الحديث حول صادق هدايت بحاجة إلی جرأة، ذلك لأن وصف آثاره وفكره وذكر مسلكه وسیرته يمثلان مغامرة خطيرة ومسؤولية كبيرة تلقي في قلب كل باحث الرعب من الضياع في آلاف العوالم المثيرة للخوف التي يخلقها هدايت نفسه. وحتى المؤلفات الخمسون التي كتبها عنه وعن آثاره المفكرون والكتاب البارزون لا تقدم عن لغز حياته وآثاره سوى حكاية ناقصة، ابتداء من مؤرخ مثل الدكتور محمد علي كاتوزيان الذي حلل حياة هدايت وموته إلى النقاد الأدبيين مثل الدكتور شميسا والدكتور شريعتمداري اللذين عمدا إلی تحليل آثاره، وحسن قائميان الذي أصدر آراء كبار الكتاب الأجانب حول هدايت في كتاب من 300 صفحة، وحتى أعضاء مؤسسة صادق هدايت للجائزة الأدبية، إذ لم يصور كل منهم سوى جانب من هيمنة هدايت الكبيرة على الأدب في إيران.
كان صادق هدايت كاتبا ومترجما ومثقفا إيرانيا بارزا من رواد كتابة القصة الحديثة في إیران. وقد عد كثير من الباحثين رواية «البومة العمياء» أبرز آثار الأدب القصصي المعاصر في إیران. ورغم أن شهرة هدايت تعود إلی الكتابة، فإنه ترجم أيضا آثارا لكتاب كبار مثل جان بول سارتر، فرانتس كافكا وأنطوان تشيخوف، كما أن آثاره هو نفسه ترجمت إلی 25 لغة.
وكان هدايت قد كتب، في سيرة متواضعة ومؤلمة بقلمه قبل ست سنوات من انتحاره في شقته المستأجرة في شارع شامبيونيه بباريس، قائلا: «إني لأشعر بالبهیمية إزاء حديثي عن نفسي بالمقدار نفسه الذي أشعر فيه إزاء الإعلام المتأثر بأمیركا. ترى، ما جدوى أن يعرف أحد تاريخ ولادتي؟ هذه الإيضاحات تذكرني دوما بسوق الماشية حيث يعرض للبيع بغل عجوز وتنقل للمشتري بصوت عال تفاصيل عن خصاله وعيوبه من أجل جذب هذا المشتري، وفضلا عن ذلك فإن الحدیث عن حیاتي لا یضم أي ملاحظة بارزة فلیس هنالك من حدث لافت للنظر قد وقع فیها، كما لم یكن لي أي عنوان، ولا أحمل أي شهادة مهمة، ولم أكن أیضا تلمیذا متمیزا في المدرسة، بل علی العكس من ذلك فقد كنت أواجه الإخفاق دائما. وكنت في الدوائر التي عملت فیها عضوا غامضا ومجهولا دائما، وكان رؤسائي حانقین عليّ، حیث إن استقالاتي كانت تقبل بفرح جنوني كلما قدمتها. وبشكل عام، فإن البیئة التي كنت أعیش فیها كانت تحكم علي بأنني كائن طفیلي عدیم الجدوى، وربما كانت هذه هي الحقیقة».
وتكاد كل آثاره تكون (كما یشهد النص السابق) غير متناغمة مع أفكار عامة الناس، إلا أن حیاة هدایت وآثاره هي في الحقيقة خلاصة أحوال أكثر أفراد المجتمع الإیراني بصیرة في السنوات التي تلت فشل الثورة الدستوریة وعدم تحقق العدالة والحریة، وانتكاسة التحديث مقابل صعود السلفیة. لقد كان هدایت، كما یذكر عابدیني: «من جیل مثقفي عصر رأوا فیه تقلبات الثورة الدستوریة والطموحات غیر الواقعیة للمفكرین المطالبین بالحكم الدستوري، وهو جیل مضطرب ومرتبك الفكر، رأی كابوس الانحطاط والاضمحلال بأم عینه، جیل وجد نفسه علی أعتاب التحول وحافة الأزمة، ومع ذلك كان یعمل علی إحداث تغییر جدید للحیاة».
إن الازدواجیة في قصص هدایت، الذهنیة والواقعیة، هي تجسید لهذا الانفصام الاجتماعي - الفكري. كان لا يطيق «الحیاة المتحجرة المتداولة»، التي تمر كأنها كابوس مرعب»، ولا یمیل إلی «شبه الحداثة الاستبدادیة لرضا شاه». وكان یثیر في قصصه التساؤلات حول القیم المترسخة من خلال السخریة اللاذعة والمدمرة، فاضحا المجتمع الخاضع للديكتاتوریة والخرافات من خلال وصفه النقدي، كاشفا عن تآكله الداخلي، معلنا في الوقت نفسه براءته من الناس الذین «تقبلوا هذه البیئة الوضیعة والمتعصبة».
یشید هدایت في «أغاني الخیام» بالشاعر الذي «لم یتقبل أبدا التقالید البالیة لبیئته، بل إنه یسخر بمنطق كل ترهاتهم». وهو ما یصف بالضبط حال هدایت نفسه، الذي یعد مثل الخیّام من الكتاب الإیرانیین القلائل الذین «رفضوا وكرهوا، حرفوا، حللت شخصیاتهم خطأ، وحققوا شهرة واسعة لكنهم باتوا في النهاية مغمورین ومجهولین».
یذكر حسن میرعابدیني، الكاتب والباحث الأدبي، أنه، خلال السنوات التي كان فیها معظم الكتاب یرون الحقیقة من نافذة بیوت الفاحشة الضیقة أو كانوا یشفقون علی مصیر الأمراء عدیمي الأصل، في قالب القصص الأخلاقیة التاریخیة المفعمة باللواعج والآهات، كان هدایت يوجه سخريته لاذعة علی عامة الجهال وعباد الشهوات، معلنا البراءة منهم، وكأنه یرید الانتقام من هؤلاء البشر السعداء الذین لیس لهم أي مُثُل ولا یتحملون مثل هذا الوضع، دون أن ینطقوا بكلمة».
ویكتب هدایت نفسه في «ثلاث قطرات من الدم»، قائلا: «لا یوجد أي وجه شبه بیننا. فأنا أختلف عنهم اختلاف الأرض عن السماء. إن آهات هؤلاء البشر وصمتهم وشتائمهم وبكاءهم تملأ منامي بالكوابیس دوما».
إن علاقته بعامة الناس متناقضة ومعقدة كعلاقته مع الأرستقراطیین، وكان هو نفسه ينحدر من أسرة متنفذة من سلالة رضا قلي خان، وهو من أشهر الكتاب والشعراء والمؤرخین في القرن التاسع عشر المیلادي في إیران، لكن هدايت اختار أن ينفصل عن عائلته، وعمل موظفا بسطا في إحدى الدوائر. وعرف في تلك الفترة بنزعته التشاؤمية الانطوائية، منصرفا لكتاباته، كما تعلم اللغة الفرنسیة في مدرسة «سان لویس» في إیران. وتعرف من خلال قسیس في المدرسة علی الأدب العالمي. وفي هذه المدرسة نفسها وجد في نفسه رغبة في تعلم الفلسفة المیتافیزیقیة، ثم أصدر بعد ذلك بعض المقالات حول «السحر في إیران»، كما أصبح نباتیا وألف كتابا حول فوائد النباتیة، وبقي نباتیا حتى نهایة عمره. وكان یری أن الإنسان إن أراد أن یكف عن الحرب، فإن علیه أولا أن یكف عن قتل الحیوانات وأكلها.
وفي عام 1926، توجه إلی بلجیكا مع أول مجموعة من الطلاب المتوجهین إلی الخارج للدراسة في فرع الهندسة. ولكنه لم یأخذ الدراسة علی محمل الجد واتجه إلی الكتابة. وفي تلك السنة، نشر قصة «الموت»، في مجلة «إیرانشهر»، التي كانت تصدر في ألمانیا، وكتب مقالة بالفرنسیة باسم «السحر في إیران» في مجلة «لیه فیل دلیس».
