ناشرون مصريون: حجم المبيعات لا يواكب عدد الزوار.. والروايات في المقدمة

جولة في أروقة معرض القاهرة للكتاب في دورته الـ49

جانب من المعرض
جانب من المعرض
TT

ناشرون مصريون: حجم المبيعات لا يواكب عدد الزوار.. والروايات في المقدمة

جانب من المعرض
جانب من المعرض

إقبال كثيف وحركة بيع متوسطة... عناوين جديدة وارتفاع ملحوظ في أسعار الكتب، غياب التنظيم، هذه أبرز سمات الدورة الـ49 من عمر معرض القاهرة الدولي للكتاب الذي انطلق يوم 27 يناير (كانون الثاني) الماضي وتنتهي فعالياته يوم 10 فبراير (شباط) الحالي، تحت شعار «القوة الناعمة... كيف؟»، بينما حلَّت الجزائر ضيف شرف المعرض، وكان الكاتب الراحل عبد الرحمن الشرقاوي شخصية هذه الدورة.
ويشارك في معرض الكتاب هذا العام 27 دولة، متمثلة في 849 ناشراً، من بينهم 10 أجانب، و367 ناشراً عربياً، و481 ناشراً مصرياً بمشاركة 10 مؤسسات صحافية و33 مؤسسة حكومية، وعدد من الناشرين الأفارقة.
«ثقافة» تجولت في أروقة المعرض خلال الأيام الماضية، ولاحظت أنه، ورغم الجهود الكبيرة المبذولة من قبل الهيئة العامة للكتاب ورئيسها د. هيثم الحاج علي، في محاولة تسهيل مهمة الزائرين عن طريق خريطة تفاعلية توضح بدقة عدد وأماكن الأجنحة في المعرض وعددها 1194 جناحاً، و117 كشكاً لسور الأزبكية، ووجود عدد من الشباب المتطوعين لإرشاد الزوار، فإن المساحة الشاسعة للمعرض وتباعُد المسافات بين الأجنحة يرهقان الزائر وعادة ما تخيب آماله في الحصول على مبتغاه من المعرض إلا فيما ندر.
وعلى الرغم من أن المعرض هذا العام يرفع شعار «القوة الناعمة»، فإن الزوار لم يلمسوا قيمة هذا الشعار، لا سيما في بعض دور النشر التي قررت أن تعيد نشر ذخائر وكتب التراث وروايات كبار الأدباء الراحلين لتقدمها للشباب في حلة جديدة، على رأسها دار «الشروق» التي أعادت طبع أعمال عبد الرحمن الشرقاوي ومنها مسرحية «مأساة جميلة»، ورواية «الأرض»، و«الشوارع الخلفية» وعدد من الكتب الفكرية له، إلى جانب أعمال نجيب محفوظ، وتوفيق الحكيم، وزكي نجيب محفوظ. كما أعادت دار «نهضة مصر» نشر عدد من الكتب التراثية ومنها كتاب «الإسلام وأصول الحكم» للشيخ علي عبد الرازق، وكتب مصطفى أمين.
السير الذاتية والمذكرات
مثَّلَت كتب السير الذاتية والمذكرات ظاهرة استثنائية هذا العام حيث برزت عشرات العناوين التي تندرج تحت هذه الفئة، ومنها: «مذكرات عمرو موسى»، و«مذكرات محمد سلماوي»، و«مذكرات عالم الاجتماع سيد عويس»، و«مذكرات الكاتب الفلسطيني سميح مسعود»، و«مذكرات الفنانة شادية»، و«بدون سابق إنذار» لأنيسة حسونة، و«بعثة سيد قطب... الوثائق الرسمية»، و«العندليب والسندريلا.. الحقيقة الغائبة»، و«شفرة» أحمد حلمي، و«حليم.. أيام مع العندليب» لمفيد فوزي. أما الأعمال الكاملة فقد كان لها نصيب أيضاً لا سيما أعمال جمال الغيطاني، وسيد حجاب.
تراجع مشتريات الجامعات المصرية
بالحديث للناشرين المصريين فإنهم يجدون زيادة ملحوظة في جمهور المعرض لا تتناسب مع حجم المبيعات وأيضاً تراجع عدد الزوار العرب والأجانب للمعرض كان ملحوظاً. ظاهرة لافتة أيضاً كشفها الناشر فادي جريس، صاحب دار نشر «الأنجلو المصرية»، لـ«الشرق الأوسط»، بقوله: «هناك تراجع شديد في ميزانية الجامعات المصرية ومشترياتها من الكتب والمراجع العلمية في معرض هذا العام. وهذا ناجم عن تأثير المعارض الجامعية التي تقام داخل الحرم الجامعي على مدار العام، التي تجعل أي دار نشر تتحمل ما يزيد على 10 آلاف جنيها للمشاركة في هذه المعارض الثانوية فضلاً عن تكاليف الإقامة للعمال وغيرها، في حين أن حجم المبيعات يكون ضئيلاً ويؤثر بالسلب على معرض الكتاب وهو ما لمسناه هذا العام بشكل كبير». وأوضح جريس أن كتب علم النفس احتلت صدارة المبيعات في جناح «الأنجلو المصرية»، تلتها كتب الأطفال باللغة الإنجليزية.
فيما انتقدت الناشرة د. فاطمة البودي، صاحبة دار «العين»، غياب التنظيم والشفافية في التعامل مع الناشرين، وقالت لـ«الشرق الأوسط»: «وجدنا هذا العام عشوائية في التنظيم، إذ انتشرت أكشاك غير مرخصة تبيع كتباً مزورة بداخل المعرض تنافس الخيام والأجنحة وتستمر في العرض حتى العاشرة مساء في حين تغلق الأجنحة في الخيام الساعة السابعة. هذه الأكشاك تؤثر بشكل كبير على مبيعات دور النشر المصرية والعربية».
وشهد جناح مكتبة الإسكندرية إقبالاً كبيراً على سلاسل الكتب العلمية التي تتوافر بأسعار زهيدة لطلاب الجامعات والأكاديميين والباحثين منها سلسلة: «مراصد»، و«أوراق ودراسات مستقبلية»، إلى جانب الكتالوجات الفنية والمتحفية، وكتب المخطوطات والفلسفة، وأعداد مجلة «ذاكرة مصر المعاصرة» التي تقدم موادّ ومقالات عن تاريخ مصر خلال القرون الماضية.
الطبعات الشعبية
يقول خالد لطفي، مكتبة تنمية معرض القاهرة: «أهم معرض عربي ويعتبر بالنسبة لنا موسماً مهمّاً لبيع الكتب يعوض ركود العام كله»، ويضيف: «الروايات لا تزال متربعة على عرش المبيعات، خصوصاً الطبعات الخاصة بمصر، التي تطبعها (تنمية)، مع دور النشر العربية في طبعات شعبية مخفضة، ومن أهم الروايات التي تلقى رواجا لدينا هذا العام (ما وراء الشتاء) لإيزابيل الليندي، و(عشر نساء) للكاتبة التشيلية مارثيلا سيرانو، وعربيا تتصدر رواية (حمام الدار) لسعود السنعوسي التي أصدرنا منها طبعة خاصة لمصر، أقل من 30 في المائة من السعر الأصلي لها، مما جعل عليها إقبالاً كبيراً».
الجناح الفلسطيني
في الجناح الفلسطيني تتصدر صورة المناضلة الفلسطينية عهد التميمي صدر الجناح، ويلاحظ الزائر حجم الاهتمام المصري بالجناح والإقبال عليه. الكاتب ناجي الناجي، مدير المركز الثقافي والإعلامي بسفارة فلسطين، أكد لـ«الشرق الأوسط» أن معرض القاهرة للكتاب صار ملتقى للأدباء والمثقفين الفلسطينيين، حيث توجد حالة تلاحم أدبي وثقافي وفكري مصري فلسطيني. وفي كل عام يتكرس الوجود الثقافي الفلسطيني بمشاركات أدباء وشعراء سواء من فلسطين أو من أرض المهجر. هذا العام شارك زياد خداش وربعي المدهون، وفاتن الغرة، وغياث المدهون، ومهيب البرغوثي، ورغم عدم تمكن مي حجي من الوصول للقاهرة عبر معبر رفح، فإن أصدقاءها أقاموا لها حفلَ توقيع، ووقَّعوا عنها.
جناحا الأزهر والسعودية
كان جناح مؤسسة الأزهر من أكبر أجنحة المعرض هذا العام، حيث ضمَّ إصدارات مجمع البحوث الإسلامية ومجلس حكماء المسلمين ومرصد الأزهر العالمي. وشهد الجناح إقبالاً كبيراً من مختلف الجنسيات من زوار المعرض، خصوصاً لوجود «ركن الفتوى». ورفع جناح الأزهر شعار «2018 عام القدس»، وقدَّم لزوراه مطبوعات وأسطوانات مدمجة تُعرف بتاريخ زهرة المدائن، وزودهم بنشرات عن مؤتمر الأزهر العالمي لنصرة القدس الذي عُقِد أخيراً.
أما جناح المملكة العربية السعودية فكان أكبر أجنحة الدول المشاركة بالمعرض، وقدم فعاليات وأنشطة اجتذبت زوار المعرض، وإصدارات قيمة من 42 دار نشر ومؤسسة حكومية.
سور الأزبكية الأكثر إقبالاً
واجتذبت مكتبات سور الأزبكية جمهور المعرض من مختلف الفئات العمرية والمستويات الاجتماعية، نظراً لأسعارها الزهيدة التي لا تُقارَن بالارتفاع الجنوني في أسعار الكتب والمراجع والمجلدات. أما أرفف جناح الهيئة العامة للكتاب ومكتبة الأسرة والمركز القومي للترجمة فقد كانت تُفرغ فور رص الكتب عليها بسبب انخفاض أسعارها الكبير حيث يمكن الحصول على كتب بأقل من 10 جنيهات، رغم من قيمتها الفكرية الكبيرة. ووفقاً لمحيى الدين عبد المنعم، المسؤول عن جناح مكتبة الأسرة بالهيئة العامة المصرية للكتاب، أكد أن المبيعات كانت تتخطى في اليوم الواحد حاجز 150 ألف جنيه، وأن الإقبال كان ملحوظاً على الكتب الفكرية والعلمية والأدبية والفكرية.
وفيما بدت أجنحة الناشرين العرب في سرايا ألمانيا «أ» و«ب» شبة خاوية من الزوار لارتفاع أسعار الكتب والشحن، فإن علي القائم على جناح دار الآداب اللبنانية، أشار إلى أن المبيعات متوسطة وهي تتواكب مع غلاء الأسعار في مصر والدول العربية أيضا، إذ إن ارتفاع الأسعار بات ملحوظا في كل الدول. من جانبه، أكد الناشر محمد رشاد، رئيس اتحاد الناشرين العرب، أنه لم يتلق شكاوى من الناشرين العرب، مشيراً إلى أن حجم المبيعات أفضل من العام الماضي. ولفت إلى أن الروايات لا تزال تحتل الصدارة.


مقالات ذات صلة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

ثقافة وفنون أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أطلّت الكاتبة التشيلية الأشهر إيزابيل الليندي، عبر منصة «مايسترو»، في «هيئة الإذاعة البريطانية»، من صالونها الهادئ الذي يضم تفاصيلها الشخصية والحميمية

سحر عبد الله
يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
TT

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة من خلال حديث مطول أدلى به لمحرر المذكرات ومؤلف الكتاب الصحافي سيد محمود سلام. ورغم أن حديث الذكريات هنا يشمل محطات مختلفة، فإن الكتاب يركز بشكل خاص على مرحلة النشأة والطفولة وما اكتنفها من اكتشاف الفنان في سنوات التكوين الأولى لعالم الأدب وخصوصية مدينته بورسعيد، مسقط رأسه.

ويشير محمود ياسين إلى أن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر، وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها. ويرى أنه كان طفلاً محظوظاً لأنه نشأ في أسرة تعد الثقافة جزءاً مهماً من تكوين أبنائها، وكان ترتيبه السادس بين أشقائه العشرة، وقد تأثر في طفولته بشقيقه الأكبر فاروق: «إذ فتح عيني على شيء اسمه الكتاب بمعناه الواسع. كان يتسلم الكتب ويذهب إلى المدرسة، لكن فاروق كانت له في البيت مكتبة خاصة عبارة عن خزانة كبيرة في الحائط صُممت على الطراز الفرنسي تضع فيها الوالدة الفخار وقطع الخزف الصيني وكؤوس الزجاج وأشياءها الخاصة، فصنع منها مكتبة بعرض الحائط بعد أن أقنعها بذلك حيث كانوا يقطنون في فيلا من دورين تابعة لشركة قناة السويس التي كان يعمل بها والده، وعاشوا فيها ما يزيد على 25 عاماً».

ظل فاروق يشتري الكتب باستمرار مثل سلسلة «اقرأ» التي كانت تصدر ملخصات لعيون الأدب العربي والعالمي والسير الذاتية مثل السيرة الذاتية لطه حسين ودوستويفسكي ومكسيم غوركي وأنطون تشيخوف، فضلاً عن عيون الأدب الفرنسي مثل مؤلفات غي دي موباسان. كانت السلسلة تصدر كتيبات لكل كتّاب ومفكّري العالم، فالتراث الإنساني كله أنتجته سلسلة «اقرأ»، وقد جمعه فاروق في مكتبته وأيضاً سلسلة أخرى بعنوان «كتابي» جمعها أيضاً في المكتبة.

قرأ محمود ياسين في صغره معظم دواوين الشعراء العرب وعبقريات العقاد في مكتبة شقيقه، فضلاً عن كتب سلسلة «الكتاب الذهبي» التي تعرّف فيها على محمد عبد الحليم عبد الله ونجيب محفوظ ويوسف إدريس ويوسف السباعي. كما كان الشقيق الأكبر فاروق شغوفاً باقتناء الكتب والمطبوعات الثقافية مثل مجلة «الهلال» حتى إنه يشتري الكتب بمصروفه الشخصي المحدود. ولم يكن الطفل محمود يشغل نفسه بشراء الكتب، لكن يده بدأت تمتد إلى مكتبة شقيقه، فغضب بشدة من استعارته كتبه؛ وذلك خوفاً من ألا تلقى الاحترام ذاته الذي تلقاه عنده تلك المكتبة التي كوّنها واشتراها من مصروفه. لكن عندما اطمأن لشقيقه، بدأ يشجعه مع بعض النصائح خوفاً على هذه الكتب. وبدأ الشقيق الأصغر في متابعة المسرحيات المترجمة بشكل خاص، لا سيما أعمال وليام شكسبير وهو ما أثار دهشة وإعجاب فاروق حين رأى شقيقه لا يفوّت نصاً للكاتب العالمي، سواء في سلسلة «كتابي» أو نظيرتها «اقرأ».

ويشير محمود ياسين إلى أن أبناء بورسعيد يتشابهون في ملامحهم وتكوينهم؛ لأن هذه المدينة تترك بصماتها على أبنائها، فهي بلد مفتوح على الدنيا ويُطل على أوروبا، فهناك شاطئ بحر وفي الأفق عالم آخر يجب أن تحلم به. إنها مدينة وسط جزر من المياه، فتأثر بهذه الخصوصية الجغرافية وما أكسبته لسكانها من حس حضاري لافت.

يقول محمود ياسين في مذكراته إن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها.

امتزجت شخصية محمود ياسين بالبحر المتوسط الذي تطل عليه مدينته، فهو مثله تراه شديد الهدوء تارة، شديد الصخب تارة أخرى. يقول: «إن أخلاقي كأخلاق البحر وطبيعتي تشبهه، فأنا في شهري سبتمبر وأكتوبر أكون هادئاً هدوءاً غريباً وعندما تنظر إليّ تشاهد ما في أعماقي، وإذا تحدثت إليّ يمكنك أن تكتشف كل شيء. أما الشخص الصاخب العصبي فهو أيضاً أنا ولكن في شهر يناير، وكذلك البحر بـ(نواته) وأمواجه المتلاطمة. لا أحب شهر يناير، قد يكون لأنه بداية عام لا أعلم ما يخبئه، وحين راقبت نفسي وجدت أنني في مواسم أكون هادئاً وأخرى أكون صاخباً وهذا هو حال البحر».

كانت حياة الصبي محمود ياسين قبل التمثيل غير مستقرة، كأنه يبحث عن شيء يسعده. كان يراقب شقيقه فاروق، الممثل العظيم بقصور الثقافة، وتعلم منه كيف يحب الريحاني. يشاهده فيشعر بأنه يمتلك عالم التمثيل بين عينيه، نظراته، تأمله، صوته حتى وهو يغني بصوتٍ أجش تستسيغ غناءه من هذه الحالة التي لاحظها وتأثر بها. أحبَّ التمثيل وشعر بأنه الشيء الذي يبحث عنه، إنه عالمه المفقود، به ستكتمل حياته.

اللافت أن التمثيل منذ البدايات الأولى بالنسبة لمحمود ياسين «حالة»، إنه بمثابة «عفريت» يتجسد في الشخص المحب له، فكان يسعد بالمشاهد التي يمثلها في نادٍ يسمى «نادي المريخ» ببورسعيد وهو طفل. وكوّن هو وزملاؤه فرقة مسرحية، مع عباس أحمد الذي عُرف بأشهر مخرجي الثقافة الجماهيرية، وله باع طويل وأثر في حياته كصديق ورفيق رحلة كفاح، هو والسيد طليب، وكانا أقرب صديقين له، سواء على مستوى هواية التمثيل أو الحياة.

ويروي كيف كان يقدم مسرحية على خشبة مسرح صنعوه بأنفسهم من مناضد وكراسي متراصة، وفي قاعة تسع 100 شخص، فلمح والده، وكانت المرة الأولى التي يمثل فيها ويشاهده أبوه، وإذا به يبتسم له ابتسامة هادئة، اعتبرها أول تصريح رسمي منه بموافقته على دخوله هذا المجال. ويذكر أيضاً أن من بين العمال الذين تأثر بهم محمود عزمي، مهندس الديكور العبقري، الذي لم يحصل على أي شهادات دراسية ولم يلتحق بالتعليم، لكنه كان يهوى الرسم ويصمّم ديكورات أي نصوص سواء عربية أو عالمية ببراعة مدهشة.