قصص بأقلام الأسيرات المحرَّرات من السجون الإسرائيلية

ثمرة ورشة للكتابة الإبداعية نظمت على هامش «احتفالية فلسطين للأدب»

قصص بأقلام الأسيرات المحرَّرات من السجون الإسرائيلية
TT

قصص بأقلام الأسيرات المحرَّرات من السجون الإسرائيلية

قصص بأقلام الأسيرات المحرَّرات من السجون الإسرائيلية

صدر عن دار E - Kutub بلندن كتاب «حفلة لثائرة.. فلسطينيات يكتبن الحياة» إعداد الروائية هيفاء زنكَنة، وتقديم الناقدة فريال غزّول. يضم الكتاب نصوصاً مفتوحة لثماني كاتبات فلسطينيات مُحرَّرات من الأسر، والتاسعة لم تمرّ بمحنة الأسر وهي الشاعرة والمترجمة روز شوملي مصلح.
هذا الكتاب هو ثمرة ورشة للكتابة الإبداعية التي أقيمت على هامش احتفالية فلسطين للأدب أشرفت عليها الروائية العراقية هيفاء زنكَنة التي عانت هي الأخرى من تجربة السجن وكتبت عنها غير مرّة، ويكفي أن نشير إلى روايتها المعروفة «في أروقة الذاكرة» التي تعتبر نموذجاً مثالياً لأدب السجون في العراق.
يكشف التمهيد الذي كتبتهُ زنكَنة أسباب عزوف المحرَّرات الفلسطينيات من السجون الإسرائيلية عن تدوين تجاربهن الشخصية والجماعية، وتعتقد أن البعض منهن قد تعرّضنَ إلى تجارب مهينة أساءت إلى كرامتهن وسمعتهن، الأمر الذي يدعوهنَّ إلى لزوم الصمت، وتناسي الذكريات المؤلمة القديمة. كما تعتقد أن صعوبة اللغة العربية قد تقف حائلاً أمام الكتابة الإبداعية أو حتى التدوين الذي يهدف إلى توثيق هذه الأحداث المُفجعة التي مرت بها السجينات الفلسطينيات، إذ تخشى كثيرات منهن الوقوع في أخطاء لغوية قد يُنتقدنَ عليها لأن غالبيتهن لم يمارسن الكتابة الأدبية من قَبل، لكن المشرفة على الورشة شجعتهن على خوض هذه التجربة، وحفّزتهنَ على الكتابة الإبداعية التي تنطوي على حبكة جيدة، ولغة متوهجة، وبناء فني رصين يجتذب المتلقين ويدفعهم لقراءة نصوصهن الأدبية والاستمتاع بمضامينها ومقارباتها الفنية على حدٍ سواء.
أما الناقدة فريال غزّول فقد صنّفت هذا النمط من الكتابة بـNonfiction creative writing الذي يعني «القصة الإخبارية التي تجمع بين الخبر والسرد الأدبي» (ص11) وهو توصيف دقيق لأن القصة الإخبارية تشتمل على الأقصوصة، والنص المفتوح، والرسائل، واليوميات، والاستذكارات، وما إلى ذلك من كتابات حميمة تحاول السيطرة على الذاكرة المراوغة التي قد تكون ضحية للخطأ والتصحيف والنسيان.
يمكن اعتبار النص المفتوح الذي كتبته نادية الخياط قصة قصيرة، وذلك لتوفره على اشتراطات النص القصصي الناجح الذي يتوفر على ثيمة جيدة، وحبكة قوية، ولغة مُعبِّرة لا تخلو من الصياغات الجميلة، والومضات الشعرية التي يستقر بعضها، في الأقل، في ذهن القارئ وهو يتتبع الحدث القصصي منذ بدايته وحتى جملته الختامية. تتناول القصة ثيمة إنسانية وهي إنجاب «سميحة» لبنتها البِكر «ثائرة» في سجن إسرائيلي، وسوف تتحول هذه الطفلة الرضيعة إلى الحدث الأبرز في القصة، خصوصاً وأنها سريعة في كل شيء، في النُطق، والمشي، والتعلّم، فلا غرابة أن تكتشف بحدْسها الداخلي أنها تعيش في معتقل مُعادٍ لكل السجينات بمن فيهن أمها وعمتها وجدتها اللواتي زُج بهن جميعاً في هذا السجن المعزول نسبياً عن العالم الخارجي. ولعل وجود الطفلة «ثائرة»، وهي تلعب في الممر القريب من غرف السجينات هو الشيء الوحيد الذي يكسر رتابة الروتين اليومي الذي تعيشه الأسيرات على مدى سنوات طوال، وسوف يشعرن جميعاً بالأسى حينما يكتشفن أن هذه الطفلة على وشك أن تغادر السجن بعد إتمامها السنة الثانية بحسب قوانين السجون الإسرائيلية. وهذا هو مكمن المفارقة في هذه القصة الناجحة، فبدلاً من أن تفرح السجينات لتحرر هذه الطفلة من الأسر يشعرن جميعاً بالخوف كلما اقترب موعد خروجها فهي أجمل ما لديهن في هذا السجن اللعين.
تعتبر «رقصة المطر» لمَي الغُصين من أنضج نصوص هذا الكتاب، وهي قصة قصيرة أيضاً وليست نصاً مفتوحاً لأنها تتوفر على ثيمة، وتصعيد درامي ملموس، ونهاية فنية جداً تتحول فيها السجّانة إلى مجرد سجينة لا غير! وأكثر من ذلك فإن النسق السردي لهذه القصة ينطوي على أبعاد بروكسيمية Proxemics تدرس المساحات التي يتركها المتحدثون فيما بينهم، وقد يستعمل بعضهم وسائل الاتصال غير القولي مثل اللمس، والشمّ، وحركة الجسد، والإيحاءات الكامنة وراء اللغة، ودور الزمن في الاتصال. قصة «رقصة المطر» مكتوبة بضمير المتكلم التي تسرد لنا حكايتها بشغف واضح حينما تقول: «تلمس قطرات المطر وجهي.. أستنشق رائحتها. كم هي زكية رائحة التراب المبتل بالمطر! تلعب الذاكرة لعبتها فتأخذني إلى أيام مضت» (ص93) ثم تذهب القاصة إلى وصف السجن وصفاً دقيقاً يبدأ بـ«الفورة» أو ساحة السجن التي يصعب تحديد شكلها ثم تصف غرف المعتقل المكوّن من طابقين، وسلّم جانبي يفضي إلى بوابة مُغلقة، وغرفة المراقبة التي تجلس فيها السجّانة لتراقب السجينات دون أن يرفّ لها جفن. أما أعلى الساحة فثمة سياج وشبك قد وضع لكي يمنع السجينات من التحليق أو ليحجب أشعة الشمس من الوصول إليهن.
حينما خرجت الراوية إلى الساحة لتقف تحت قطرات المطر الأولى توهجت لغتها فقالت: «لامست قطرات المطر النديّة روحي قبل أن تبلل جسدي، وبدأت الورود تتفتح بداخلي. اشتدّ هطول المطر، بدأت بالركض لأجد نفسي خارج حدود الزمان والمكان» (ص94). ثم سمعت وقع خطوات وراءها وبدأن يركضن جميعاً ويحلقنَ بفرح طفولي حتى تحررنَ من سطوة المكان المغلق، وأصبحنَ أكثر حرية من السجّانة التي شعرت لحظتها بأنها السجينة الوحيدة رغم امتلاكها مفاتيح الأبواب الخارجية، وهنَّ الطليقات رغم أنهن محكومات مدى الحياة! أما النهاية الفنية لهذه القصة فتكمن في تصوير البراعم الجميلة التي نمتْ، وأزهرت، وتشامخت حتى اخترقت الشبك لتشعر بحريتها في الفضاء الجديد الذي لا تسوّره القيود، ولا تخنقهُ الأسلاك الشائكة.
اشتركت الكاتبة والشاعرة روز شوملي بنصين في هذا الكتاب، الأول يحمل عنوان «عودة منقوصة» وهي «قصة إخبارية» كما تذهب غزّول لأنها تصوِّر الخبر بأسلوب أدبي متميز وهذا ما يتضح للقارئ منذ الجملة الاستهلالية التي تقول فيها: «ربع قرن مر، وأنا أحمل قذى الغربة مثل عصا تجلدني ولا تكتفي» (ص61) وحينما تقرر العودة لزيارة أهلها ووطنها الذي حُرمت منه على مدى 23 سنة يموت والدها قبل وصولها بيومين فتؤجل أمها موعد الدفن، وحينما تواريه الثرى، وتصل ما انقطع بينهما يتوجب عليها المغادرة لتصبح هذه العودة منقوصة فعلاً.
أما النص الثاني الذي كتبته شوملي فهو «يوميات من حصار رام الله» وقد التزمت فيه الكاتبة مجمل الاشتراطات التي يجب أن تتوفر في فن «اليوميات» الذي انطلقت فيه من الخاص إلى العام، فبعد أن أوضحت لنا تأثيرات الحصار على أسرتها انتقلت إلى حصار المقاطعة وهي مقرّ الرئيس الراحل ياسر عرفات الذي صمد بوجه الحصار وخرج منتصراً ليكون قدوة للجميع في الصبر والتحدي والصمود.
تحتاج الكاتبات الست الأخر اللواتي لم يكتبن نصوصاً أدبية من قَبل إلى قراءات مكثفة، وورش عمل إضافية، وتجارب حياتية تحفز على فعل الكتابة الإبداعية، ولعل اكتشاف موهبتين أو أكثر من بين كل ثماني كاتبات هي نتيجة مشجعِّة حقاً تعد بالكثير من النتاجات الإبداعية إذا ما تصورنا أن عدد الأسرى في سجون الاحتلال الإسرائيلي قد بلغ 7 آلاف أسير بينهم 54 امرأة و400 طفل فلسطيني بحسب وزارة الأسرى، ولا بد أن يكون بين هذا العدد الكبير منْ يمتلك موهبة الكتابة ليدوِّن لنا معاناة الأسرى في السجون الإسرائيلية، وأن يكتبوا بأنفسهم تجاربهم الشخصية لا أن يكونوا موضوعاً يكتب عنه الآخرون كما يذهب الشاعر الراحل محمود درويش.


مقالات ذات صلة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

ثقافة وفنون أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أطلّت الكاتبة التشيلية الأشهر إيزابيل الليندي، عبر منصة «مايسترو»، في «هيئة الإذاعة البريطانية»، من صالونها الهادئ الذي يضم تفاصيلها الشخصية والحميمية

سحر عبد الله
يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين
TT

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

سورين كيركيغارد

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!