وبعد فترة شعر بالملل والسأم من حالة الجو في تلك المدینة وأوضاعه الدراسیة، وأخذ یتحین الفرص للذهاب إلی باریس التي كانت آنذاك مركز الحضارة الغربیة. وأخیرا نقل بعد سنة إلى باریس لمواصلة الدراسة. وفي باریس مر بتجربة عاطفیة فاشلة تركت تأثیرا كبيرا علی آثاره، بحیث أصبح الحب حسب النظرة الفرویدیة یشكل أحد أهم مضامین آثاره.
كتب في وصف الحب في قصة «آفرینكان» (نسك من كتاب «زند» المقدس) قائلا: «الحب مثل أغنیة بعیدة، نغمة خلابة وساحرة یترنم بها الإنسان القبیح والدمیم. وعلینا أن لا نتبعه ولا ننظر إلیه من الأمام، لأن ذلك سوف یقضي علی لذة الترنم به، كما یجب أن لا نتخطى عتبة الحب، ونكتفي بهذا القدر».
وهكذا ازدادت النزعة الباطنیة لدی هدایت شیئا فشیئا، وأخذ هاجس الموت یسیطر علی وجوده. وإثر الكآبة التي أصیب بها، والتي كانت تتعمق یوما بعد آخر، أقدم في عام 1928 علی الانتحار لأول مرة، لكنه نجا من الموت. وقد وصف هذه الحادثة في «مذكرات مجنون». وبعد أن جرب لحظات مواجهة الموت، وظل یعاني منها حتى نهایة عمره، كان یدفع شخصیات أعماله هي أیضا إلى أن تمارس هذه التجربة، كي تشهد علی خواء الحیاة وعبثیتها.
وفي عام 1930، عاد إلی طهران دون أن ینهي دراسته، وجرى توظیفه في المصرف الوطني الإیراني. ولكنه لم یكن یشعر بالرضا من عمله، وكانت رسائله في هذه الفترة مفعمة بالشكوى من الدنیا وحالها، رغم أن عمله في المصرف أدی إلى صداقته المباركة مع حسن قائمیان الذي كرس نفسه بعد وفاة هدایت للتعریف به وبآثاره.
وخلال السنوات التالیة تولى عدة مناصب في المدیریة العامة للتجارة، وزارة الخارجیة، الشركة العامة المساهمة للبناء، مدیریة الموسیقى في البلاد، وجامعة الفنون الجمیلة. رغم أنه لم یبقَ في كل منصب أكثر من عام، وكان یقدم استقالته كل عام مرة تقریبا.
أثناء ذلك، نشر آثاره الواحد تلو الآخر. وتعد السنوات من 1931 إلى 1935 فترة غزیرة بالإنتاج بالنسبة إلى هدایت حين نشر العدید من الآثار البحثیة والقصصیة. وخلال هذه السنوات نفسها أدی كتابه القیم «وغ وغ ساهاب» (لعبة یخرج منها صوت عندما یتم تدویرها)، الذي كتبه منتقدا حالة التردي الثقافي والأدبي في تلك الفترة، إلی استدعائه لمدیریة الأمن في طهران، وبذلك أصبح صادق هدایت من أوائل الذین منعوا من الكتابة في تاریخ الرقابة في إیران.
سافر هدایت عام 1936 إلى الهند بحجة تعلم اللغة البهلویة، وأصدر هناك أكثر آثاره شهرة «البومة العمیاء»، في 50 نسخة.
كتب هدایت في أحد المواضع: «كانت اللغة البهلویة ذریعة. والآن فإن الجمیع أخذ یطبلون لي؛ بأنني قد ذهبت إلی الهند لأدرس البهلویة! كنت أرید الفرار. لقد وقع لي حادث فذهبت إلى الهند وتذرعت بالبهلویة.. كنت قد ذهبت لأطبع (البومة العمیاء)، ولكن لم یتیسر لي ذلك، و(بعد التي واللتیا) تمكنت من استنساخ 50 نسخة.. ثم إنني عندما كنت في طریقي إلى الهند كنت أخشی أن یصادروها مني في الجمارك لأخسر كل شيء».
