بحلول منتصف نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، اكتملت حلقة العشرين عاماً من السجن الغيابي التي أصدرها القضاء العراقي بحق رئيس هيئة النزاهة السابق القاضي رحيم العكيلي، في سابقة هي الأولى من نوعها في مجال قضايا «النشر والإعلام»، أو على الأقل في مسار القضاء العراقي منذ عام 2003.
خلافا للقضاء المصري الذي أصدر، بوقت مبكر من القرن الماضي أحكاماً قاسية على كتاب أدلوا بآراء مختلفة تتعلق بقضايا الدين والعقيدة ومنهم الكاتب علي عبد الرازق مطلع القرن الماضي، ولاحقا الكاتب نصر حامد أبو زيد، لم يصدر عن القضاء العراقي في تاريخه المعاصر، إلا باستثناءات نادرة وبأحكام مخففة جداً، حكما حول قضية تتعلق بالنشر والرأي. لكن تلك الأحكام طالت في السنوات الأخيرة القاضي العكيلي على خلفية قضايا رأي «ارتكبها» من خلال توجيهه انتقادات علنية لمسار القضاء العراقي عبر وسائل إعلام محلية، الأمر الذي دعا جهات قضائية إلى رفع سبع دعاوى قضائية ضده متهمة إياه بـ«إهانة السلطات»، تارة وبـ«القذف والتشهير» تارة أخرى.
المفارقة أن جرائم «الإهانة» توصيف اخترعه القاضي العكيلي نفسه عام 2014، كما يقول، في بحث كتبه بناءً على تكليف من «معهد صحافة الحرب والسلام»، وأراد به إطلاق تسمية مناسبة لما يعتبره «أخطر النصوص العقابية التي استعملت بعد عام 2004 لملاحقة المعبرين عن آرائهم وأصحاب الرأي والفكر ومنتقدي الأداء الرسمي».
أما المفارقة الأخرى، فكانت هي أن محكمة النشر والإعلام لم تحكم على أغلب من رفعت ضدهم قضايا نشر من الكتاب والصحافيين، إلا بحدود ضيقة جداً تمت تسويتها لاحقاً بغرامات مالية أو كفالة شخصية، ولعل القاضي العكيلي، وهو ابن المؤسسة القضائية الأبرز، الوحيد الذي تعرض لهذا الكم من سنوات الحكم بالسجن على خلفية قضايا النشر والإعلام.
فقبل أيام تسلّم العكيلي حكماً بالسجن سبع سنوات صدر بحقه عن محكمة الجنايات المركزية في شهر نوفمبر الماضي، بناء على شكوى تقدم بها مجلس القضاء الأعلى ضده وفق المادة 226 (تقضي بالسجن لمدة تصل إلى سبع سنوات كل من أهان مجلس النواب أو الحكومة أو القوات المسلحة أو أحد السلطات أو دائرة من دوائر الدولة) وهي مادة موجودة في قانون العقوبات العراقي الموروث من نظام حكم الرئيس الراحل صدام حسين، نتيجة مقال رأي نشره العكيلي في صحيفة «المدى» البغدادية في نوفمبر 2014، تحت عنوان «تراجع الثقة بالقضاء»، وهذا الحكم هو السابع من نوعه في سلسلة أحكام قضائية صدرت بحقه على خلفية قضايا رأي، والملاحظ أن الحكم السابع، وخلافا لبقية الأحكام الستة، هو الوحيد الذي صدر عن محكمة «الجنايات المركزية» وليس عن محكمة «جنح النشر والإعلام». ويعود ذلك إلى إلغاء رئيس مجلس القضاء الحالي القاضي فائق زيدان مؤخرا، محكمة «قضايا النشر والإعلام»، بعد أن قام رئيس مجلس القضاء الأعلى السابق مدحت المحمود بتشكيلها عام 2010، استناداً إلى مصادر قضائية. وتقول تلك المصادر لـ«الشرق الأوسط» إن هذه المحكمة «لم تستند إلى أساس قانوني صحيح حين تم تأسيسها، وتعرضت لانتقادات منظمات حقوقية دولية، فلا معنى لمحكمة تحاسب على الرأي في بلد يفترض أن نظامه ديمقراطي، الأمر الذي دعا إلى إلغائها».
وصدر الحكم الأول على القاضي العكيلي عن محكمة جنح النشر والإعلام بالحبس سنة واحدة وفق المادة 229 من قانون العقوبات مطلع شهر ديسمبر (كانون الأول) 2014 بعد شكوى تقدم بها مجلس القضاء الأعلى عن مقال بعنوان «شرعية قرار البرلمان من تفسير حسن السلوك ومحاولات الالتفاف عليه» ونشر في جريدة «المدى».
وصدر الحكم الثاني عن المحكمة نفسها عام 2015 وقضى بحبس القاضي سنة واحدة إثر شكوى تقدم بها رئيس مجلس القضاء الأعلى الحالي القاضي فائق زيدان بسبب لقاء في «استوديو التاسعة» في قناة «البغدادية».
وفي شهر مارس (آذار) عام 2016، أصدرت محكمة جنح النشر والإعلام حكماً بالحبس لمدة سنتين بناءً على شكوى تقدم بها مجلس القضاء الأعلى بسبب نداء وجهه العكيلي لـ«إصلاح القضاء» نشره موقع «العدل نيوز» الإلكتروني.
وأصدرت المحكمة نفسها في أغسطس (آب) 2016، حكماً آخر بالسجن سنتين على العكيلي بناءً على شكوى تقدم بها رئيس هيئة النزاهة السابق علاء جواد حميد وفق المادة 434 من قانون العقوبات العراقي المتعلقة بحالات «القذف والسب». والحكم صدر على خلفية لقاء تلفزيوني أجرته معه قناة «الحرة - عراق» الأميركية.
وإلى جانب حكم آخر بالسجن لمدة سنة واحدة قضت به المحكمة نفسها على خلفية منشور صحافي، أصدرت محكمة جنايات الرصافة في أكتوبر (تشرين الأول) عام 2016، حكماً بالسجن 6 سنوات على القاضي العكيلي وفق المادة 226 من قانون العقوبات العراقي على خلفية شكوى تقدم بها مجلس القضاء الأعلى بعد لقاء في استوديو التاسعة» في قناة البغدادية أيضا عام 2014، وبذلك يكون العكيلي قد نال 20 سنة سجن على قضايا تتعلق بالرأي ولا صلة لها بالفساد المالي أو الوظيفي.
وكان القاضي رحيم العكيلي شغل منصب رئيس هيئة النزاهة في العراق من شهر يناير (كانون الثاني) عام 2008، واستقال من منصبه في سبتمبر (أيلول) عام 2011، بعد ضغوط تعرض لها من شخصيات سياسية نافذة.
ويعتقد العكيلي أن السبب الذي يكمن وراء الأحكام «المتعددة وغير المسبوقة» الصادرة بحقه «متعمدة»، ويقول لـ«الشرق الأوسط»: «هناك جهات نافذة تسعى إلى إقصائي من المجال العام في العراق». ويأسف العكيلي من العمل بقوانين النشر والإعلام المورثة من النظام السابق رغم إلغائها من قبل الحاكم المدني الأميركي بول بريمر عام 2004.
ويلف إلى أن «المفارقة غير السعيدة طبعا، هو أنني حطمت الرقم القياسي العالمي بالنسبة للمحكومين عن جرائم (أهان)». يشار إلى أن القاضي العكيلي استفاد من قانون العفو العام الذي صدر عن البرلمان العراقي في شهر أغسطس 2016، وتمكن من تسوية 12 قضية أخرى متهم بها، بضمنها 3 قضايا نشر شملها قانون العفو، لكن العفو لم يشمل قضايا الرأي السبعة التي كلفته 20 عاماً من السجن، لأنه يشترط تنازل الجهات المقيمة للدعوة، وهو الأمر الذي لم تفعله حتى الآن.
يجدر بالذكر أن القاضي العكيلي يعيش الآن خارج البلاد بانتظار إكمال الإجراءات المتعلقة بهجرته إلى إحدى الدول الغربية، فرارا من بلاد «تعسفت بحقه وحرمته وأطفاله من دون وجه حق، من مرتبهم التقاعدي» كما يقول.
وكانت الاحتجاجات الشعبية التي انطلقت في العراق صيف عام 2016، واستمرت أكثر من عام طالبت مراراً بإصلاح المنظومة القضائية العراقية وإقالة رؤوسها الكبيرة.
جرائم «الإهانة» الإعلامية... توصيف اخترعه قاضٍ عراقي وانقلب عليه
كلفته 20 عاماً من السجن
جرائم «الإهانة» الإعلامية... توصيف اخترعه قاضٍ عراقي وانقلب عليه
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة