هل يوجد أدب متشائم وآخر متفائل؟

هل يوجد أدب متشائم وآخر متفائل؟
TT

هل يوجد أدب متشائم وآخر متفائل؟

هل يوجد أدب متشائم وآخر متفائل؟

هل يوجد أدب متفائل أو متشائم أو متشائل؟ كما يوجد إنسان متشائم أو متفائل أو بين بين؟ إذا تجاوزنا المعنى الاصطلاحي للتفاؤل (Optimism) والتشاؤم (Pessimism) ودلالاتهما الشعبية، وهي الغالبة، فالمفردتان أساساً مصطلحان فلسفيان وأخلاقيان شغلا العالم منذ القرن الثامن عشر، حين رأى الألماني غوتفريد ولهلم ليبنتز أن عالمنا هو أفضل العوالم الممكنة، وأن الشرور مفيدة وضرورية لخير أعظم وعالم أجمل، بينما رأى الفرنسي فولتير أن العالم مليء بالشرور: شرور النظام الاجتماعي، وشرور الأهواء البشرية، وشرور الطبيعة. أما الإنجليزي ديفيد هيوم، فهو يمثل الاتجاه المتشائل... أي بين بين. ويبدو أن هذه الاتجاهات الثلاثة لا تزال تتحكم بمعاييرنا الأدبية، رغم كل التطورات الهائلة التي عرفتها نظرية الأدب.
هل يمكن أن نحشر هذين المصطلحين في قراءتنا لعمل أدبي ما؟ أي أن نقرأه، وبالتالي نقيمه، فنقبله أو نرفضه، حسب وجهة نظرنا تجاهه، وتقييمنا الأخلاقي له؟ في حالتي الرفض والقبول، نحن نصدر حكم إعدام على النص حين نسقط عليه حكماً أخلاقياً أو فلسفياً، بدل أن نقرأه من داخله قراءة جمالية، تحفر فيه وفي دلالاته، وبنائه، وعلاقاته الداخلية. لا يوجد أدب تفاؤلي أو تشاؤمي، أو منحل. يوجد أدب أو لا أدب. والأدب الجيد، الذي نقصد هنا، هو الحياة والتاريخ، بما يحملانه من خير وشر، وتشاؤم وتفاؤل، وسمو وهبوط، وظلام ونور، وكل ذلك ينصهر ويشكل كلاً واحداً في عملية الخلق.
هل يمكن اعتبار قصيدة ت. س. إليوت الكبرى «الأرض اليباب»، مثلاً، عملاً تشاؤمياً؟ هذه القصيدة التي صورت العالم الجهمني الذي أنتجته الحرب العالمية الأولى، وانحطاط الحياة البشرية، وشرورها الأخلاقية، والفراغ الروحي للإنسان؟
على الإطلاق، رغم أنها تحتوي على عناصر التشاؤم كلها إذا نظرنا إليها من خارجها، أي إذا جردناها من كل عناصرها الجمالية والفنية... بكلمة أخرى إذا قتلناها كعمل أدبي. لا يزال إنساننا المعاصر يقرأ هذا القصيدة، ولا تزال تهز جهازه العصبي لأنها شعر أولاً وأخيراً. ولأنها كذلك، فقد تجاوزت زمنها، والظروف التي ولدتها، وبالتالي كل المفاهيم والتصانيف الفكرية والأخلاقية التي ألصقت بها من خارجها، ومنها اليأس والتشاؤم والإحباط، حين نشرها إليوت عام 1922. وقبل «الأرض اليباب» بعقود، صبت اللعنات على شارل بودلير بسبب «أزهار الشر»، بالإضافة إلى منعها، ومحاكمة الشاعر، لسبب وحيد هو أن بودلير «الملعون» فضح كل منظومة الأخلاق المنافقة التي كانت تتحكم، ليس فقط بالحياة الاجتماعية والسياسية، ولكن بالمعايير الفنية والأدبية أيضاً.
ثم، ماذا نفعل بابن الرومي، وأبي العلاء المعري، ودوستويفسكي وجاكومو ليوباردي، وفرانز كافكا، وفرناندو بيسوا، وفيليب لاركن... إلى آخر القائمة الطويلة؟ كل هؤلاء، الذين صنفهم «النقد المدرسي»، الذي ليست له علاقة بالنقد الأدبي إطلاقاً، بالكتاب المتشائمين؟ مثل هؤلاء الكتاب هم الذين فتحوا كوى عميقة في الوجدان الإنساني، وساهموا، بشكل غير منظور وغير مباشر، برفع وعينا وأحاسيسنا وعواطفنا إلى مستويات جمالية غير مسبوقة، ولا يزالون يفعلون ذلك كلما أعدنا قراءتهم، رغم الزمن وشروطنا الحياتية والاجتماعية والثقافية المختلفة.
مهمة الأدب أن يكشف القبح في هذا العالم، ويعريه أمام الشمس... ومثل هذا الكشف يعني بالضرورة الدعوة لنقيضه: الجمال. وفضح الظلم في هذه الأرض هو دعوة لتبصيرنا بنقيضه الغائب: العدالة. هذا ما فعله الأدب الإنساني طوال التاريخ على طريقته... أي جمالياً وفنياً، بشرط واحد: أن نعطيه أنفسنا، أي نقرأه جيداً من داخله، وليس من خلال رؤوسنا التي تكون محشوة بكل التصورات والآراء والنظريات المسبقة، التي نسقطها على العمل الأدبي فنقتله قبل أن نقرأه حقاً.



رحيل عبد الله النعيم... المعلم والمهندس قبل أن يحمل الابتدائية

الراحل عبد الله العلي النعيم
الراحل عبد الله العلي النعيم
TT

رحيل عبد الله النعيم... المعلم والمهندس قبل أن يحمل الابتدائية

الراحل عبد الله العلي النعيم
الراحل عبد الله العلي النعيم

محطات كثيرة ولافتة وعجيبة شكلت حياة عبد الله العلي النعيم، الذي رحل، الأحد، بعد رحلة طويلة في هذه الحياة تجاوزت تسعة عقود، كان أبرزها توليه منصب أمين مدينة الرياض في بدايات سنوات الطفرة وحركة الإعمار التي شهدتها معظم المناطق السعودية، وسبقتها أعمال ومناصب أخرى لا تعتمد على الشهادات التي يحملها، بل تعتمد على قدرات ومهنية خاصة تؤهله لإدارة وإنجاز المهام الموكلة إليه.

ولد الراحل النعيم في مدينة عنيزة بمنطقة القصيم وسط السعودية عام 1930، والتحق بالكتاتيب وحلقات التعلم في المساجد قبل إقرار المدارس النظامية، وأظهر نبوغاً مبكراً في صغره، حيث تتداول قصة عن تفوقه، عندما أجرى معلمه العالم عبد الرحمن السعدي في مدرسته بأحد مساجد عنيزة مسابقة لحفظ نص لغوي أو فقهي، وخصص المعلم جائزة بمبلغ 100 ريال لمن يستطيع ذلك، وتمكن النعيم من بين الطلاب من فعل ذلك وحصل على المبلغ، وهو رقم كبير في وقته يعادل أجر عامل لمدة أشهر.

محطات كثيرة ولافتة وعجيبة شكلت حياة عبد الله العلي النعيم

توجه الشاب النعيم إلى مكة بوصفها محطة أولى بعد خروجه من عنيزة طلباً للرزق وتحسين الحال، لكنه لم يجد عملاً، فآثر الذهاب إلى المنطقة الشرقية من بلاده حيث تتواجد شركة «أرامكو» ومشاريعها الكبرى، وتوفّر فرص العمل برواتب مجزية، لكنه لم يذهب للشركة العملاقة مباشرة، والتمس عملاً في إحدى محطات الوقود، إلى أن وجد عملاً في مشروع خط التابلاين التابع لشركة «أرامكو» بمرتب مجز، وظل يعمل لمدة ثلاث سنوات ليعود إلى مسقط رأسه عنيزة ويعمل معلماً في إحدى مدارسها، ثم مراقباً في المعهد العلمي بها، وينتقل إلى جدة ليعمل وكيلاً للثانوية النموذجية فيها، وبعدها صدر قرار بتعيينه مديراً لمعهد المعلمين بالرياض، ثم مديراً للتعليم بنجد، وحدث كل ذلك وهو لا يحمل أي شهادة حتى الابتدائية، لكن ذلك اعتمد على قدراته ومهاراته الإدارية وثقافته العامة وقراءاته وكتاباته الصحافية.

الراحل عبد الله العلي النعيم عمل مديراً لمعهد المعلمين في الرياض

بعد هذه المحطات درس النعيم في المعهد العلمي السعودي، ثم في جامعة الملك سعود، وتخرج فيها، وتم تعيينه أميناً عاماً مساعداً بها، حيث أراد مواصلة دراسته في الخارج، لكن انتظرته مهام في الداخل.

وتعد محطته العملية في شركة الغاز والتصنيع الأهلية، المسؤولة عن تأمين الغاز للسكان في بلاده، إحدى محطات الراحل عبد الله العلي النعيم، بعد أن صدر قرار من مجلس الوزراء بإسناد مهمة إدارة الشركة إليه عام 1947، إبان أزمة الغاز الشهيرة؛ نظراً لضعف أداء الشركة، وتمكن الراحل من إجراء حلول عاجلة لحل هذه الأزمة، بمخاطبة وزارة الدفاع لتخصيص سيارة الجيش لشحن أسطوانات الغاز من مصدرها في المنطقة الشرقية، إلى فروع الشركة في مختلف أنحاء السعودية، وإيصالها للمستهلكين، إلى أن تم إجراء تنظيمات على بنية الشركة وأعمالها.

شركة الغاز والتصنيع الأهلية تعد إحدى محطات الراحل عبد الله العلي النعيم

تولى النعيم في بدايات سنوات الطفرة أمانة مدينة الرياض، وأقر مشاريع في هذا الخصوص، منها إنشاء 10 بلديات في أحياء متفرقة من الرياض، لتسهيل حصول الناس على تراخيص البناء والمحلات التجارية والخدمات البلدية. ويحسب للراحل إقراره المكتب التنسيقي المتعلق بمشروعات الكهرباء والمياه والهاتف لخدمة المنازل والمنشآت وإيصالها إليها، كما طرح أفكاراً لإنشاء طرق سريعة في أطراف وداخل العاصمة، تولت تنفيذها وزارة المواصلات آنذاك (النقل حالياً)، كما شارك في طرح مراكز اجتماعية في العاصمة، كان أبرزها مركز الملك سلمان الاجتماعي.

تولى النعيم في بدايات سنوات الطفرة أمانة مدينة الرياض