يؤكد البروفسور جون لينهارد، الأستاذ في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (إم آي تي) الجامعة الأميركية الرائدة، ومدير «معمل عبد اللطيف جميل للأمن المائي والغذائي العالمي»: «إن العلم مكّن من تقنيات فعالة لتنقية المياه». بيد أنه يرى أنها لا تناسب المجتمعات الفقيرة من الناحيتين الاقتصادية والتقنية».
ويقدّر لينهارد، في حوار هاتفي أجرته معه «الشرق الأوسط»، بأن عدد سكان الأرض سيبلغ نحو تسعة مليارات نسمة بحلول العام 2050. أي ما يعادل ثلاثة أضعاف سكان الأرض في 1960. وريثما يأتي ذلك الحين: «سيظل مخزون الأرض من المياه المتجددة ثابتا، ولا يتناسب مع الطفرة الديموغرافية». ويضيف البروفسور أنه «من المتوقع أن يشهد العالم مزيدا من التغيرات الشديدة في المناخ»، التي ستؤثر على أنماط الإنتاج، كما سيكون وقعها أشد على الناس في دول العالم النامية. حيال ذلك، تبنّى «معمل عبد اللطيف جميل للأمن المائي والغذائي العالمي»، مهمة إيجاد حلول لهذه التحديات لضمان توافر الإمدادات الغذائية والمائية في القرن الواحد والعشرين. ويسعى «المعمل» الذي دعمه ماديا المهندس محمد عبد اللطيف جميل، إلى مساعدة الناس على التكيّف مع التغيّر السريع في بيئة كوكب الأرض، ومقاومة شحّ الموارد المائية والإمدادات الغذائية في العالم، عبر استغلال إمكانيات الجامعة العلمية والتقنية بهدف اقتراح سياسات ملائمة.
ويقول لينهارد، إن المعمل الذي ستبدأ أنشطته في سبتمبر (أيلول) 2014: «يطمح إلى تحسين ظروف عيش الناس في مختلف بقاع الأرض، وتزويدهم بالإمدادات المائية والغذائية اللازمة، بالإضافة إلى مواجهة التحديات التي تطرحها التغيرات المناخية، وظاهرة التمدين الواسعة، والنمو الديموغرافي السريع». فيما يلي نص الحوار:
* بصفتكم مدير «معمل عبد اللطيف جميل للأمن المائي والغذائي العالمي»، هل لكم أن تحدّثونا بشيء من التفصيل عن المعمل والغاية من إنشائه؟
- تهتم «إم آي تي» بالتغيرات التي يواجهها العالم من حيث النمو السكاني والتغير المناخي وتمدد العالم الحضري بجدية كبيرة، وتبحث بصفة خاصة أثر هذه التحديات على مصادر المياه والغذاء في مختلف المجتمعات. واستنادا إلى أحدث الدراسات، فإن المصادر المتجددة للمياه العذبة، الناتجة عن التساقطات المطرية والثلجية، لن تكفي لتغطية حاجات سكان الأرض في المستقبل. ذلك أن كمية الأمطار التي تهطل في العالم ثابتة، لا تزيد مع النمو الديموغرافي. ومن ناحية أخرى، من المتوقع أن يبلغ عدد سكان العالم تسعة مليارات نسمة بحلول عام 2050، بعدما كان مجرد ثلاثة مليارات نسمة عام 1960. هذا يعني أن ثلاثة أضعاف العدد يشربون من مصادر المياه المتجددة ذاتها. إن ظاهرة شحّ المياه تشمل العالم بمجتمعاته الفقيرة والغنية على السواء. ففي كل قارة هناك أقاليم تعاني من شحّ المياه، ويزداد ذلك مع تزايد عدد السكان وتغيّر الأنماط الاستهلاكية. لكن ما يجدر قوله هنا، هو أنّ هذه التحديات أشد في المجتمعات الأكثر فقرا، أو تلك المجتمعات التي لم تطور البنية التحتية المناسبة لتوزيع المياه وتنقيتها. وأحد التطورات الرئيسة هو ارتفاع ظاهرة «التمدين»، أي تنامي المدن على حساب الأرياف في أركان العالم كافّة، إذ يرتفع عدد سكان المدن بصورة مطّردة. وتقدر منظمة الأمم المتحدة أن 86 في المائة من سكان دول العالم المتقدمة، و64 في المائة من سكان الدول النامية، سيعيشون في المدن بحلول عام 2050. وتختلف تحديات توزيع المياه في المدن عنها في المناطق الريفية، وذلك بسبب الكثافة السكانية الحضرية المرتفعة واختلاف البنية التحتية وطرق توزيع المياه وغير ذلك من العوامل. عامل أساسي آخر يتمثل في التأثير المتوقع لتغير المناخ العالمي، وما ينجم عنه من ارتفاع درجات حرارة الأرض، وتغير أنماط التساقطات، وانتقال المناطق ذات النشاط الزراعي إلى خطوط العرض العليا بعيدا عن خط الاستواء. وتهدد كل هذه العوامل الأنماط الحالية للنشاط الزراعي بشكل مباشر. ومن المتوقع أن يشهد العالم أيضا، مزيدا من التغيرات الشديدة في المناخ من عواصف قوية وتصحر وغيرهما. والجدير بالذكر، أن وقع هذه العوامل يختلف باختلاف مستويات المجتمعات الاقتصادية، إذ تعد التهديدات المرتبطة بتقلبات الطقس الشديدة وتغير أنماط الإنتاج أشد على الناس في دول العالم النامية.
* هل يعني هذا أن أنشطة المعمل ستركز أكثر على دول العالم النامية؟ وإن كان الأمر كذلك، فهل تفكرون في تأسيس محطات أبحاث إقليمية؟
- تعاني الدول النامية أو التي في طريق النمو، من تحديات أشد من أمثالها من البلدان الغنية.
فيما يتعلق بتأمين المياه الصالحة للشرب مثلا، فإن الحاجة إلى تقنيات فعّالة وغير مكلفة لتنقية المياه، أشدّ في الدول النامية. ولقد مكّننا العلم اليوم من تقنيات فعالة لتنقية المياه، لكنها لا تناسب المجتمعات الفقيرة من الناحيتين الاقتصادية والتقنية لكي تتمكن من اعتمادها. أمّا بالنسبة للأمن الغذائي، فهناك عدد من القضايا التي تطرح في المجتمعات النامية. من بين أهم هذه القضايا، بحث إمكانية تطوير سلالات معينة من الأرز تكون أقدر على التكيف مع التغيرات المناخية، بحيث تتمكن المجتمعات الفقيرة من زراعة محاصيلها بإنتاجية كافية لمواجهة الزيادة السكانية والتغير المناخي.
وثمّة موضوع آخر يتعلق ببحث تقنيات لتطوير إنتاجية المزارع في المجتمعات النامية، ذلك أن هذه الأخيرة لم تستفد من التقنيات المهمة لزيادة إنتاجية الرقعة الزراعية التي توصلت إليها المجتمعات المتقدمة.
ومن ناحية أخرى، نشرت الأمم المتحدة، أخيرا، دراسات تفيد أن جزءا كبيرا من الإنتاج الغذائي يتعرض للهدر لأسباب مختلفة في المجتمعات النامية والمتقدمة. ففي البلدان النامية، عادة ما يُتلف الغذاء قبل وصوله إلى المستهلك بسبب مشاكل في سلسلة التخزين والنقل والتوزيع. أما في الدول المتقدمة، فإن 50 في المائة، حسب بعض التقديرات، من الغذاء يتعرض للتلف بدلا من الاستهلاك. ويعني هذا أن الإنتاج الغذائي يفوق حاجات سكان الأرض.
* هذه تحديات كبيرة، ولكن كيف تخططون للتوفيق بين العلم والهندسة والتخطيط الحضري والسياسة من أجل تحقيق أهداف المبادرة؟
- إنها مهمة كبيرة دون شك. ونحن نأمل أن نبدأ بالعمل على مستوى إقليمي لتحليل الآثار المحتملة للتغير المناخي في مختلف مناطق العالم، واستغلال أدوات علمية أساسية لدراسة العواقب المرتقبة للتغير المناخي ووسائل تنقية المياه والإنتاج الغذائي. وستمكننا أعمال التقييم هذه من تحديد التقنيات العلمية التي قد تلبي الاحتياجات الخاصة بكل منطقة. فقد تحتاج مناطق معينة إلى المياه النقية ووسائل للحد من التلف الغذائي، في حين تحتاج أخرى إلى إعادة استعمال المياه التالفة والاستفادة منها في الري، وربما يكون التحدي في إيجاد وسائل اقتصادية لتحلية مياه البحر والحصول على مياه صالحة للشرب.
* كيف جاءت فكرة «معمل عبد اللطيف جميل للأمن المائي والغذائي العالمي»؟ هل اقترحتم أنتم الفكرة على المهندس محمد عبد اللطيف جميل أم العكس؟
- لطالما اهتمّت الـ«إم آي تي» بمواضيع تتعلق بالبيئة والاستدامة. وسبق لي أن عملت مع البروفسور ماريا زوبير في «إم آي تي»، على مراجعة أنشطة المعهد في مجالات المياه والغذاء والمناخ، والتخطيط الحضري والتخطيط البيئي المستدام، وحدّدنا عددا من المجالات التي تتفوق فيها إمكانياتنا التقنية والعلمية لمعالجة مشاكل توفير المياه الصالحة للشرب والإنتاج الغذائي. وبناء على هذه المعلومات، نشرنا دراسة تلخص التحديات البيئية التي يواجهها سكان الأرض، وإمكانيات «إم آي تي» لمعالجتها. في وقت لاحق، التقيت بممثلين للمهندس جميل كانوا في غاية الاهتمام بأنشطة «إم آي تي»، وأخبرتهم بالجهود المبذولة في مجال المياه والغذاء. وراق ذلك للمهندس جميل وحمّسه، فقرر دعم هذا النشاط بمنحة كبيرة. ويؤمن محمد جميل بمبدأ مفاده أن المشاكل الكبيرة تتطلب حلولا شجاعة. ويعكس تاريخه، لا سيّما في المجال الخيري، هذا المبدأ، وهو يطمح إلى إيجاد حلول واسعة النطاق لتحديات كبيرة.
* ما علاقة المهندس جميل و«مبادرات عبد اللطيف جميل الاجتماعية» بالـ«إم آي تي»؟
- حصل المهندس محمد عبد اللطيف جميل على درجته الجامعية في الهندسة المدنية من جامعتنا عام 1978، وظل داعما قويا لـ«إم آي تي» منذ ذلك التاريخ. وأسّس في عام 2003 «معمل عبد اللطيف جميل لمكافحة الفقر» (بوفرتي آكشن لاب) أو (جي بال)، الذي خلق نشاطا أعده ناجحا للغاية، وفضلا عن ذلك، دعم محمد عبد اللطيف جميل بعض البرامج الأخرى في الجامعة. وهو يرغب في دفع برنامج «المعمل» إلى الأمام.
* ما هو أثر «معمل الأمن المائي والغذائي العالمي» على التعاون العلمي بين أقسام الأبحاث في الـ«إم آي تي» ومراكز الأبحاث بالسعودية والعالم العربي بصفة عامة؟ وفي هذا الصدد هل لديكم، أو أي من أعضاء مجلس الإدارة، نية افتتاح مركز أو قسم في الشرق الأوسط؟
- تتمتع الـ«إم آي تي» بروابط عميقة وراسخة في منطقة الخليج العربي، ومع الجامعات السعودية على وجه الخصوص. وأنا شخصيا، أدير، حاليا، ومنذ السنوات الثماني الماضية، برنامج التعاون مع جامعة الملك فهد للبترول والمعادن في الظهران. كما زرت برفقة عشرين من زملائي من الـ«إم آي تي»، مدينة الظهران مرارا، في إطار هذا البرنامج. وحقق التعاون مع جامعة الملك فهد للبترول والمعادن نجاحا فائقا، وأثمر عن مطبوعات مشتركة عدة، والكثير من الأفكار التي أدّت إلى إنشاء شركات عدّة. ثم إنّه لدينا صلات بمدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتكنولوجيا، وكذلك بجامعة الملك عبد الله للعلوم والتكنولوجيا. علاوة على ذلك، تحظى الـ«إم آي تي» بعلاقة تعاون وطيدة للغاية مع شركة أرامكو السعودية.
أما بالنسبة لمنطقة الخليج بصفة عامة، فإنه لـ«إم آي تي» دورا بارزا في معهد «مصدر» للعلوم والتكنولوجيا في أبوظبي. كما تجمعنا برامج طويلة الأمد مع مؤسسة الكويت للتقدم العلمي، التي تنشط في مجال المياه والبيئة وغيرها من المجالات، ولدينا شراكة أيضا مع مؤسسة قطر.
وآمل حقا أن يوجّه بعض جهد المعمل إلى تحديّات الأمن المائي والغذائي التي تواجه دول الخليج. وتواصلنا في هذا الإطار مع الكثير من شركائنا في منطقة الخليج، ونتوقع أن نشهد نمو التعاون بينهم وبين «المعمل».
* أعلنت الـ«إم آي تي» عن انطلاق مبادرة أوسع تتعلق بمنحة المهندس محمد عبد اللطيف جميل بشأن البيئة. هل لكم أن تذكروا لنا المزيد عنها؟
- بالتأكيد، أعلنت الـ«إم آي تي» عن مبادرة جديدة تتعلق بالبيئة، سترأسها البروفسورة سوزان سولومون، التي ترأس الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ. وستبحث هذه المبادرة عن كثب، قضايا بيئية كثيرة، منها التغير المناخي. وسيستفيد «معمل عبد اللطيف جميل للأمن المائي والغذائي العالمي» بشكل مباشر من الأفكار النابعة من المبادرة البيئية وأساسها العلمي. وفي الواقع، المبادرتان مرتبطتان وتكمل إحداهما الأخرى. كذلك فإن المبادرة البيئية ستدعم عمل «معمل عبد اللطيف جميل للأمن المائي والغذائي العالمي»، كما سيطبق «المعمل» أفكار المبادرة بصورة مباشرة من أجل حل مشاكل العالم.
* هل تطمحون إلى إنشاء رابطة لخريجي الـ«إم آي تي» في منطقة الشرق الأوسط أسوة بالشبكة العربية لخريجي جامعة هارفارد، الجامعة المجاورة لكم في ضاحية كمبردج؟
- لـ«إم آي تي» شبكات خرّيجين في بلدان عدة، وتشمل تلك الشبكات الشرق الأوسط. ولدينا على سبيل المثال، تجمع نشط للغاية في السعودية يدعى النادي السعودي لمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، ويرأسه محمد بكر. ونحن نهدف بالتأكيد، إلى إشراك خريجينا في المنطقة في أنشطتنا، لا سيما تلك المتعلقة بـ«المعمل».
* برأيكم، ما هو أهم إنجاز لـ«إم آي تي» كمؤسسة وكجامعة؟
- لقد أصبحت الـ«إم آي تي» وسيلة للابتكار والإبداع في العالم. لقد أتينا بتقنيات وأفكار علمية جديدة، ونشرناها لنحقق أثرا في العالم المحيط بنا. وشعارنا في الـ«إم آي تي» هو «منز إيه مانوس»، أي «العقل والأيادي»، وتعكس إنجازاتنا هذا الشعار. كما أن خريجي جامعتنا أسسوا ستة وعشرين ألف شركة في مختلف بقاع العالم. وتوظّف هذه الشركات مجتمعة ثلاثة مليارات شخص حول العالم، ويبلغ دخلها السنوي ثلاثة تريليونات دولار أميركي. ويلخص هذا بصمتنا في المجالات التقنية والاقتصادية.
أما بالنّسبة للناحية العلمية، فلقد حققنا تطورات كثيرة وكبيرة وإنجازات علمية جديدة. في علم الكونيات مثلا، تمكن عدد من العلماء من إثبات نظرية زميلي آلان غوث، حول توسع الكون تجريبيا، التي تمنحنا فهما أساسيا لطبيعة العالم الذي نعيش فيه.
* معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، جامعة خاصة تأسست عام 1861. وتصنّف ضمن أرقى جامعات العالم وأقواها أكاديميا، وأكثرها انتقائية وأغزرها أبحاثا. ركّزت الجامعة، وهي مؤسّسة تعليمية لا ربحية، أنشطتها أساسا، على البحث العلمي في مجالات العلوم والتقنية وتطبيقاتها العملية، قبل أن تتوسّع، في العقود الأخيرة، في تغطية مجالات علمية أخرى، كالسياسة والإدارة. وتنشط الجامعة في نشر المعرفة على نطاق واسع، من خلال مبادرات تشمل تأسيس مراكز بحث ومختبرات علمية في مختلف أرجاء العالم، وتوفير مناهجها الدراسية مجّانا، على موقعها الإلكتروني ليتصفّحها طالبو العلم كافة.
جدير بالذكر، أن الجامعة خرّجت ما لا يقل عن 81 حائزا على جوائز نوبل في مختلف المجالات، فضلا عن عدد كبير من صناع القرار والعلماء، يذكر منهم: د. أحمد عبد الهادي الجلبي، السياسي ورجل الأعمال والأكاديمي العراقي، والوزيران المصريان يوسف بطرس غالي ورشيد محمد رشيد، وكذلك د. علي أكبر صالحي، ومحمد علي نجفی الإيرانيان. ورئيس مجلس الاحتياط الفيدرالي الأميركي بن بيرنانكي، ووزير الخارجية الأميركي الأسبق جورج شولتز، ووزير الخارجية البريطاني السابق ديفيد ميلباند، والأمين العام السابع للأُمم المتحدة كوفي أنان، وغيرهم من الشخصيات السياسية والعلمية، ومئات رجال الأعمال الذين تركوا بصماتهم على منجزات كبرى.