستغل ظرفاً ليحرّك الشارع بالطريقة التي تحرك بها».
«بروفة فبراير»: القذافي يحتوي أزمة «المساكن الشعبية»... ويفشل في اختبار «الانتفاضة»
العقيد دعا المواطنين إلى «الزحف» على الشقق الجديدة فخرج الشارع عن نطاق السيطرة
«بروفة فبراير»: القذافي يحتوي أزمة «المساكن الشعبية»... ويفشل في اختبار «الانتفاضة»
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة