البابا في ميانمار... الطريق لمواجهة العنف والأصولية البوذية

أذاقت مسلمي الروهينغا العذاب في الأعوام الماضية

بابا الفاتيكان يزور منزل الأم تيريزا خلال زيارته إلى بنغلاديش في محطته الثانية والأخيرة للقاء لاجئي الروهينغا الذبن فرّوا من ميانمار بداية الشهر الحالي (إ.ب.أ)
بابا الفاتيكان يزور منزل الأم تيريزا خلال زيارته إلى بنغلاديش في محطته الثانية والأخيرة للقاء لاجئي الروهينغا الذبن فرّوا من ميانمار بداية الشهر الحالي (إ.ب.أ)
TT

البابا في ميانمار... الطريق لمواجهة العنف والأصولية البوذية

بابا الفاتيكان يزور منزل الأم تيريزا خلال زيارته إلى بنغلاديش في محطته الثانية والأخيرة للقاء لاجئي الروهينغا الذبن فرّوا من ميانمار بداية الشهر الحالي (إ.ب.أ)
بابا الفاتيكان يزور منزل الأم تيريزا خلال زيارته إلى بنغلاديش في محطته الثانية والأخيرة للقاء لاجئي الروهينغا الذبن فرّوا من ميانمار بداية الشهر الحالي (إ.ب.أ)

ذات يوم تندر الزعيم الشيوعي جوزيف ستالين على البابا بيوس الثاني عشر، بابا الفاتيكان، بالتساؤل «كم فرقة عسكرية يمتلك البابا؟»، لم يكن أحد يدري بأن هذه السلطة الروحية سيكون لها بعد بضعة عقود من النفوذ ما يمكّنها من مواجهة النفوذ الشيوعي في أوروبا الشرقية.
لنتذكر ما الذي يدعونا إلى هذه الأحداث؟ بلا شك الزيارة الأخيرة التي قام بها بابا الفاتيكان فرنسيس إلى دولة ميانمار بورما، وجعل هدفه مقاومة الشر القائم هناك، والمتمثل في الأصولية البوذية، تلك التي أذاقت مسلمي الروهينغا العذاب الكبير والكثير في الأعوام الماضية.
لم يكن للبابا أن يصطحب معه الجيوش ليغيّر من الأوضاع على الأرض، لكن إعلاء الحقيقة، كان رائده في رحلته، رغم القيود العريضة، والفخاخ التي نصبتها له قوى التطرف قبل الذهاب إلى هناك.
يعنّ لنا أن نذكّر القارئ بأوضاع المعذبين في الأرض من مسلمي الروهينغا، فقد سحبت السلطات الحكومية منهم الجنسية قبل أن تسعى إلى تهجيرهم ليلاقوا مصيرهم المحتوم، حرقاً أو غرقاً، لا يهم، فجُلّ اهتمامات الحكومة هناك إخلاء إقليم «راخين» منهم، وفرض الحكم البوذي فيها، وهي في ذلك تستخدم كل ألوان الكذب والتضليل على الرأي العام العالي.
ولعل القارئ المحقق والمدقق للمشهد هناك موقن بأن ما يجري في بورما هو عملية إبادة جماعية دون أي تهويل، بل مجزرة وتطهير عرقي؛ فالقوات المسلحة هناك المدعومة من الميليشيات البوذية المغرقة في تطرفها ترتكب أبشع أنواع الظلم والاضطهاد ضد المسلمين الروهينغا؛ ولهذا لم يعد صادماً أو مثيراً قيام القوات البورمية، على تعدد أنواعها واختلاف أشكالها، بالقتل بشكل عمومي ومن ثم إحراق القرى واحدة تلو الأخرى، واغتصاب النساء وتهجير قسري لسكان المدن.
بحسب المراقبين، تتمثل الفكرة الوحيدة في تعزيز نفوذ الأصوليين البوذيين الذين يؤمنون بفكرة النقاء العرقي، وعليه فإنه لا هم لهم ولا هدف ينشدونه سوى تهجير مسلمي أراكان، وجعل المنطقة خالية من أتباع الإسلام، لتضحى فضاءً مباحاً ومتاحاً للبوذيين، وقد وصل عدد الضحايا، بحسب بعض التقارير، إلى 14 ألف قتيل وجريح، وربع مليون مهجّر، منذ بداية الأزمة.
موقف الفاتيكان
الشاهد، أن صوت البابا فرنسيس، الأرجنتيني الجنسية، ارتفع مرات كثيرة أمام التوحش البوذي هناك، وندد في فبراير (شباط) الماضي بما يجري هناك بالقول: «إنهم يتعرضون للقتل والتعذيب؛ لأنهم يريدون ممارسة ثقافتهم ومعتقداتهم الإسلامية».
وفي مواجهة الاضطهاد الممنهج والإبادة الجماعية التي يتعرض لها مسلمو الروهينغا، ارتفع صوت البابا فرنسيس مرة أخرى في 27 أغسطس (آب) الماضي، معلناً تضامنه معهم، ومطالباً باحترام حقوقهم، واصفاً إياهم بأنهم «إخوة لنا، يتعرضون لأذى والاضطهاد بسبب إيمانهم وعقدتهم».
هل كان فرنسيس مرحباً به هناك؟
الواقع أنه وفيما كان البابا في الطريق إلى بورما كانت رحى الأصولية البوذية تعمل بجد ونشاط على تعكير صفو رحلته، وإبداء استعدادهم لتهديد البابا شخصاً إذا تلفظ بـ«كلمة روهينغا».
القومية والشوفينية القاتلة هي آفة العصر؛ ولهذا رأينا رهبان بوذيين قوميين في ميانمار يستنكرون زيارة البابا للبلاد ودعوة الحكومة له، فقد أصدر «الاتحاد الوطني لرهبان ميانمار» بياناً وصف فيه الزيارة بأنها «قمع» لميانمار البوذية؛ كون البابا قد تحدث في السابق صراحة عن أزمة الروهينغا.
أما الراهب البوذي المتطرف يوثاو باركا، المتحدث باسم المنظمة البوذية «ما باثا»، فقد وجّه تهديداته إلى البابا قائلاً: «سيلقى البابا فرنسيس جميع مظاهر الترحيب المنوط بها لاستقباله، لكن حال إعرابه عن دعمه أقلية الروهينغا سيفتح على نفسه موجة من الانتقادات لن يقوى على التصدي لها».
ورغم أن البابا فرنسيس رفض طوال العام الماضي الإذعان لهذه الضغوط، واستخدم مراراً وتكراراً لفظة «روهينغا»، واصفاً أبناء هذه الطائفة التي تتعرض للاضطهاد بأنهم «إخوة وأخوات لنا»، فإنه امتنع بالفعل في زيارته الأيام الأخيرة عن الإشارة بالتصريح إلى تلك الجماعة المسلمة المضطهدة، وإن كانت أحاديثه قد امتلأت بالإشارات الضمنية وغير المباشرة لهم.
أحاديث خلف الكواليس
على أنه إذا لم يكن البابا قد تحدث علانية عن «الروهينغا» بالاسم، فهذا لا يعني أنه لم يتطرق إلى المسألة في الكواليس وبطريقة لا تثير مشاعر الأصوليين البوذيين.
نؤكد أن شيئاً من هذا القبيل قد حدث وفي هدوء، ودون صخب أو ضجة، وتمثل في لقاء البابا بقائد جيش ميانمار الجنرال مين أونغ هلاينغ، المتهم بممارسة التطهير العرقي ضد الروهينغا.
اللقاء أدرج في اللحظات الأخيرة ضمن برنامج البابا، وبناء على طلب الكارينال تشارلس بو، رئيس أساقفة رانغون، لكن لماذا هذا اللقاء مع الجنرال مين أونغ هلاينغ؟
أحد المصادر الفاتيكانية المقربة أشارت إلى أنه كان لا بد من هذا اللقاء خلال الرحلة البابوية؛ لأن ذلك: «مهم لمستقبل ميانمار والمصالحة فيها»؛ ولأن «قسماً كبيراً من الاقتصاد والأمن لا يزال بين يديه»، وأضاف المصدر عينه: «الجيش هو الذي سبّب أزمة الروهينغا، وعليه لا بد من إشراكه في مجال تجديد البلاد الذي ترعاه أونغ سان سوتشي، وزيرة الخارجية».
وعلى هامش اللقاء، كان الكاردينال تشارلس بو يؤكد على أن هدف لقاء البابا مع قائد الجيش وصحبه ليس تعزيز ما فعله الجنرال، أي الاعتداء على مسلمي الروهينغا، بل تبادل الحوار معه، «لعل قلبه يلين فيما قد يكون الخطوة الأولى نحو السلام».
طريق لتجاوز الأصولية
بعد الجنرال الممسك بزمام الأمور في ميانمار عمد البابا إلى مخاطبة الحس الإنساني لدى القيادات الدينية في هذا البلد المعروف بأنه أمة كبيرة غنية بالألوان، ومكون من ثماني قبائل. طوال أربعين دقيقة التقى البابا بـ17 مسؤولاً دينياً في البلاد، بين بوذيين وهندوس ومسلمين ويهود ومسيحيين، وأمام هذا الحشد من رجالات الدين المختلفين عقائدياً، وأن جمعهم أصل إنساني واحد، استنكر البابا «الميل العالمي للانتظام» في قتل البشرية، في حديث لم يكن ينقصه سوى الإشارة بالاسم واللفظ لما يجري لمسلمي الروهينغا.
طالب البابا بالوحدة في الاختلاف، مُصرّاً على أننا جميعاً إخوة، حتى لو لم تعني الوحدة أن نكون متشابهين... لكل منا غناه ونقائصه، لكن يمكننا أن نعيش بسلام، والسلام يبني في قلب الاختلافات في حين الوحدة تظهر في تلك الاختلافات.
كلمات البابا عزفت لصالح مسلمي الروهينغا، دون أن يسميهم، وبخاصة عندما تناول قضية ميانمار، البلد الغني في اختلافاته؛ إذ شدد على أن «طبيعة ميانمار غنية جداً باختلافاتها؛ لذا دعونا لا نخاف من الاختلاف؛ إذ أبانا واحد ونحن أخوة، فلنبق كذلك، وإن لم نكن متفقين فيما بيننا، فلنكن كالإخوة الذين سرعان ما يتصالحون».
انغلاق أم تسامح؟
من المؤكد أن دوائر الفاتيكان كانت تدرك أن البوذية لها الباع الطويل في ميانمار «بورما»؛ ولهذا حرص البابا على لقاء القائد البوذي ستياغو سالياداو، في لقاء وصف بالضروري والحيوي، ضمن الجهود المبذولة لتحفيز السلام والتعايش الأخوي كطريق وحيدة لسلوكه.
أما اللقاء الأكبر مع البوذيين في ميانمار، فكان من خلال الاجتماع بمجلس «سانغان» الأعلى للرهبان البوذيين، الذي اعتبره البابا فرصة لتعزيز وتجديد وتمتين روابط الصداقة والاحترام بين البوذيين والكاثوليك.
مرة جديدة ودون مباشرة واضحة أو إشارة صريحة للمذابح التي تعرض لها مسلمو الروهينغا، أشار البابا إلى أن الإنسانية اختبرت على مدى العصور الظلم ومراحل من الصراعات وانعدام المساواة بين الأشخاص، مشيراً إلى الجراح التي ولّدها الفقر والاضطهاد والصراعات التي لا تزال قائمة على الرغم من الإنجازات التكنولوجية الكبيرة التي تحققت في مجتمعات اليوم.
في حين الأهم والأكثر حساسية وقرباً من الإشكالية الحقيقية في ميانمار، أنه اعتبر أن هذه القيم أساسية بالنسبة للنمو المتكامل للمجتمع بدءاً من العائلة وصولاً إلى الجماعات الوطنية والعرقية والعائلة البشرية برمتها.
تضميد الجراح
كانت ولا تزال وستظل كارثة الأصوليات حول العالم، أنها أبداً ودوماً تقف أمام فكر متحجر ومتكلس تؤمن من خلاله بمسار واحد، وعقلية وذهنية أحادية، لا تلوي عنها شيئاً.
لهذا السبب؛ كان حديث البابا للسلطات الحكومية والمجتمع المدني في القصر الرئاسي البورمي بـ«ناي بي تاو» في العمق والصميم، مؤكداً على أنه يود أن يعانق سكان ميانمار كافة، ويوجّه كلمة تشجيع إلى جميع الأشخاص الساعين إلى بناء نظام اجتماعي عادل ومتصالح، ولا يستثني أحداً. وإذ أشار البابا إلى أن ميانمار تنعم بطبيعة خلابة وبموارد مهمة، أكد أن الكنز الثمين الذي يتمتع به هذا البلد هو الشعب الذي عاني ولا يزال يعاني بسبب صراعات داخلية دامت لفترة طويلة، وولدت انقسامات عميقة.
لقاء بابا الفاتيكان بممثلي الحكومة كان مناسبة لدفع عملية بناء السلام والمصالحة الوطنية الصعبة قدماً، رأى البابا أن ذلك يمكن أن يتحقق من خلال الالتزام لصالح العدالة واحترام حقوق الإنسان، مذكراً بأن الحكماء والأنبياء قد أثنوا على مبدأ العدالة أساساً لسلام حقيقي ومستدام.
لم ينس البابا في كلمته، التشديد على ما للطوائف الدينية من دور بالغ الأهمية في قيادة عملية المصالحة والاندماج الوطني في ميانمار؛ ولهذا شدد على أن الاختلافات الدينية لا يجب أن تكون مصدراً للانقسامات ولعدم الثقة، إنما دافع للوحدة والصفح والتسامح والبناء الحكيم للبلد، وكذلك باستطاعة الأديان أن تقوم بدور مهم في شفاء الجروح الوجدانية والروحية والنفسية، جروح أولئك الذين عانوا خلال سنوات الصراع. ويمكنها إذ تستقي من هذه القيم المتجذرة بعمق، أن تساعد على استئصال أسباب الصراع، وبناء جو للحوار، والبحث عن العدالة.
لقد راهن البابا على الشباب، على الأجيال الجديدة، التي رأى أن المستقبل لا يزال اليوم بين أياديهم، وقد وصفهم بأنهم عطية يجب أن نحبهم ونشجعهم، ورأى أنهم استثمار سوف ينتج مردوداً غنياً إن وضعوا أمام فرص عمل حقيقية وتربية جديدة، وهذا شرط ملح للعدالة بين الأجيال.
لقد أضحت ميانمار بؤرة سلطت عليها الأضواء، وأضحت كلمات البابا هناك عن التعددية والتنوع وقبول الآخر، مجالاً خصباً لمجابهة الأصوليات والراديكاليات الأحادية، وما تجره على البشرية من وبال وكوارث.


مقالات ذات صلة

رئيس مخابرات تركيا استبق زيارة بلينكن لأنقرة بمباحثات في دمشق

المشرق العربي مئات السوريين حول كالين والوفد التركي لدى دخوله المسجد الأموي في دمشق الخميس (من البثّ الحرّ للقنوات التركية)

رئيس مخابرات تركيا استبق زيارة بلينكن لأنقرة بمباحثات في دمشق

قام رئيس المخابرات التركية، إبراهيم فيدان، على رأس وفد تركي، بأول زيارة لدمشق بعد تشكيل الحكومة السورية، برئاسة محمد البشير.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
آسيا سيارات همفي تابعة لـ«طالبان» متوقفة أثناء مراسم جنازة خليل الرحمن حقاني جنوب كابل 12 ديسمبر 2024 (أ.ف.ب)

تشييع وزير اللاجئين الأفغاني غداة مقتله في هجوم انتحاري

شارك آلاف الأفغان، الخميس، في تشييع وزير اللاجئين خليل الرحمن حقاني، غداة مقتله في هجوم انتحاري استهدفه في كابل وتبنّاه تنظيم «داعش».

«الشرق الأوسط» (شرنة (أفغانستان))
شؤون إقليمية عناصر من قوات مكافحة الإرهاب التركية أثناء عملية استهدفت «داعش» (إعلام تركي)

تركيا: القبض على 47 من عناصر «داعش»

ألقت قوات مكافحة الإرهاب بتركيا القبض على 47 من عناصر تنظيم «داعش» الإرهابي، في حملة شملت 5 ولايات؛ بينها أنقرة وإسطنبول.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
أفريقيا الجيش الموريتاني خلال مناورات على الحدود مع مالي مايو الماضي (أرشيف الجيش الموريتاني)

الجيش الموريتاني: لن نسمح بأي انتهاك لحوزتنا الترابية

أفرجت السلطات في دولة مالي عن 6 مواطنين موريتانيين، كانت قد اعتقلتهم وحدة من مقاتلي مجموعة «فاغنر» الروسية الخاصة.

الشيخ محمد (نواكشوط)
المشرق العربي مسيّرات تركية قصفت مستودع أسلحة يعود لقوات النظام السابق بمحيط مطار القامشلي (المرصد السوري)

مصادر لـ«الشرق الأوسط»: تركيا ستطالب أميركا بموقف حاسم من «الوحدات» الكردية

أكدت تركيا استمرار الفصائل الموالية لها في التقدم بمناطق «قسد»، وقالت مصادر إنها ستطلب من وزير الخارجية أنتوني بلينكن موقفاً أميركياً ضد «الوحدات» الكردية.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)

«حزب الله» العراق... صورة حول الفرات بأهداف تتجاوز الأصل اللبناني

أعلام صفر لـ«كتائب حزب الله» العراق خلال مشاركتها في إحدى الفعاليات (الشرق الأوسط)
أعلام صفر لـ«كتائب حزب الله» العراق خلال مشاركتها في إحدى الفعاليات (الشرق الأوسط)
TT

«حزب الله» العراق... صورة حول الفرات بأهداف تتجاوز الأصل اللبناني

أعلام صفر لـ«كتائب حزب الله» العراق خلال مشاركتها في إحدى الفعاليات (الشرق الأوسط)
أعلام صفر لـ«كتائب حزب الله» العراق خلال مشاركتها في إحدى الفعاليات (الشرق الأوسط)

ارتبط مسمى «حزب الله» بنوعين؛ أعلام صفراء في لبنان، وحسن نصر الله أمين عام حزب الله، لبنان، لكن النوع العقائدي الأكبر خطورة يسير في دماء العراق، حزب هو بذات الاسم، عقائديون أكبر أثراً في سفك الدماء، حيث يرعون الأمر أكبر من مجرد حزب أصفر له الضاحية الجنوبية في لبنان؛ مسكن ومقر ومشيعون.
بين دجلة والفرات، حزب يسمى كتائب «حزب الله العراق»، له أكثر من 13 عاماً وهو في تشكيله الحالي، ليس بالهين عوضاً عن ميليشيات «الحشد الشعبي» التي أخذت كل الوهج الإعلامي كونها مرتبطة بنظام إيران، لكن «حزب الله العراق» وكتائبه تمر في أزقة السواد وبأخطر من دور ميداني تمارسه «الحشد الشعبي»، لأن العقائدية ونشرها أشد خطورة من ميدان يتقهقر فيه الأضعف، نظراً للضربات الآمنة التي يقودها الحلفاء أولو القوة من غرب الأرض لوقف تمدد النزيف، دائماً ما يكون مصنع الوباء يمر بحزب الله العراق.

قبل أشهر، كان الحزب تعرض لواحدة من أعنف الغارات على مواقعه، بعد هجوم صاروخي استهدف قاعدة التاجي في العراق، وقتل فيها جنديين أميركيين وبريطانياً، وجاء الرد خلال ساعات قليلة بفعل غارات أميركية - بريطانية مشتركة، ضد منشآت لميليشيات حزب الله العراقي في محافظتي بابل وواسط ومنطقة سورية محاذية للحدود العراقية.
نظرة سريعة على حزب الله العراق، من التاريخ، كان عماد مغنية (قتل في 2008 بغارة إسرائيلية في دمشق) الإرهابي اللبناني التابع لإيران، وحزب الله لبنان، كان أحد صنّاع هيكل هذا الحزب في العراق، حيث بدأ في العمل وفقاً لتوجيهات وأوامر نظام الملالي في تكوين حزب يشبه حزب الله اللبناني، وهو ما يبدو أن الأوامر جاءته في تجويد هذا الحزب ليكون بذراعين: عسكرية وعقائدية، ويبدو أن مغنية تجاوز أخطاء عديدة في تشكيل ووهج حزبه اللبناني، فصنع بهدوء هيكلة مختلفة للحزب، جعلت كل المساجد والحسينيات وقوداً يضخ فيها البذور التي يرغبها أولو العمائم.
ظهر الحزب بحضوره الأول بقوام تجاوز 4 آلاف شخص، منتمين بعضويات عدة داخله، وتنامى العدد حتى قبل تصنيف الولايات المتحدة له كـ«تنظيم إرهابي»، لكنه جعل دوره التسويقي للحشد والتنظيم أكبر من مجرد عسكرة، بل فكرة أكثر ارتباطاً في نشر آيديولوجيا عبر مواقع عدة، ومنها تفريخ عناصر في قطاعات مهمة داخل العراق؛ منها وزارة التعليم ووضع لبنات التعاون مع أحزاب دينية؛ منها «الحزب الإسلامي» الذي يتغذى بمنهج الإخوان المسلمين.
ربما ما يدور أن الحزب هو جزء في تكوين «الحشد الشعبي» لكن ذلك يمر بتقاطعات، حيث يشير عبد القادر ماهين، المتخصص في شؤون التنظيمات الإرهابية، إلى أن الحزب يظهر كونها جزءاً من تكوين الحشد، لكنه جزء يصنع الكعكة الميليشياوية ويشارك في تسميمها ويعمل على توزيعها في المناطق المجاورة.
يشير ماهين في اتصال هاتفي مع «الشرق الأوسط» إلى أنه لا أمين عاماً للحزب أسوة بحزب الله اللبناني، حيث يظهر فيه حسن نصر الله، مبرراً ذلك أن الفرق بين تكوين الحزبين هو الحاجة والدور، حيث يتمركز في جنوب العراق بعتاد عسكري، له هدف في وضع حضور طاغٍ يحاول تفخيخ الحدود، لأن الهدف يرتبط مع إمبراطورية إيران الكبرى الممتدة، ولا يظهر له الأثر السياسي كممثلين له كما هو الحزب اللبناني ليكون أثره في تشكيل الحكومات والبرلمانات.

إذن ما الدور الذي يلعبه الحزب؟

الحزب كما يرى ماهين، أنه ذو دور عسكري في الأصل، لكن الترتيبات ما بعد 2009 جعلته أكثر قدرة في تكوين فريق احتياط عسكري ليس أكثر وفق الحاجة، يدعم التوجهات والسياسات الإيرانية، لكن ما أخل بتلك القاعدة مشاركته المباشرة في دعم نظام الرئيس السوري بشار الأسد، وأصبح أكثر من 4 أو 5 آلاف جندي مشاركين في السيطرة على مدن سورية تحت إمرة إيران في سوريا التي تتشكل من 4 فصائل مسلحة.
الحزب ليس عسكرياً فقط؛ كان ولا يزال صاحب دور في الترويج العقائدي، وتصوير الحضور الإيراني بشكل إيجابي مزعوم، إضافة إلى عمله الاقتصادي، حيث يدخل عناصره الكبرى في مفاصل مهمة في الاقتصاد العراقي، من شركات اتصالات وشركات نفطية، وأخرى ذات علاقة بقطاع الطيران، وإدارة المطارات والمنافذ، وبعض الأشخاص أبرزهم هادي العامري الذي كان صاحب صولات وجولات حين حمل حقيبة وزارة النقل العراقية في وقت سابق، وكان أبرز مهددي الاستمرار الكويتي في بناء ميناء مبارك الكبير، حيث هددت كتائب الحزب الشركات من الاستمرار بالعمل، وحينها ظهر العامري بأن ذلك المشروع «يغلق القناة الملاحية لموانئ العراق».
مرحلة مختلفة ظهرت، حين عاودت الآلة العسكرية الحزبية لكتائب حزب الله العراق، بالعمل من خلف الصفوف، حيث كانت أبرز مهددي السفارات وأكثر ملغمي مسارات الحلول السياسية، بل ومن رمى بقادة العراق اليوم في تحدي أن يرضخوا أمام شعب بدأ في كراهية الحضور الإيراني، وكان الحزب أبرز علامات استهداف المتظاهرين في العراق في كل البلاد، بغية كسر حدة السيوف الشعبية لتصبح مجرد مقبض دون رأس حربة كي يحافظ الحزب على الوجود الإيراني، خصوصاً أنه أبرز متلقٍ للأموال من نظام إيران وأكثرها غناءً.
الدور الاقتصادي لكتائب حزب الله العراق أصبح أكثر وضوحاً، حيث كان أكبر المنتفعين في عام 2015، من «الفدية القطرية» التي وصلت إلى أكثر من مليار دولار، مقابل إطلاق سراح قطريين كانوا يقضون وقتهم في الصيد جنوب العراق، ورغم أن الأنباء قالت إن الخاطفين لعدد من أبناء الأسرة الحاكمة القطرية ومعاونيهم الذي بلغ 28 شخصاً، كانوا من تنظيم «داعش»، لكن التقارير المسربة لاحقاً في بدايات 2016 حيث جرى تخليصهم وعودتهم إلى قطر، كانوا يتبعون لكتائب حزب الله العراق، وهو ما ينافي الرواية الرسمية القطرية التي تقول إنها دفعت المبلغ للحكومة العراقية.
الدور المستقبلي لن ينفك عن منهجية تتقاطع مع حزب الله اللبناني، حيث لدى الحزب اليوم الرؤى ذاتها، خصوصاً في اعتماد سياسة «افتعال الأزمات»، كي لا ينكسر الحضور الإيراني ونفوذه في المؤسسات الدينية وبعض السياسية، التي يجد فيها بعضاً من رجاله الذين يقبعون في سياسة تخفيف الضغط على النظام السياسي ومحاصصته التي تستفيد منها ميليشيات إيران في العراق، وما بعد مقتل قاسم سليماني، غربلة يعيشها الحزب الذي يجرب يوماً بعد آخر أسلوب التقدم خطوة بخطوة، مستفيداً من تكتيك الفأر في نشر طاعون على أرض هي الأهم لإيران.