يوم الاثنين 27 نوفمبر (تشرين الثاني) 2017، ألقت «قوات الدعم السريع» السودانية القبض على موسى هلال، المتهم بأنه «زعيم الجنجويد»، في معقله بمنطقة مستريحة بولاية شمال دارفور في غرب السودان، وأوقفت معه ثلاثة من أبنائه وخمسين من معاونيه، ونقلتهم تحت الأصفاد إلى الخرطوم، ليواجهوا محاكمة عسكرية. ولكن ما يثير الدهشة، ليس القبض على هلال أو تقديمه لمحاكمة، بل الطريقة «غير المتوقعة» بالنسبة لكثيرين، إذ كان الرجل الذي قاد «قوات حرس الحدود» التابعة للجيش السوداني، في نظر المحللين والمراقبين «أسطورة قتالية»، فكيف انتهت هذه الأسطورة بهذه الطريقة «الدراماتيكية»، وفي هذا الوقت بالتحديد؟ وهل كان الرجل مجرد أسطورة صنعها خيال الإعلام، أم أن في الأمر خدعة ما؟!
في «ميلودراما»، أو ربما «كوميديا سوداء»، أنهت «قوات الدعم السريع» التابعة للجيش السوداني «أسطورة» رجل كان متهماً بأنه «زعيم الجنجويد». أسطورة صنعها موسى هلال بالدم والسلاح، أثناء الحرب الأهلية في إقليم دارفور بغرب السودان.
لم يكن أحد في السودان يصدق بأن الزعيم القبلي الشهير موسى هلال يمكن أن يُقبض عليه بالسهولة التي اعتقل بها، لأن الصورة التي رسمها الرجل لنفسه طوال عقد من الزمان «أسطورية» فعلاً.
وزير الدولة للدفاع السوداني علي محمد سالم، كشف الأربعاء الماضي، أن هلال، سيقدم وأبناؤه لمحاكمة أمام القضاء العسكري، باعتبارهم «مجنّدين» في قوات «حرس الحدود» التابعة للجيش السوداني. وقال إن الرجل اعتقل بعد اشتباك مسلحين موالين له، مع عناصر من «قوات الدعم السريع». ودارت معركة قصيرة انتهت باعتقاله، خسرت خلالها «الدعم السريع» 24 قتيلاً، فيما خسرت قواته 8 قتلى، فضلاً عن عدد من الجرحى في منطقة مستريحة، وهي المنطقة التي يطلق عليها «دامرة الشيخ هلال»، ثم اعتقلت 50 من مساعديه.
الوزير سالم أوضح أن هلال فور وصوله للخرطوم، وضع تحت الحراسة المشددة، في مقر القيادة العامة للجيش بالعاصمة الخرطوم، وأخضع للتحقيق، وسيقدم إلى محاكمة عسكرية عادلة، لأنه حوّل منطقته «إلى مأوى للخارجين عن القانون» الذين يحتمون به. وكشف سالم (لأول مرة) أن المتطوعة السويسرية مارغريت شينكيل، التي اختطفت من مدينة الفاشر، حاضرة شمال دارفور، في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، كانت محتجزة في منطقة مستريحة. في حين اكتفى الأمن السوداني بالقول: إن تحريرها كان «عملية أمنية معقدة»، ولم يكشف تفاصيلها.
كاريزما عالية
إلقاء القبض على هلال، دون مقاومة تذكر، أنهى وجود الرجل ذي الكاريزما العالية، ربما إلى الأبد، فبدا كأنه «مصنوع في الإعلام». لقد استسلم بعد معركة قصيرة شاركت فيها مركبات دفع رباعي مسلحة محدودة العدد، حسب معلومات المسؤول العسكري.