وقد ترجم في الهند «سیرة أردشیر بابكان» من البهلویة إلی الفارسیة.
ثم عاد إلی إیران، وشكل في عام 1934 مع مجموعة من كتاب إیران الشباب الذین كانوا قد درسوا في أوروبا جمعیة «الربعة» الأدبیة المتجددة، التي كانت قد وقفت موقفا معارضا غیر مباشر إزاء جمعیة «السبعة»، التي كانت تضم الأدباء السلفيين الحكومیین. وقد مارست هذه المجموعة النشاطات الأدبیة والثقافیة ونشرت بعض الآثار بشكل مشترك.
یقول مجتبی مینوي، الأدیب المؤرخ والكاتب الإیراني الشهیر حول هذا العهد: «لقد كنا نحارب بقوة ونسعى من أجل الحصول علی الحریة، وكان صادق هدایت مركز دائرتنا».
وبعد سنوات الأربعینات، وإثر احتلال الحلفاء لإیران وانفتاح الأجواء السیاسیة، تعاون هدایت مع بعض أعضاء حزب توده، ونشر بعض المقالات في صحیفة «مردم» (الشعب)، التي كانت اللسان الناطق لحزب توده، رغم أن أمله خاب في هذا الحزب بعد نهایة الحرب واندلاع مشكلتي أذربیجان وكردستان، فازداد تشاؤمه من الأوضاع أكثر من ذي قبل.
وكانت آخر أعماله «توب مرواري» (مدفع اللؤلؤ) (نصب في ساحة أرك بطهران، كانت النساء غیر المتزوجات یقصدنه لقراءة الحظ)، وقد صدر هذا الكتاب بعد موته، كما ترجم رواية «المسخ» لكافكا التي نشرها في مجلة «سخن». سافر هدایت إلی فرنسا عام 1950، بعد أن بلغ الـ48، وبعد أن حصل علی التأشيرة بفعل تقریر طبي. وانتحر أخيرا بالغاز في التاسع من أبريل (نيسان) 1951. وكان قد أتلف قبل بضعة أيام من انتحاره كثیرا من قصصه غیر المطبوعة.
يذكر محمد علي جمال زاده، الكاتب والمترجم الإیراني الشهیر عنه: «لم یكن صادق هدایت یتقبل كثیرا من قيم الناس، وكانت تساوره في داخله تساؤلات حول الخلق كانت قد افترست روحه، علی حد قوله».
وفي الحقیقة فإن هدایت یمثل مثقف العهد الديكتاتوري الأسود، المثقف الذي حرم من أي وجود اجتماعي مفيد، إنه كما فقد إيمانه بقدرة الكاتب علی التأثیر وبالتالي التغيير. وكان یعلن احتجاجه واعتراضه على مظاهر الفوضى التي كان الجمیع قد اعتادها، ولم تكن شخصيته المنفتحة الفكر لتتحمل الأمية والفقر والجهل السائد، ولذلك فقد اعتزل، معانيا من الضیاع الروحي الكبير.. ثم جاء الانتحار، مثله مثل بعض الوجوه الأدبیة الشهیرة التي أقدمت علی الانتحار في ذلك العهد، كرضا كمال، وشهرزاد جهانكیر جلیلي.
وللأسف، كثیر من آثار هدایت لا يزال محظورا في إیران في الوقت الحالي، كما توقف طبع معظم آثاره المسموح لها بالنشر.
* خدمة «الشرق الأوسط» بالفارسية (شرق بارسي)
صادق هدايت.. شقاء المثقف في زمن الديكتاتورية
العديد من آثاره لا يزال محظورا في إیران
صادق هدايت.. شقاء المثقف في زمن الديكتاتورية
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة