عبد المحسن الماضي يحرك المياه الراكدة في مسألة حصار «اليمامة»

كتاب يبحث في حروب الردة وأحداثها وما ترتب عليها من نتائج

عبد المحسن الماضي يحرك المياه الراكدة في مسألة حصار «اليمامة»
TT

عبد المحسن الماضي يحرك المياه الراكدة في مسألة حصار «اليمامة»

عبد المحسن الماضي يحرك المياه الراكدة في مسألة حصار «اليمامة»

لم تكن منطقة «نجد»، وسط الجزيرة العربية، بمعزل عن حضارات العالم القديم، حيث تقع وسط جزيرة استقطبت جغرافيتها الإنسان منذ القدم. ومع تعدد عوامل جذبها الاستيطاني، كانت نجد موقعاً مهماً في هذه الجذب لعوامل جغرافية واقتصادية. ومع كل ذلك، عدّ الجغرافيون ومؤرخو الهجرات القديمة المنطقة موطناً أصلياً لكثير من القبائل والشعوب، وتحديداً تلك التي كانت في بداياتها تحمل الثقافة الصحراوية، مثل: الأكاديين والآشوريين والآراميين والأموريين، وغيرها من القبائل والشعوب، كما عبر عن ذلك الدكتور سليمان الذييب الباحث المؤرخ الآثاري المعروف في تقديمه لدراسة مثيرة طرحها الكاتب المؤلف السعودي عبد المحسن بن عبد الله الماضي في كتاب حمل عنوان «حصار نجد... سنوات الردة وما بعدها»، الذي صدر عن دار «مدارك» للنشر. وفي الدراسة طرح غير مسبوق، وتساؤلات لم تجد إجابات في كتب المؤرخين لفترة ذات شأن من التاريخ، في أثناء ما يسمى «حروب الردة» وما بعدها، بعد رفض قبائل نجد دعوة الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - للدخول بالإسلام، بل تعدى الأمر إلى ظهور شخصيات ادعت النبوة.
وضع المؤلف الماضي أسباباً رأى أنها دعت إلى رفض النجديين اعتناق الإسلام، وهم القبائل الأغنى لإمكانياتهم الزراعية والاقتصادية الواضحة، ثم الحصار الذي ضرب عليهم، وتسليط أضواء الردة على نجد، بخلاف المناطق الأخرى التي أعلنت ارتدادها، إذ إن الجزيرة العربية كلها ارتدت باستثناء مكة والمدينة والطائف، المدن الأكثر معرفة بالدين الجديد والأقرب إلى منطلقاته، واتفق الذييب مع المؤلف الماضي على أن السبب في التركيز على نجد يعود بكل بساطة إلى أن نجداً امتازت بقوتها الزراعية وتأثيرها الواضح، كما رأى مقدم الدراسة أن هذا الطرح من المؤلف الماضي غير مألوف، وسيحرك المياه الراكدة بخصوص هذا الموضوع.
وقد أفرد المؤلف الماضي، في كتابه المثير بعنوانه ومادته، سبعة فصول ليخوض بشكل جاد إلى حد كبير في موضوع نأى المؤرخون العرب بأنفسهم عن الخوض فيه استشعاراً منهم بالحرج. ورغم أن الكتاب يحمل اسم «حصار نجد»، مما يعطي انطباعاً للقارئ وكأنه أمام موقعه حربية من المواقع التي كانت المنطقة مسرحاً لها على مر التاريخ، إلا أن المؤلف أشار إلى أن الأمر ليس كذلك، على اعتبار أن نجداً تعرضت لموقعة بدأت بالحصار الجغرافي الذي طوق أطرافها، ثم تلاه الحصار الديني في أثناء الردة وما بعدها، ثم تلاه الحصار النفسي الذي بدأ معهما واستمر يؤثر فيها حتى اليوم.
واتضح من نهج المؤلف في التقاط معلومات الكتاب إيمانه بأن «كتابة التاريخ يجب أن تكون كما حدث فعلاً، وليس كما يجب أن يكون»، وهو ما جعله شعاراً في إنجاز مؤلفه الذي أوضح فيه أنه - على حد علمه - لا يوجد كتاب عن حروب الردة يجمع الأحداث وفق تسلسل يهدف إلى تحقيق خط فكري واضح، غايته الدفاع عن نجد وأهلها. وقد ظهر اعتماد اللاحق من المؤرخين على السابق، واكتفائه بدور الناقل المردد، دون تدخل بالنقد والتحليل والمقارنة، أو حتى استقراء الأحداث واستنطاقها وفق تحليل منطقي يقبله العقل الناقد المستقل، فقد تجنب الجميع التمعن فيها. فمن لم يكن من نجد، فقد نأى بنفسه عن مواطن الوقوع فيما قد يُفسَّر بأنه نقد للصحابة أو انتصار للمرتدين. وأما النجديون، فقد غرقوا مع نجد في ظلام، فلم يظهر عالم أو باحث نجدي ليبحث في أحداث الردة ونتائجها. أما الأخبار والروايات المتناثرة عن حروب الردة وأحداثها، فهي كلها تصب في مناوئة المرتدين، وتأييد ما حصل لهم في هذه الحروب، على أساس أنه أمر ديني كان يجب تنفيذه، كما تصب في التشنيع على أهل نجد، وربطهم بإبليس والردة.
ورأى المؤلف الماضي أن حروب الردة وأحداثها، وما ترتب عليها من نتائج وتداعيات، ظلت من الأمور التي يخشى المؤرخون والمحللون الخوض فيها، أو الاقتراب منها بالنقد والتحليل، استشعاراً منهم بالحرج من إمكانية المساس بأي من الصحابة، فتم تأجيل بحث قضية حروب الردة والأحداث التي صاحبتها والتي تلتها. وبالتالي، تأجلت إمكانية تبرئة نجد من تهمة الردة وارتباطها بإبليس. ولقد شدد المؤلف على أن كتابه يمكن النظر إليه على أنه دفاع مشروع ومرافعة عن نجد وأهلها.
ولخص المؤلف أسباب الردة في نقاط عدة، منها أن الدين لم يكن قد تأصل بعد في نفوس القبائل التي كانت حديثة عهد بالإسلام، عكس أهل مكة والمدينة الذين لبث الدين الإسلامي فيهم أكثر من عشرين عاماً والرسول بين ظهرانيهم، إضافة إلى أن حركة الردة هي الوحيدة التي لم يكن لها دوافع خارجية من الأيادي الخارجية التي كانت تعبث في الجزيرة العربية لتحريض القبائل ضد الإسلام، المتمثل في ردة مسيلمة وبني تميم وطليحة، التي اتخذت من نجد مقراً لدعوتها، عكس العامل الخارجي المحرض للقبائل، كما في اليمن وعمان وحضرموت وكندة ومهرة والبحرين، وردة بني تغلب بقيادة سجاح، وتحرش الروم بتأليب قبائل الشمال المسيحية للهجوم على ثغور الدولة الإسلامية الناشئة. كما أن من أسباب الردة - وفق المؤلف الماضي - تأليب بعض من دان باليهودية والنصرانية والمجوسية للقبائل القريبة بالخروج على الدين الجديد، خوفاً على عقيدتها منه بعد انتشاره بشكل كبير في أنحاء الجزيرة العربية، إضافة لسبب تمثل في إثارة النعرة القبلية في نفوس القبائل. واستشهد المؤلف في هذا الصدد بما قاله طليحة النمري لمسيلمة: «كذاب ربيعة أحب إلينا من صادق مضر»، أي أنه يعلم أن محمداً صادق، وأن مسيلمة كاذب، ومع ذلك فهو يؤمن بهذا الكاذب بدافع من العصبية. وأضاف المؤلف سبباً خامساً من أسباب الردة تمثل في النجاح النسبي الذي حققه الأسود العنسي في اليمن، وهو ما شجع من كان تساوره الردة أو ادعاء النبوة على الإقدام على فعلته، فتجرأ طليحة وتجرأ مسيلمة، وزاد من أمر تلك الجرأة وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم.
وأضاف المؤلف سبباً سادساً وسابعاً وثامناً من أسباب الردة، تمثلت في تباين الحياة الظاهر بين بدو الجزيرة وحضرها، الأمر الذي أدى إلى خصومات كثيرة، وبالتالي صعب من أمر الوحدة بينهم، رغم تجاور البدو والحضر، وسببا آخر يتعلق بالمنافسة الأزلية بين قبائل ربيعه وقبائل مضر، وهو ما جعل كل منهما يعمل في إطار من القبيلة التي لم تلبث أن انقسمت إلى قبائل محلية وتعصب كل قبيلة، وما دفعها للرغبة في اتباعها لنبي منها، بغض النظر عن صدقه أو كذبه، كما أن هناك سبباً ثامناً تمثل في تفشي الجهل في ذلك العهد، والإيمان بالغيبيات، والانبهار بالسحر والدجل والشعوذة كان له دور في قيام الردة.
وقدم المؤلف الماضي نتائج حرب الردة التي رأى أن أهمها تمثل في إعادة الجزيرة العربية كلها إلى حظيرة الدين الإسلامي، ونتيجة أخرى كان لها القدر نفسه من الأهمية، وهي الاتجاه لتدوين القرآن وجمعه من صدور الصحابة بين دفة كتاب واحد، بعد مقتل كثير من جيش المسلمين، من بينهم حفظة القرآن الكريم، بالإضافة إلى نتائج طويلة الأمد، لعل أهمها - وفقاً للمؤلف - ضرب طوق من الحصار الشديد على إقليم نجد وعلى أهله، أثناء وبعد حروب الردة، الذي تمثل في استبعاد أهل نجد من تولي المناصب والمشاركة في الفتوحات، وقصرها على سواهم، وقد استمر ذلك في ظل الدولتين الأموية والعباسية. وعندما سقطت الخلافة العباسية في بغداد التي كانت ترى بلاد اليمامة والبحرين تابعه للخلافة رسمياً، تغيرت نظرة دولة المماليك لأقطار الجزيرة العربية، واعتبروا اليمامة خارجة عن سلطة الدولة، بيد أن المماليك حرصوا على استمرار العلاقة الوطيدة مع قبائل نجد، في إطار التنافس العسكري والسياسي والاقتصادي مع المغول، فاستمرت بالتالي حالة الفوضى والصراع القبلي حتى قامت الدولة السعودية التي استطاعت القفز خارج حدود نجد، وكسرت تلك الحواجز التي أحكمتها الطبيعة على المنطقة، وأصبحت الدولة السعودية الحديثة حاملاً للواء التوحيد وإصلاح العقيدة، ومركزاً للتنوير، فزال الحصار الجغرافي والاقتصادي عن نجد، أو اليمامة كما كانت تعرف آنذاك، لكن الحصار النفسي وفقاً للمؤلف ما زال يضرب بعض أطواقه على أهل المنطقة، كما يسيطر على سواهم.


مقالات ذات صلة

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان
خاص الكاتب الغزي محمود عساف الذي اضطر إلى بيع مكتبته لأحد الأفران (حسابه على «فيسبوك»)

خاص غزة تحرق الكتب للخبز والدفء

يعاني سكان قطاع غزة، خصوصاً في شماله، من انعدام تام لغاز الطهي، الذي يُسمح لكميات محدودة منه فقط بدخول مناطق جنوب القطاع.

«الشرق الأوسط» (غزة)
ثقافة وفنون الشيخ ثاني بن حمد الممثل الشخصي لأمير قطر خلال تكريم الفائزين بالجائزة (الشرق الأوسط)

«جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي» تتوّج الفائزين بدورتها العاشرة

كرّمت «جائزةُ الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي» في قطر الفائزين بدورتها العاشرة خلال حفل كبير حضره الشيخ ثاني بن حمد وشخصيات بارزة ودبلوماسية وعلمية.

ميرزا الخويلدي (الدوحة)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
TT

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة من خلال حديث مطول أدلى به لمحرر المذكرات ومؤلف الكتاب الصحافي سيد محمود سلام. ورغم أن حديث الذكريات هنا يشمل محطات مختلفة، فإن الكتاب يركز بشكل خاص على مرحلة النشأة والطفولة وما اكتنفها من اكتشاف الفنان في سنوات التكوين الأولى لعالم الأدب وخصوصية مدينته بورسعيد، مسقط رأسه.

ويشير محمود ياسين إلى أن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر، وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها. ويرى أنه كان طفلاً محظوظاً لأنه نشأ في أسرة تعد الثقافة جزءاً مهماً من تكوين أبنائها، وكان ترتيبه السادس بين أشقائه العشرة، وقد تأثر في طفولته بشقيقه الأكبر فاروق: «إذ فتح عيني على شيء اسمه الكتاب بمعناه الواسع. كان يتسلم الكتب ويذهب إلى المدرسة، لكن فاروق كانت له في البيت مكتبة خاصة عبارة عن خزانة كبيرة في الحائط صُممت على الطراز الفرنسي تضع فيها الوالدة الفخار وقطع الخزف الصيني وكؤوس الزجاج وأشياءها الخاصة، فصنع منها مكتبة بعرض الحائط بعد أن أقنعها بذلك حيث كانوا يقطنون في فيلا من دورين تابعة لشركة قناة السويس التي كان يعمل بها والده، وعاشوا فيها ما يزيد على 25 عاماً».

ظل فاروق يشتري الكتب باستمرار مثل سلسلة «اقرأ» التي كانت تصدر ملخصات لعيون الأدب العربي والعالمي والسير الذاتية مثل السيرة الذاتية لطه حسين ودوستويفسكي ومكسيم غوركي وأنطون تشيخوف، فضلاً عن عيون الأدب الفرنسي مثل مؤلفات غي دي موباسان. كانت السلسلة تصدر كتيبات لكل كتّاب ومفكّري العالم، فالتراث الإنساني كله أنتجته سلسلة «اقرأ»، وقد جمعه فاروق في مكتبته وأيضاً سلسلة أخرى بعنوان «كتابي» جمعها أيضاً في المكتبة.

قرأ محمود ياسين في صغره معظم دواوين الشعراء العرب وعبقريات العقاد في مكتبة شقيقه، فضلاً عن كتب سلسلة «الكتاب الذهبي» التي تعرّف فيها على محمد عبد الحليم عبد الله ونجيب محفوظ ويوسف إدريس ويوسف السباعي. كما كان الشقيق الأكبر فاروق شغوفاً باقتناء الكتب والمطبوعات الثقافية مثل مجلة «الهلال» حتى إنه يشتري الكتب بمصروفه الشخصي المحدود. ولم يكن الطفل محمود يشغل نفسه بشراء الكتب، لكن يده بدأت تمتد إلى مكتبة شقيقه، فغضب بشدة من استعارته كتبه؛ وذلك خوفاً من ألا تلقى الاحترام ذاته الذي تلقاه عنده تلك المكتبة التي كوّنها واشتراها من مصروفه. لكن عندما اطمأن لشقيقه، بدأ يشجعه مع بعض النصائح خوفاً على هذه الكتب. وبدأ الشقيق الأصغر في متابعة المسرحيات المترجمة بشكل خاص، لا سيما أعمال وليام شكسبير وهو ما أثار دهشة وإعجاب فاروق حين رأى شقيقه لا يفوّت نصاً للكاتب العالمي، سواء في سلسلة «كتابي» أو نظيرتها «اقرأ».

ويشير محمود ياسين إلى أن أبناء بورسعيد يتشابهون في ملامحهم وتكوينهم؛ لأن هذه المدينة تترك بصماتها على أبنائها، فهي بلد مفتوح على الدنيا ويُطل على أوروبا، فهناك شاطئ بحر وفي الأفق عالم آخر يجب أن تحلم به. إنها مدينة وسط جزر من المياه، فتأثر بهذه الخصوصية الجغرافية وما أكسبته لسكانها من حس حضاري لافت.

يقول محمود ياسين في مذكراته إن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها.

امتزجت شخصية محمود ياسين بالبحر المتوسط الذي تطل عليه مدينته، فهو مثله تراه شديد الهدوء تارة، شديد الصخب تارة أخرى. يقول: «إن أخلاقي كأخلاق البحر وطبيعتي تشبهه، فأنا في شهري سبتمبر وأكتوبر أكون هادئاً هدوءاً غريباً وعندما تنظر إليّ تشاهد ما في أعماقي، وإذا تحدثت إليّ يمكنك أن تكتشف كل شيء. أما الشخص الصاخب العصبي فهو أيضاً أنا ولكن في شهر يناير، وكذلك البحر بـ(نواته) وأمواجه المتلاطمة. لا أحب شهر يناير، قد يكون لأنه بداية عام لا أعلم ما يخبئه، وحين راقبت نفسي وجدت أنني في مواسم أكون هادئاً وأخرى أكون صاخباً وهذا هو حال البحر».

كانت حياة الصبي محمود ياسين قبل التمثيل غير مستقرة، كأنه يبحث عن شيء يسعده. كان يراقب شقيقه فاروق، الممثل العظيم بقصور الثقافة، وتعلم منه كيف يحب الريحاني. يشاهده فيشعر بأنه يمتلك عالم التمثيل بين عينيه، نظراته، تأمله، صوته حتى وهو يغني بصوتٍ أجش تستسيغ غناءه من هذه الحالة التي لاحظها وتأثر بها. أحبَّ التمثيل وشعر بأنه الشيء الذي يبحث عنه، إنه عالمه المفقود، به ستكتمل حياته.

اللافت أن التمثيل منذ البدايات الأولى بالنسبة لمحمود ياسين «حالة»، إنه بمثابة «عفريت» يتجسد في الشخص المحب له، فكان يسعد بالمشاهد التي يمثلها في نادٍ يسمى «نادي المريخ» ببورسعيد وهو طفل. وكوّن هو وزملاؤه فرقة مسرحية، مع عباس أحمد الذي عُرف بأشهر مخرجي الثقافة الجماهيرية، وله باع طويل وأثر في حياته كصديق ورفيق رحلة كفاح، هو والسيد طليب، وكانا أقرب صديقين له، سواء على مستوى هواية التمثيل أو الحياة.

ويروي كيف كان يقدم مسرحية على خشبة مسرح صنعوه بأنفسهم من مناضد وكراسي متراصة، وفي قاعة تسع 100 شخص، فلمح والده، وكانت المرة الأولى التي يمثل فيها ويشاهده أبوه، وإذا به يبتسم له ابتسامة هادئة، اعتبرها أول تصريح رسمي منه بموافقته على دخوله هذا المجال. ويذكر أيضاً أن من بين العمال الذين تأثر بهم محمود عزمي، مهندس الديكور العبقري، الذي لم يحصل على أي شهادات دراسية ولم يلتحق بالتعليم، لكنه كان يهوى الرسم ويصمّم ديكورات أي نصوص سواء عربية أو عالمية ببراعة مدهشة.