بدوره، وصف قائد «قوات الدعم السريع» محمد حمدان حميدتي، اعتقال هلال بأنه «نهاية» لمرحلة من اللااستقرار والاقتتال في إقليم دارفور المضطرب، يقول: «سنعمل على بسط هيبة الدولة دون هوادة أو مجاملة لأحد، مهما كانت الكلفة»، وإن حملة جمع السلاح التي يناهضها الرجل لن تتوقف. وعلى الرغم من أن الوزير سالم كان دبلوماسيا في ردوده على الأسئلة المطروحة بشأن مصير هلال، فإن حميدتي مضى مباشرة واتهمه بـ«الضلوع في مؤامرة بأجندة خارجية» وبالسعي لزعزعة الأمن والاستقرار في الإقليم، إذ قال: «ضبطنا معه أجنبيا بحوزته أجهزة اتصال متطورة».
تهم... وشهرة
لمع اسم موسى هلال، الذي ترافقه الضجة أينما ذهب، مع نشوب الحرب في إقليم دارفور السوداني عام 2003. ووجهت له حينذاك اتهامات من قبل الولايات المتحدة ومنظمات دولية بأنه تزعم «ميليشيا الجنجويد» المتهمة بارتكاب جرائم حرب. ورغم أن هلال نفى الاتهامات عن نفسه وبحق قواته، فإن الاسم التصق به وبقواته، بفعل الطرق الإعلامي العالمي العنيف والمستمر ما رسّخ التهمة والمفردة.
في بادئ الأمر، كان مصطلح «الجنجويد» يطلق على المطاريد، وقطاع الطرق الذين يجوبون الإقليم لينهبوا الثروات والأنعام بقوة السلاح، وهم على ظهور الجياد والإبل.
وتعني «جنجويد» باللهجة المحلية «جن على ظهر جواد». ويحمل المقاتل من هذه الميليشيا بندقية (GM3) أميركية الصنع، ويطلق عليها محلياً «جيم تلاتة». لكن المصطلح هاجر في وقت لاحق، من سياقه الدلالي المعروف، ليطلق على أفراد القبائل الذين سلحتهم الحكومة السودانية لمحاربة الحركات المتمردة من أبناء القبائل الأفريقية، وأوكلت قيادتهم إلى هلال.
والواقع أن هلال يتزعم «فخذ المحاميد» من قبيلة الرزيقات العربية الشديدة المراس، والتي تحترف رعي الإبل في دارفور. ولقد خلف في الزعامة والده الذي كان ينتمي لطائفة الأنصار الدينية وحزب الأمة القومي بقيادة الصادق المهدي.
بطاقة هوية
ولد موسى هلال في بلدة دامرة الشيخ، بالقرب من مدينة كتم في شمال دارفور العام 1961. وهو متزوج من ثلاث سيدات، أنجب منهن 13 من البنين والبنات، بينهم أنجاله الثلاثة حبيب وعبد الباسط وفتحي. والثلاثة مجندون في حرس الحدود، وهم الآن معتقلون معه. ومن بناته بنت تزوجت من الرئيس التشادي إدريس ديبي في حفل زفاف أسطوري شهدته الخرطوم، لكنها لم تلبث أن انفصلت عنه.
تحيط بحياة هلال الحكايا والأساطير، إذ سجن مرتين، ثانيتهما في 2002. بعد اتهامه بقتل جنود سودانيين في حادثتين منفصلتين. ثم أطلق سراحه بأوامر من النائب الأول للرئيس البشير - وقتها - علي عثمان محمد طه، وبعدها جاءت النقطة الفارقة في حياته.
وفي العام 2003 اندلعت الحرب في دارفور، وأعلن هلال وقوفه إلى جانب الحكومة ضد حركات التمرد. وحشد لموقفه هذا أبناء عشيرته تحت شعارات الدفاع عن الأرض والعرض، واستجابة لدعوة حكومية للالتحاق بـ«قوات الدفاع الشعبي» شبه النظامية.
وتؤكد وسائل إعلام غربية ونشطاء حقوقيون، أن فظائع ضد مدنيين ارتكبت أثناء تلك الحرب، وبسببها اتهمت دول غربية، ومنظمات حقوق الإنسان - «هيومن رايتس ووتش» على وجه الخصوص - هلال والقوات الموالية له، بارتكاب جرائم حرب، ومهاجمة السكان ذوي الأصول الأفريقية في دارفور وتصفيتهم عرقياً، وألصقت به من ثم لقب «زعيم الجنجويد».
القضاء الدولي يتدخل
نتيجة لهذه «الاتهامات» أصدرت محكمة الجنايات الدولية، مذكرات قبض بحق مسؤولين سودانيين، ما تزال سارية المفعول، وبينهم علي كوشيب، شريك هلال. لكن محكمة لاهاي لم تصدر أمر قبض ضد هلال، بل فرض عليه مجلس الأمن الدولي، هو وثلاثة آخرين عقوبات تضمنت حظر سفر دولي وتجميد أموال على خلفية أحداث دارفور في 2006. ووضعته الخارجية الأميركية ضد قائمتها للمشتبه بهم في ارتكاب جرائم حرب.
وتحت ضغوط المجتمع الدولي والمنظمات الحقوقية الدولية ومجلس الأمن، «شرعنت» الخرطوم اضطراراً «ميليشيا الجنجويد»، فجندتها ضمن ما أطلقت عليها «قوات حرس الحدود» التابعة للجيش. ومن ثم، أوكلت إمرتها إلى موسى هلال. ولكن حين غضب هلال على الخرطوم، دان معظمها له بالولاء، وانحازت إليه في معاركه ومواقفه.
تعيين ولغط وطموح
في يناير (كانون الثاني) من العام 2008. عيّن هلال مستشاراً في «ديوان الحكم الاتحادي» وأثار تعيينه لغطاً كثيراً، إلا أن الرئيس عمر حسن البشير يومذاك دافع عنه بشدة، ووصفة بأنه «مواطن سوداني، وشخصية شديدة التأثير في دارفور، وقدّم مساهمة كبيرة في إرساء الاستقرار والأمن في المنطقة»، واختير نائباً بالبرلمان عن حصة حزب المؤتمر الوطني الحاكم.
لكن يبدو أن طموح هلال كان أكبر من منصب مستشار الذي أسند إليه، إذ قال الرجل في مقابلة معه: «المستشارية شبيهة بعمل مفرغ، وأنا غير راضٍ عن هذا الوضع على الإطلاق، لأن المستشارية بلا مشاورة». وتزعم تحليلات - وإن لم يقلها هلال صراحة - أنه كان طامعاً بمنصب «والي» ولاية شمال دارفور. ويسند المحللون رأيهم إلى انتقادات عنيفة دأب على توجيهها للوالي في ذلك الوقت عثمان محمد يوسف كبر، بل طلب من الخرطوم علناً إعفاءه من منصبه.
ثم تصاعد التوتر بين الطرفين وزاد حدة. ونقلت «الشرق الأوسط» مارس (آذار) 2014 عن قيادي مقرب من هلال قوله: إن جماعته تعمل على توحيد الحركات المسلحة، المنضوية تحت لواء الجبهة الثورية، للعمل معاً لإسقاط نظام حكم البشير.
واتصل هلال بكل من رئيسي حركتي تحرير السودان مني أركو مناوي وعبد الواحد محمد النور ورئيس حركة العدل والمساواة جبريل إبراهيم والأمين العام للحركة الشعبية ياسر عرمان، وقال: «نحن أصبحنا نواجه عدوا واحدا هو نظام البشير، وسنعمل معا على إسقاطه. واتصالاتنا أيضا تتركز حول برنامج سياسي نتفق عليه جميعاً».
المواجهة مع الخرطوم
سكتت الخرطوم على غضبات هلال واتصالاته و«أفعاله»، وسعت لاسترضائه أكثر من مرة، وكانت آخرها في يناير 2015، إذ اجتمع به مساعد الرئيس وقتها ونائبه في الحزب الحاكم «المؤتمر الوطني»، في مطار مدينة الجنينة (أقصى غرب السودان)، وتم الوصول خلال الاجتماع لتسوية – لم يفصح عن فحواها أبداً – لكن الرجل عاد إلى الخرطوم واستقر بها نحو سنتين بما يشبه الإقامة الجبرية.
بعدها عاد هلال إلى مستريحة مرة أخرى، وحشد حوله مؤيديه من «قوات حرس الحدود» وأبناء عشيرته، وأعلن تنظيمه السياسي «مجلس الصحوة الثوري» باعتباره حزباً قومياً. وعمل على ما سماه المصالحات بين عشائر دارفور، فيما سماه «رتق النسيج الاجتماعي». وراج وقتها أنه يحتكم على قرابة 1000 عربة دفع رباعي مسلحة، يمكن أن يستخدمها ضد الخرطوم. ثم ظهرت على مسرح الأحداث ما أطلق عليها «قوات الدعم السريع» بقيادة أحد أبناء عمومته هلال محمد حمدان دقلو، الشهير بـ«حميدتي»، كقوات «جوّالة» قوامها أبناء فخذ آخر من قبيلة الرزيقات وقبائل عربية في دارفور، ونفذت مهام في مناطق متعددة من البلاد.
لقد بدأ التوتر بين هلال و«قوات الدعم السريع» منذ إنشائها، إذ اعتبرها «موازية» لقواته إن لم تكن «بديلة» لها. وظلت تحفظاته تتزايد تجاهها إلى أن طُلب منه و«قوات حرس الحدود» الاندماج فيها، فرفض بشدة، وسكتت الخرطوم عن تحديه «التعليمات العسكرية». ثم، حين أعلنت الحكومة «حملة جمع السلاح» من المدنيين مطلع العام، كلفت بها «قوات الدعم السريع» فوصل التوتر ذروته بين الخرطوم و«قائد الدعم السريع» حميدتي من جهة، وهلال وتنظيمه «مجلس الصحوة الثوري» من الجهة الأخرى.
ولم يقتصر الصراع بين هلال والخرطوم على السلطة وحدها، بل على الذهب في منطقة جبل عامر، والذي قدر تقرير أممي نقلته صحيفة «التغيير الإلكترونية» عائداته بـ422 مليون دولار أميركي سنوياً، يذهب ريعها الأغلب إلى هلال ورجاله الذين يسيطرون على الجبل. بريق الذهب والسيطرة على عائداته أعمت القلوب وأثارت الغيرة، على الرغم من أن هلال لم يحل دون مشاركة بني عمومته بالثروة الطائلة.
نقطة الصدام
ثم تحول التوتر المكتوم إلى صدام، بلغ أوجه باعتقال «الدعم السريع» حرس هلال الشخصي وعددا من معاونيه وقتل 19 منهم، قرب الحدود مع ليبيا. وقيل حينذاك إن المجموعة كانت تمارس التهريب والاتجار بالبشر، ومهمة التصدي لذلك كُلفت بها «قوات الدعم السريع» على الحدود الليبية السودانية.
وعقب الحادثة، جرت تدخلات قبلية اشترط فيها هلال إطلاق سراح المعتقلين. وجرت مساومات قبلية، لم يفصح عن فحواها، لكن الرجل بدأ منذ تلك اللحظة يتحسس عنقه، بعدما أدرك أن الحلقة بدأت تضيق عليه رويداً رويداً، فاتجه لاتهام جهات نافذة في السلطة بإثارة الفتنة، والسعي لتصفية حسابات -لم يسمها- معه.
وبعد هذه الحادثة تحوّل تنافس الرجلين - هلال- حميدتي - إلى صراع جرى تبادل نصب «الكمائن» خلاله، وألقي القبض على مساعد هلال الأبرز هرون مديخير من قبل «الدعم السريع». ومن الجانب الآخر قتل قائد في «الدعم السريع» العميد عبد الرحيم جمعة عبد الرحيم، وهو في الوقت ذاته ابن عم حميدتي وصهره. ثم تصاعدت الأحداث بشكل درامي إلى أن وصلت لحظة القبض على هلال وأنجاله ومساعديه.
وهنا يقول خبير في شؤون دارفور إن ما حدث «خلافات شخصية بين هلال وأبناء عمومته»، ويشير إلى أن علاقة الرجل بالحكومة لم تشفع له، شارحاً أن «هلال كان حليفاً للحكومة، بيد أنه أصبح مهدداً للأمن، فتدخلت الحكومة لحسمه... لقد عجل رفضه حملة جمع السلاح بنهايته».