في تمام الساعة الواحدة ظهراً بتوقيت غرينتش، يطل المذيع المصري من خلال شاشة «بي بي سي عربي» على ملايين العرب حول العالم. يصحبهم في جولة على أهم الأخبار في مناطق النزاع ومقرات صنع القرار. بهدوء ونضج يتعدى سنه، يتسلح مقدم البرامج الشاب بالموضوعية والوسطية لتقديم الحقائق للمشاهد ومحاورة الضيوف من الخبراء والمسؤولين وشهود العيان. مهنيته داخل الاستديو جعلت منه وجهاً يرتاح له المشاهد. لكن، ما لا يعرفه الكثيرون عن محمد، أن تجاربه، المتهورة أحياناً، في الميدان جبلت الصحافي في داخله. إجادته اللغة العبرية فتحت له أبواب لقاء شمعون بيريز وموشيه يعلون، وكان نتاج شجاعته تقارير من مناطق التوتر، كادت تودي بحياته. التقته «الشرق الأوسط» في لندن بعد يوم عمل حافل. «الصحافة مهنة المتاعب، وعلى من يريد امتهانها أن يعشقها». كلمات أكدها لي محمد في أثناء احتسائنا القهوة وخوضنا في حديث شيق عن تفاصيل تجاربه الإعلامية من أول نشرة لتلفزيون «بي بي سي عربي»، إلى اليوم. وفيما يلي نص الحوار:
> كنتَ أحد أفراد العائلة المؤسسة لتلفزيون «بي بي سي عربي»، كيف كانت التجربة؟
- سؤالك يُعيدني إلى عام 2007، هيئة الإذاعة البريطانية بالنسبة إلى كل مذيع عربي حلم، إذ تربينا عليها. «هنا لندن»، العبارة التي كان والدي يستيقظ على سماعها كل يوم عبر الراديو.
السبب الوحيد الذي دفعني إلى ترك بلادي مصر كان مشروع تأسيس هذه القناة. قدمت للوظيفة ووُفقت بعد امتحانات صعبة وتم الاتصال بي والتحقت. كان مشروعاً طموحاً وكانت السماء هي حدودنا. كنا مجموعة متحمسة من جنسيات عربية مختلفة يقودها شخص مهني ومحترف هو الأستاذ صلاح نجم. مررنا بفترة تدريبات من يوليو (تموز) 2007 حتى بدأ البث في 11 مارس (آذار) 2008، وكان لي الشرف أن أكون من معدِّي أول نشرة أخبار على القناة.
> أصبحتَ من الوجوه المعروفة في نشرات وبرامج القناة منذ ذلك الحين. لكن ما لا يعرفه معظم المشاهدين أنك تتكلم اللغة العبرية بطلاقة، الأمر الذي فتح لك أبواباً كثيرة، صحيح؟
- درست دراسات الشرق الأوسط بما فيها لغات المنطقة والسياسة والتاريخ والديانة. وقررت التخصص باللغة العبرية، نظراً إلى أن هذا المجال مهم، إثر وجود دولة مثل إسرائيل في المنطقة إلى جانب تاريخ من الصراعات والحروب. واستطعت من خلال دراستي استكشاف اللغة والتاريخ والديانة والسياسة، وفتح لي ذلك أبواباً في عملي، لأن «بي بي سي» تحرص على اقتناء الكفاءات التي بإمكانها المساعدة في أكثر من مجال في العمل. ساعدني ذلك أيضاً في المساهمة في تغطية القضية الفلسطينية، وأوفدت مراسلاً للعديد من الفعاليات والأحداث ولتغطية الانتخابات والحرب في غزة وغيرها.
> ما أكبر ثمار هذه الميزة إذن؟
- يقع دائماً الاختيار عليَّ من قبل «بي بي سي عربي» لتغطية أحداث الصراع العربي الإسرائيلي أو الأحداث داخل إسرائيل. غطيتُ جميع الانتخابات في إسرائيل منذ التحاقي بطاقم عمل «بي بي سي» بكل تداعياتها، ومن خلال ذلك تسنّت لي مقابلة عدد من المسؤولين الإسرائيليين منهم الرئيس الإسرائيلي الراحل شمعون بيريز عام 2014 قبل أن يترك منصبه لبرنامج «بلا قيود». سألته عن تاريخ المنطقة وعن تاريخ إسرائيل، وكيف أسهم نشوء هذه الدولة في التأثير على مجريات منطقة الشرق الأوسط. ومن المقابلات المهمة الأخرى التي أجريتها، لقاء مع موشيه يعلون عام 2013 عندما كان وزيراً للدفاع في إسرائيل. كانت من أهم المقابلات لأنه أثبت لي أن الشرق الأوسط فعلاً شرق أوسط جديد، وأن واقع المنطقة بعد 2011 لم يعد كواقعها قبل الربيع العربي.
> تجربتك تعدت جدران الاستديو وتضمنت تغطيات ميدانية. ما أكبر مخاطرة قمت بها على الأرض؟
- كنت محظوظاً أنني تدرجت السلم الصحافي في «بي بي سي» واكتسبت الخبرة المهنية اللازمة، حيث عملت صحافياً ومراسلاً ومذيعاً ومقدم برامج. عملي مراسلاً منحني فرصة الذهاب إلى أماكن ليست متاحة لي خارج عملي. من أبرز تجاربي في الميدان، وبرأيي الميدان هو الذي يصنع الصحافي الحقيقي، عند تغطيتي للانتخابات الأفغانية في أغسطس (آب) 2009 من كابل. الانتخابات كانت مهمة جداً لمستقبل البلاد حينذاك وكانت العاصمة الأفغانية محفوفة بالمخاطر وشوارعها مهددة. الخطر يلازم العمل الصحافي. لكن نهم الصحافي وهوسه بنقل الحقيقة للمشاهد ينسيانه الخطر أحياناً. وجودنا في بؤرة الخطر مسؤولية، فنحن عين المشاهد هناك. وعند عودتنا من الأماكن الخطرة نلاحظ التهديدات التي كانت تواجهنا.
> إذن ما التجربة التي عرّضت حياتك للخطر؟
- تجربة أفغانستان كانت من أكثر التجارب خطورة. كان على الصحافيين المكوث في كابل أو الارتكاز في مدينة معينة للتغطية، لضمان الأمان والسلامة. لكنني أصررت على الخروج خارج العاصمة الأفغانية لتغطية تقرير عن الناس خارج كابل، وكيفية تعاملهم مع الانتخابات، والإجابة عن تساؤلات مدى وعيهم بالعملية الانتخابية، وما إن كانت تصل إليهم الأنباء أم أنهم مقطوعون عن الشارع السياسي. ذهبت إلى منطقة نائية على بعد 40 كيلومتراً من كابل لنقل واقع الناس. من المرات الخطيرة الأخرى عندما كنت في القدس لتغطية انتخابات 2009، وكنا نعد تقريراً حول الصراع بين المتدينين اليهود والعلمانيين في إسرائيل، وكيف ينعكس هذا الصراع على العملية الانتخابية. ذهبت إلى حي «مائة شعاريم» في القدس الغربية، معقل المتدينين، ونصحني زملائي في مكتب القدس بعدم الذهاب لأن سكان الحي متطرفون ومعزولون عن العالم، ووجودي هناك بكاميرا كمراسل أجنبي سيعرّضني للخطر، لكنني قررت الذهاب وتعرضت أنا وفريقي للمتاعب خصوصاً زميلي المصور الفلسطيني. ساعدتني إجادتي اللغة العبرية في التعامل معهم، وأعتقد أنهم ظنوا أنني منهم. وتجاوبوا معي وأجابوا عن أسئلتي، وحصلنا على نحو 7 مقابلات، وكان التقرير ناجحاً. لن أنسى هذه التجربة.
> ما أكبر تحدٍّ تواجهه داخل الاستديو؟
- التحدي الرئيسي، خصوصاً في برنامج «عالم الظهيرة»، هو نقل أخبار العالم المليء بالصراعات والإشكالات والحروب خلال ساعة. يجب التركيز خلال ساعة والحرص على أن تكون التغطية بذات الجودة وجميع المقابلات متزنة وبنفس المستوى إلى جانب الأخبار العاجلة أيضاً. هذه المهنة تسبب الضغط العصبي والنفسي لأنها تتطلب مهنية تامة وعزلاً للمشاعر عما يحدث من حروب واضطهاد. نحن بشر في النهاية والتزام الموضوعية والوسطية تحدٍّ صعب. أهم شيء في «بي بي سي» أنها تدعم ذلك.
> ماذا كان أكبر امتحان لك على الهواء مباشرة؟
- كانت من أصعب المواقف التي أتعرض لها على الهواء في أثناء تغطية أخبار الصراعات، صورة الطفل الكردي وهو جثة هامدة على الشاطئ، كانت موضوع حلقة «نقطة حوار»، وكانت هذه الحلقة من تقديمي. كنت مضطرباً وخشيت أن أقع في فخ اللامهنية وكانت الحلقة صعبة جداً عليّ. الصورة هزّتني.
> ما نصيحتك لمن يطمحون لخوض بل للتميز في مهنة الإعلام في ظل التغيرات الطارئة؟
- هذه المهنة مهنة المتاعب، يجب ألا يخوضها إلا من عشقها. فهي تشكل ضغطاً على من يمتهنها وتسرق جزءاً كبيراً من حياته الشخصية. ويجب أن يؤمن بأن أهم شيء في هذه المهنة هو نقل الحقيقة واحترام المشاهد وعقليته. الصحافة تعلم الناس وتسهم في توعيتهم، والمصداقية مهمة، والشهرة والمردود المادي جميلان لكنهما ثانويان. من أهم مقومات الإعلامي الناجح هو طرح الأسئلة التي يريد المشاهد سماع إجاباتها. الإعلامي ليس إعلامياً للصفوة، بل لجميع الناس.
> كيف توظِّف «السوشال ميديا» للتواصل مع الناس؟
- «السوشال ميديا» هي مستقبل الإعلام ووعاء رئيسي للوصول إلى الناس جميعاً. تأثيرها كبير؛ إيجابي وسلبي. ودورنا كإعلاميين التركيز على توظيفها إيجاباً والحد من التأثير السلبي، كنشر الشائعات والأخبار المزيفة.
> هل برأيك أن الإعلام التلفزيوني قد يموت؟
- لا أرى الأمر بهذه الصورة السلبية. أعتقد أن الإعلام التلفزيوني والسوشيال ميديا سيكمل بعضهما بعضاً.