بعد الممثلة الأميركية شارون ستون، التي جرى تكريمها في ليلة افتتاح المهرجان الدولي للفيلم بمراكش، جاء الدور، في الليلة الثانية، من أيام المهرجان على النجمة الفرنسية جولييت بينوش، لكي تتسلم نجمة التكريم من يد المخرج الفرنسي برينو ديمون.
ولم تخف بينوش سعادتها بالتكريم على أرض المغرب، الذي قالت عنه إن تربته تحتضن بعضا من جذورها العائلية، إذ إن والدها ولد وترعرع في تيزنيت وأغادير ودرس بمراكش وتعلم اللغة العربية، قبل أن يتكلم الفرنسية، وإن جدها، الذي كان ممثلا هاويا، دفن في المغرب، أيضا.
أما المخرج ديمون، الذي سلمها كأس التكريم، فلم يخف إعجابه الشديد بالممثلة التي تعامل معها في فيلم «كامي كلوديل» (2013)، معدا «وجهها الأجمل، لأنه الأكثر إنسانية والأكثر تعبيرا عن الأحاسيس جميعها»، ملاحظا أنها «تشتغل في السينما بلطف وحيوية ومرونة ومرح»، وأضاف أنها «تمتلك ذلك الألق الذي يبرز في مختلف تصرفاتها، وفي طريقة تشخيصها لأدوارها، وفي حياتها».
وجرى بمناسبة حفل تكريم بينوش، عرض فيلم «ألف مرة ليلة سعيدة» (2013)، للمخرج الدنماركي إريك بوبي، الذي صور بورزازات في المغرب، حيث أدت فيه دور مصورة حرب تعود إلى بيتها بعد إصابتها بجروح بالغة في تفجير انتحاري، لذلك لم يقبل لا زوجها ولا بناتها بفكرة أن تفقد حياتها وهي في مهمة عمل، ليطلبوا منها أن تختار بين عملها وحياتها الأسرية.
وتعد بينوش من أبرز ممثلات فرنسا، وأشهرهن في عالم السينما العالمية، وهي التي يحسب لها أنها «استطاعت أن تحافظ على الدوام على نفس الدقة في اختيار شخصياتها، لترسم، تدريجيا، تلك الصورة المتفردة، وأن تفرض ضرورة أخذها في الاعتبار، ليس، فقط، كرمز، ولكن كمقترح يقدم لجمهورها، مقترح للانفتاح، والسير في اتجاه يعاكس الأفكار المسبقة التقليدية، لتعيش حقيقتها».
ولدت بينوش في وسط عائلي فني، فوالدها كان نحاتا، ووالدتها كانت ممثلة ومدرسة آداب، تلقت على يدها الصغيرة جولييت أول دروس التمثيل، ومنها نهلت حبا خالصا لفن المسرح، وتذوقا لفن الأداء، فنتج عن ذلك أن قررت منذ صغر سنها ترك مسقط رأسها في إقليم لواروشير والتوجه إلى العاصمة باريس لتجرب حظها. وهناك التحقت في سن السابعة عشرة بالمعهد الموسيقي، وتابعت دروس «فيرا كريك»، لتبدأ بتجسيد أدوار بطلات مسرحيات «تشيخوف» و«بيرانديلو» على خشبة المسرح، قبل أن تنتقل سريعا إلى عالم الفن السابع.
وكان أول ظهور لبينوش على الشاشة الكبرى سنة 1983 في فيلم «ليبرتي بيل»، لتتبع ذلك بمجموعة من الأدوار الثانوية مع مخرجين كبار، أمثال جون لوك كودار في «أحييك يا مريم» (1984)، وجاك دوايون في «حياة عائلة» (1985)، وأندريه طيشيني في «الموعد» (1984). وفي سنة 1986، حصلت على جائزة «رومي شنايدر» لتصبح الأمل الواعد للسينما الفرنسية. وفي السنة نفسها، وعن عمر لا يتجاوز الثالثة والعشرين، غادرت فرنسا لتشد إليها اهتمام المهنيين من جميع أنحاء العالم، حين وقفت أمام دانيال داي لويس في فيلم «خفة الكائن التي لا تحتمل» (1987)، حيث أدهش أداؤها ناقدا أميركيا من مجلة «شيكاغو سان تايمز»، فكتب عنها قائلا: «رائعة وخفيفة في جمالها وبراءتها»، نفس البراءة التي «تجعلها حقيقية على الشاشة، حقيقة عميقة، حقيقتها هي، التي تلامس حقيقتنا نحن. إن الصورة التي ترسمها بينوش عن نفسها من عمل لآخر، لا تتوقف عن الاستمرار في التطور من دون أن تفقد نقاوتها المضيئة. صورة منسجمة متجددة على الدوام، فكل دور تجسده وكل شخصية تلبس ثوبها هي بمثابة امتداد لنفسها، جولييت دائمة السعي نحو المثالية، مثالية الحياة، مثالية الممثلة»، كما كتب عنها السينمائي الفرنسي كريستوفر ديفوار.
ستكتشف بينوش سينما المؤلف مع ليوس كراكس الذي منحها الدور الرئيس في اثنين من أعماله، هما «دم فاسد» (1986)، ثم «عشاق الجسر» (1991)، لتقرر، بعد ذلك، تغيير أدائها، في فيلم «الفاتنة» (1992) للويس مال، و«مرتفعات هيرلفون» (1992) لبيتر كوسمينسكي. وبعد ذلك بسنة، ستلعب دور البطولة في «ثلاثة ألوان» لكريستوف كييسلوفسكي. وقد كان هذا التحول الكبير في مسارها الفني مصدر نجاح باهر، حيث نالت جائزة التمثيل في مهرجان البندقية، وجائزة سيزار أحسن ممثلة، لتشارك بعدها في بطولة أحد أضخم الإنتاجات وأنجح الأفلام في تاريخ السينما الفرنسية «فارس على السطح» (1996). وفي عام 1997، ستدخل تاريخ السينما العالمية من أوسع الأبواب، بعد أن نالت جائزة الدب الفضي بمهرجان برلين، ثم أوسكار أحسن دور ثانوي عن تجسيدها لدور الممرضة «آنا»، في فيلم «المريض الإنجليزي» (1996) لأنطونيو مينغيلا، لتصبح، عند سن السابعة والثلاثين، ثاني ممثلة فرنسية تحظى بهذا الشرف بعد سيمون سينيوري. «أنا جد مندهشة، إنه حلم يتحقق، من المؤكد أنه حلم فرنسي!».. هكذا عبرت عن شعورها وهي في غاية التأثر خلال حفل تسليم جوائز الأوسكار.
أبانت بينوش عن موهبة عالية أخذتها إلى العالمية، وأصبحت بفضلها قادرة على تشخيص كل الأدوار من كل صنف؛ فبرعت بأدائها في الأفلام التاريخية التي تعد الأقرب إلى قلبها، مثل «أطفال القرن» (1991)، و«أرملة سان بيير» (2000)، و«الشوكولاته» (2001)، الذي ترشحت من خلاله لنيل أوسكار أحسن ممثلة، وكذا في الفيلم الكوميدي «فارق التوقيت» (2002) لدانييل طومسون. كما واصلت تفضيلها لأفلام سينما المؤلف؛ كما في فيلم «أليس ومارتن» (1998) لأندري طيشيني، و«رمز غير معروف» (2000)، و«مخفي» (2005) لمايكل هانيكي، و«ماري» (2005) لأبيل فيرارا، و«كامي كلوديل» (2013) لبرينو ديمون.
ودفع بها شغفها الكبير ورغبتها في اكتشاف عوالم جديدة لاختيار أفلام جريئة تعالج مواضيع سياسية، كالتمييز العنصري في فيلم «في بلدي» (2003)، ومحنة اللاجئين في فيلم «كسر الحواجز» (2006)، والصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، في فيلم «الانفصال» (2007). كما واصلت مشاركتها في أفلام لكبار السينمائيين العالميين، ومن ذلك «رحلة البالون الأحمر» (2006) لهو هسياو هسيان، و«شيرين» (2008) لعباس كياروستامي، وكذا «نسخة مطابقة للأصل» (2008)، لنفس المخرج، منحت عنه جائزة أحسن دور نسائي في مهرجان «كان» السينمائي. وبعد فيلم «حياة أخرى لامرأة» (2011) لسيلفي تيستود، و«هن» (2012) لمالكورزاتا شوموسكا، ستعود بفيلم «كوسموبوليس» لديفيد كرونينبرك، للمشاركة في المسابقة الرسمية لمهرجان «كان» السينمائي في نفس العام.
ولا تقف موهبة بينوش عند حدود فن التمثيل، بل يمتد عشقها وممارستها لفنون أخرى كالرسم والرقص، فقد قامت عام 2008 بجولة عالمية للرقص العصري برفقة أكرم خان، مصمم الرقصات الإنجليزي من أصل بنغالي. «جولييت البهيجة».. هكذا وصفها سيرج توبيانا، بمناسبة التكريم الذي خصتها به الخزانة السينمائية الفرنسية (2008).
لا يعد تكريم بينوش، في مهرجان مراكش، تتويجا لمسار انتهى، إذ يبقى للنجمة الفرنسية الكثير لتعيشه، والكثير لكي تجسده وتقدمه، وهي «ستقوم بذلك بطريقتها الخاصة، كما هو الحال دائما، بعيون مفتوحة على مصراعيها»، حسب رأي السينمائي الفرنسي، كريستوفر ديفوار.
تكريم النجمة الفرنسية جولييت بينوش في مهرجان الفيلم بمراكش
والدها مغربي المولد.. تعلم العربية قبل أن يتكلم الفرنسية
تكريم النجمة الفرنسية جولييت بينوش في مهرجان الفيلم بمراكش
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة