من التاريخ: ماكيافيلي والدولة والأخلاق

من التاريخ: ماكيافيلي والدولة والأخلاق
TT

من التاريخ: ماكيافيلي والدولة والأخلاق

من التاريخ: ماكيافيلي والدولة والأخلاق

تناولنا في الأسبوع الماضي الخلفية المرتبطة بظهور كتاب «الأمير» للكاتب والمفكر الإيطالي نيوكولو ماكيافيلي عام 1513م، فهذا الاسم الذي أصبح سبة لأي شخص يُنعت به، كان همه الأساسي هو وطنه إيطاليا التي صارت مفككة ومحطمة سياسيا تتلاعب بها القوى المختلفة والمطامع الخارجية والفساد الداخلي للشعب، وقد دفعت كل هذه العوامل الرجل للسعي لإيجاد حل لحالة التفسخ والانحدار الأخلاقي الذي أصاب بلاده، والحل بالنسبة له لم يكن فقط في النصائح التي قدمها للأمير لورنزو دي ميديتشي في كتاب «الأمير» فحسب، بل إنه وضع فكره السياسي بشكل أدق وأعمق في كتابه المنسي «مناقشات حول أول حقبة لتيتوس ليفي Discourses on the first decade of Titus Levi»، ففيه قدم الرجل شرحا للأسباب التي دعته لاعتناق هذا المذهب العملي أو غير الأخلاقي للبعض، لصالح الهدف الأسمى والأنبل وهو الدولة ووحدتها.
إن محاولة فهم فكر ماكيافيلي تبدأ بحقيقة أساسية اعتنقها مذهب الواقعية في علم السياسة والعلاقات الدولية، وهي أنه لا يمكن الاعتماد على الإنسان وأخلاقه وحدهما لتطوير المجتمع أو الإبقاء عليه، فلقد كانت رؤية ماكيافيلي للإنسان منحطة للغاية، فهو لم ير فيه إلا شخصا أنانيا لا يتورع عن فعل أي شيء لمصلحته الشخصية على حساب الوطن والمجتمع، ولكنه أكد على أن أهم أمرين بالنسبة للمواطن هما الملكية الخاصة والحياة، فالإنسان على استعداد لأن ينسى قتل أقربائه، ولكنه لن ينسى الشخص الذي يؤمم أملاكه، ومن ثم، فإنه لا يمكن الوثوق في الفرد وحده للوصول للمصلحة المجتمعة، بالتالي أصبح هناك دور محوري للدولة ومؤسساتها، التي يجب عليها التنسيق بين المواطنين لتصبح الأداة الجمعية للرقي بهم.
لقد كان موقف ماكيافيلي واضحا في كتابه، حيث رأى أن غياب الدولة الموحدة في إيطاليا واضمحلال جمهورية فلورنسا أدى إلى حالة من الانهيار الأخلاقي، ومن ثم جاءت قناعته واضحة بأنه عندما تنعدم أو تضعف الفضيلة والأخلاقيات العامة، فإن ظهور النظم الجمهورية وما يتأتي معها من حريات يصبح أمرا مستحيلا، وهو ما ينطبق على بلاده في ذلك الوقت، التي أصبحت بحاجة إلى سلطة مطلقة تستطيع أن تعيد لها الأخلاقيات المفقودة من خلال الوحدة والقدرة على إصدار القوانين العادلة بعيدا عن أهواء البرلمانات أو الجمعيات التي تمثل المصالح السياسية والاقتصادية للطبقات المختلفة، فالرجل يرى أن عودة الدساتير والقوانين إنما هو أمر مشروط بشكل واضح بالسلطة المطلقة وفي هذه الحالة لشخص واحد فقط وليس لمجموعة أو جماعة.
ومن هذا المنطلق برر ماكيافيلي السلطة المطلقة للحاكم، فلقد كانت قياساته الأساسية التي بنى عليها فكره مرتبطة بشكل مباشر بالعصر الجمهوري الروماني الذي رأى فيه أداة مهمة استطاعت أن تدفع بقوة نحو إعادة المجد الروماني المفقود، ولعل هذا كان سببا أساسيا في ضعف مصادر الإلهام بالنسبة له، حيث ركز على المجد الروماني، واتصالا بذلك، فإنه على عكس ما قد يعتقده كثيرون، فإن ماكيافيلي لم يكن في أي وقت من الأوقات رافضا لفكرة الحريات العامة أو حتى النظم الجمهورية المستنيرة التي رأى فيها الغاية النهائية للدول وأنظمة الحكم، ولكن هذه مرحلة تأتي بعدما يستطيع الحاكم القوى السيطرة على الدولة وتوحيدها وتقويتها بما يسمح لها بأن تكون قادرة على الإدارة من خلال مؤسسات ثابتة وقانونية، فلقد كان الرجل على قناعة كاملة بأن الانتخاب، على غرار دولة روما، أفضل بكل تأكيد من فكرة التوريث السياسي، كما أنه كان على قناعة كاملة بأن الحاكم الذكي هو الذي يستطيع أن يدمج القوى السياسية المختلفة في شؤون الحكم حتى قبل بلوغ الجمهورية، ولكن إلى أن يصل المجتمع لهذه المرحلة، وحتى يستطيع الحاكم أن يضع هذه اللمسات المهمة، فإنه يجب عليه أن يتحلى بكل الصفات الواردة في كتاب «الأمير». وقد نتج عن ذلك وجود ازدواجية في الأخلاقيات، فهناك أخلاقيات يجب أن تتحلى بها الرعية، بينما تقل أهمية التزام الحاكم بالأخلاقيات العامة نفسها في سبيل الدولة، وقد برر ذلك بوجود نوعين من الالتزام الأخلاقي، أحدهما للعامة، بينما يعفي من ذلك الحاكم، وتقديره كان واضحا وهو أن الحاكم ليس فقط خارج نطاق القوانين الوضعية حتى التي يقوم هو بصياغتها، ولكنه أيضا خارج نطاق الأخلاقيات، وبالتالي يكون معيار الحكم على الحاكم هو مدى نجاح الدولة في تحقيق أهدافها ومدى نجاحه هو في السيطرة على الدولة، فالدولة هي الغاية التي تُبرر لها الوسائل.
ولم تكن هذه نهاية المبادئ التي نادى بها ماكيافيلي لإدارة الدولة، فلقد دعا الحاكم الإيطالي إلى تقوية الدولة من خلال وضع نظام عسكري مبني على مفهوم «المواطن الجندي»، أي إنه يرى ضرورة قيام الأمير الذي سيوحد إيطاليا بتكوين جيش من بني وطنه يكون ولاؤهم له وللدولة، فلقد كان الرجل يمقت طبقة المرتزقة التي كانت تحارب من أجل المال والتي أضحت بعد مرحلة معينة لا تأبه إلا بجمعه بعدما استقروا فيما بينهم على عدم الاقتتال وإزهاق الأرواح وآثروا الدخول في حروب مراسمية تُحلل لهم الأموال التي يتقاضونها من الأمراء، خاصة طبقة «الكوندوتيري Condottieri»، التي يقال إن إحدى المعارك التي خاضها فريقان من هؤلاء المرتزقة لصالح أميران لمدة ساعات مطولة انتهت بعدم خروج منتصر وإصابة جنديين فقط، وقد حذر ماكيافيلي الحاكم من هؤلاء لانعدام الولاء ولأنهم على استعداد للإفساد في الدولة.
لم يكن هذا وحده محل سخط ماكيافيلي لتنافيه مع الفكر الوطني والقومي، فلقد صب الرجل غضبه الشديد على الكنيسة وطبقة الأرستقراطية، فالثانية لا تهدف إلا للإبقاء على ملكيتها التي هي محل تساؤل من الأساس، بينما هاجم البابا وطالب بجعل إيطاليا الموحدة دولة تبعد عن شبح التدخل البابوي الذي رأى أنه سبب في تفكك بلاده بسبب ممارسة البابا للسياسة وعلاقاته الدولية التي استخدمتها الدول المختلفة ذريعة للتدخل في الشأن الإيطالي، فضلا عن قيام الدولة البابوية بلعب دور محوري ولكن سلبي في التوازن الداخلي للقوى في شبه الجزيرة الإيطالية، من ثم هجومه الشرس على الكنيسة وقوله الشهير: «نحن الإيطاليون مدينون لكنيسة روما ولكهنوتها بأننا أصبحنا غير متدينين وسيئين، ولكننا مدينون لها أيضا بشيء أكبر.. وهو أن هذه الكنيسة عكفت وتظل تعكف على إبقاء دولتنا مُقسمة». ومن هذا المنطلق جاء سخط ماكيافيلي على الكنيسة ورجالها، ورأى أنها العائق الأكبر أمام قدرة أي أمير على توحيد إيطاليا، ذلك الهدف المنشود الذي بنى الرجل كل نظريته السياسية عليه.
خلاصة القول، فإن ماكيافيلي لا يمكن اعتباره رمزا للأخلاق ولو من خلال تمديد خيالنا السياسي، ولكن الرجل كان بكل تأكيد رمزا للوطنية، فلقد صاغ مبادئه السياسية على أسس تقوية الدولة والمفاهيم الوطنية، وهي الأسس التي يرفضها كثيرون اليوم لاعتقادهم بأنها تتنافى والأخلاقيات والحريات العامة ومفهوم الفردية، ولو عاش ماكيافيلي اليوم ووجه له أحد سؤالا عن دعوته لفكرة الديكتاتورية وانعدام الأخلاقيات في مفاهيمه، فأعتقد أن رده سيكون ضرورة أن يُحكم على آرائه من خلال زمنه وظروف بلاده، وأن فكرة المصلحة الجمعية تعلوا على المصلحة الفردية، كما أن فكرة تفتيت الدولة أو مؤسسات منها لصالح حريات فردية ضيقة إنما تمثل الإفساد الحقيقي للمجتمع، خاصة عندما يصبح الإنسان رمزا لفرديته دون إدراك لوعيه الجمعي.. ومع ذلك، يظل الجدل قائما بعد 501 عام في غير صالح ماكيافيلي.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.