غموض وترقب في زيمبابوي بعد يومين من سيطرة الجيش على الحكم

موغابي يعوق تقدم الجيش نحو «مرحلة انتقالية» ويصر على أنه الرئيس الشرعي

مدرعة وسط هراري (إ.ب.أ)
مدرعة وسط هراري (إ.ب.أ)
TT

غموض وترقب في زيمبابوي بعد يومين من سيطرة الجيش على الحكم

مدرعة وسط هراري (إ.ب.أ)
مدرعة وسط هراري (إ.ب.أ)

بدت الحياة طبيعية في مدينة هراري، عاصمة زيمبابوي، رغم مرور يومين على سيطرة الجيش على مقاليد الحكم في تحرك رَفض وصفه بـ«الانقلاب»، مع أنه يحمل جميع صفات الانقلابات، خصوصا أن الرئيس روبرت موغابي، الموضوع تحت الإقامة الجبرية، رفض تقديم استقالته متمسكاً بأنه «الرئيس الشرعي».
ويمر الوقت ببطء في زيمبابوي، وسط حالة من الترقب خشية انفجار الوضع في أي لحظة، ليتجدد موعد البلاد مع الفوضى، وهي التي شهدت قبل أقل من 10 سنوات (2008) صراعاً دموياً خلف آلاف القتلى، إثر انتخابات رئاسية كانت الغلبة فيها لمن يملك السلاح؛ أي موغابي ورفاقه في الجيش.
موغابي الذي حكم زيمبابوي منذ استقلالها عن بريطانيا عام 1980، ظل يعتمد في إطالة حكمه على الجيش؛ المؤسسة الوفية له بوصفه أحد قادة حرب التحرير، تلك الحرب التي يتحكم زعماؤها السابقون في مفاصل الدولة. ولكن قادة الجيش رفضوا أن يتحول رفيق السلاح إلى لعبة في يد زوجته الطموح، التي كانت ترغب في خلافته خلال الانتخابات الرئاسية المنتظرة بعد أشهر قليلة (عام 2018)، وقد قطعت خطوات كبيرة في ذلك الاتجاه بدعم من جناح قوي من الحزب الحاكم يحمل اسم «جي40»؛ أي «جيل الأربعين»، في إشارة إلى الفئة العمرية لقادة الجناح.
ويقدم جناح «جي40» نفسه على أنه جناح سياسي شاب، يحمل رؤية جديدة لتسيير البلاد، مخالفة للسياسات التي يتبناها «المحاربون القدماء»، مع أنهم جزء من نظام يحكمه أكبر هؤلاء المحاربين سناً، ويريدون الوصول إلى الحكم عن طريق «المحارب المريض» نفسه.
اليوم يحاول الجيش أن يحدث تغييراً في منصب الرئيس من دون أن يكون ذلك تغييراً لنظام الحكم، وقد أكد ذلك حين رفض وصف ما جرى بأنه «انقلاب»، مكتفياً بالقول إن الهدف هو القضاء على من وصفهم بـ«المجرمين» المحيطين بالرئيس، في إشارة واضحة إلى جناح «جي40».
وتقوم خطة الجيش على فكرة إقناع موغابي بتقديم استقالته عبر بيان يتلوه في التلفزيون الرسمي، وقد نقلت «رويترز» عن مصدر في المخابرات أن موغابي «يصر على أنه الحاكم الشرعي الوحيد لزيمبابوي»، ويرفض وساطة يقوم بها قس كاثوليكي تمنحه فرصة الخروج من السلطة بهدوء وكرامة.
وقال مصدر سياسي إن القس فيديليس موكونوري يتوسط بين موغابي وجنرالات الجيش، في إطار مساع لنقل السلطة بطريقة سلسة وسلمية، ومن المعروف أن موغابي يكن احتراماً كبيراً لرجال الدين، وهو مسيحي كاثوليكي ملتزم.
وأمام إصرار موغابي على عدم الاستقالة، يجد قادة الجيش أنفسهم في مواجهة مع عدوهم الأول وهو «الوقت»؛ إذ إن كل يوم يضيع من دون استقالة الرئيس وإعلان ملامح المرحلة المقبلة، يهدد زيمبابوي بالانزلاق نحو الفوضى والصراع المسلح.
وفي انتظار أن يلقي الرئيس موغابي بيان استقالته، يعيد التلفزيون الرسمي بث صور تاريخية من «حرب التحرير»، وأمجاد الجيش والعسكريين الذين أنقذوا البلاد من قبضة الاستعمار، في استحضار واضح للتحرير الذي كان يشكل ركناً متيناً بنى عليه موغابي حكمه الذي استمر لقرابة 4 عقود، ولكن «التحرير» نفسه يستخدم اليوم من طرف رفاقه لإطاحته.
ولكن إطاحة موغابي لا تبدو سهلة، خصوصا بعد أن اكتشف قوة الشرعية التي يمتلكها، والتي لا يرغب الجيش في تجاوزها حتى لا يوصف ما قام به بأنه «انقلاب»، فالجيش لم يحل البرلمان، ولكنه حاصره، ولم يُقل الحكومة، ولكنه اعتقل بعض أفرادها، وحتى موغابي ما زال يحمل صفة الرئيس، ولكنه قيد الإقامة الجبرية ويضغط عليه للاستقالة.
ويسعى الجيش بعد استقالة موغابي إلى تنظيم «مرحلة انتقالية» تشرف على تنظيم انتخابات رئاسية استثنائية، ولكن كل ذلك تحت وصاية مباشرة من الجيش. وتشير المصادر في هراري إلى أن نائب الرئيس الذي تمت إقالته الأسبوع الماضي إيمرسون منانغاغوا هو من سيتولى تسيير المرحلة الانتقالية، وليس من المستبعد أن يترشح للانتخابات الرئاسية ويفوز بها.
ويقود منانغاغوا جناحاً قوياً في الحزب الحاكم، ويحظى بدعم من قادة الجيش، بوصفه أحد قادة حرب التحرير؛ خاضها إلى جانب موغابي، وظل حتى وقت قريب يقدم على أنه الخليفة المحتمل له في الرئاسة، ولكن السيدة الأولى وجناحها «جي40» المدعوم من طرف الشرطة والمخابرات، تمكنا من إقالته وإزاحته عن المشهد الأسبوع الماضي في خطوة أدخلت البلاد في أزمة عاد خلالها منانغاغوا على ظهر دبابة الجيش.
منانغاغوا، الذي أكدت المصادر أنه وضع قبل عام رؤية لمرحلة ما بعد موغابي، بالتنسيق مع الجيش والمعارضة، يعيش منذ يومين كرئيس للبلاد، وقد نقل شهود عيان في منطقة راقية بالعاصمة هراري أن زحمة كبيرة من السيارات شوهدت أمس (الخميس) أمام مقر تابع للحزب الحاكم، وأنهم أنصار منانغاغوا من أعضاء الحزب يتزاحمون للمشاركة في سلسلة اجتماعات لرسم ملامح المرحلة المقبلة، وتبدو علامات الفرح والانتصار على وجوههم.
من جهة أخرى، كانت الحياة شبه طبيعية في بقية أنحاء العاصمة هراري؛ حركة السير طبيعية، والمؤسسات تعمل، وحركة المواصلات شبه عادية، وحدها الطوابير أمام البنوك زادت حدتها، فأعداد كبيرة من المواطنين ترغب في سحب ما أمكن من عملة صعبة، وهو مشهد يتكرر كثيراً في زيمبابوي بسبب ضعف العملة المحلية وهشاشة الاقتصاد، ولكنه تفاقم خلال اليومين الماضيين.
الجنود الذين ينتشرون في مختلف مناطق المدينة، في مظهر من مظاهر القلق الذي تعيشه هراري، يحاولون بكل ما أمكن إقناع السكان بأن الوضع طبيعي، بل إنهم أوقفوا عرباتهم المدرعة ومركباتهم المصفحة بطريقة لا تزعج المارين ولا تعوق حركة السير، ولكن مع الاحتفاظ في الوقت نفسه بمظهر عسكري في المدينة.
وحدها البنايات الرسمية مطوقة من طرف هؤلاء الجنود ولا يمكن الدخول إليها، من ضمنها مبنى البرلمان وبعض الوزارات، بالإضافة إلى حي الشرطة ومقرات المخابرات، وهما جهازان مواليان لجناح «جي40» الداعم للسيدة الأولى، ومن الملاحظ أن الشرطة قد اختفت بشكل تام.
على المستوى الشعبي، لم يُبد المواطنون في زيمبابوي اهتماماً كبيراً بالتطورات الأخيرة، فلا هم احتفلوا بما يمكن أن يكون إطاحة الحكم، كما لم يساندوا رئيسهم المحتجز في الإقامة الجبرية، وعلى الرغم من تطلعهم نحو التغيير، فإن بعض الناشطين الشباب في زيمبابوي وصفوا ما جرى في تدوينات على مواقع التواصل الاجتماعي، بأنه «مجرد صراع داخل أروقة الحزب الحاكم»، ولم يعربوا عن الأمل في أن يسفر عن خطوات كبيرة نحو الديمقراطية.



للمرة الأولى منذ عقود... مقاتلات فرنسا تغادر سماء تشاد

جنود فرنسيون يودعون أقرانهم التشاديين خلال مغادرة المقاتلات الفرنسية الثلاثاء (الجيش الفرنسي)
جنود فرنسيون يودعون أقرانهم التشاديين خلال مغادرة المقاتلات الفرنسية الثلاثاء (الجيش الفرنسي)
TT

للمرة الأولى منذ عقود... مقاتلات فرنسا تغادر سماء تشاد

جنود فرنسيون يودعون أقرانهم التشاديين خلال مغادرة المقاتلات الفرنسية الثلاثاء (الجيش الفرنسي)
جنود فرنسيون يودعون أقرانهم التشاديين خلال مغادرة المقاتلات الفرنسية الثلاثاء (الجيش الفرنسي)

سحب الفرنسيون من تشاد، الثلاثاء، مقاتلات عسكرية من طراز «ميراج 2000»، ليصبح البلد الأفريقي مترامي الأطراف والحبيس في قلب القارة السمراء، خالياً من أي مقاتلات فرنسية لأول مرة منذ أن نال استقلاله عن باريس قبل 6 عقود.

اليوم، أصبحت سماء تشاد هادئة من أزيز «الميراج» الفرنسية، وأغمضت العين الفرنسية التي ظلّت لعقود طويلة رقيباً لا يغفل على أرض تشاد الشاسعة، الممتدة من صحراء أوزو الحارقة شمالاً، وصولاً إلى أحواض بحيرة تشاد الرطبة في أقاصي الجنوب.

الطائرة التي تُمثّل فخر الصناعة العسكرية الفرنسية، ظلّت لسنوات طويلة صاحبة الكلمة الأولى في السماء التشادية، والسلاح الحاسم الذي تدخّل لقلب موازين السياسة أكثر من مرة، خصوصاً حين حاصر المتمردون القادمون من الشمال الرئيسَ الراحل إدريس ديبي في 2006 و2019.

بداية الرحيل

طائرة «ميراج» فرنسية وهي تغادر قاعدة «غوسي» التشادية الثلاثاء (الجيش الفرنسي)

في حدود منتصف نهار الثلاثاء، كان الجنود الفرنسيون في قاعدة «غوسي» العسكرية في عاصمة تشاد إنجامينا، يتبادلون الابتسامات الباهتة مع أقرانهم التشاديين، فطغت على أجواء الوداع حميمية مصطنعة، وهم يستعدون لركوب طائرات «الميراج»، في رحلة ذهاب دون عودة، نحو فرنسا.

رفع الطيار العسكري الفرنسي يده بتحية عسكرية صارمة، من وراء زجاج طائرته النفاثة، وألقى نظرة أخيرة، ثم حلّق عالياً لتكون بذلك بداية انسحاب فرنسي من بلد دخله أجداده مستعمرين مطلع القرن العشرين، أي قبل 120 عاماً.

الجيش الفرنسي قال في بيان مقتضب تعليقاً على سحب طائراته العسكرية، إن القرار جاء بعد أن قررت تشاد إنهاء العمل باتفاقية التعاون الأمني والعسكري مع فرنسا، يوم 28 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي. وأضاف أن «وجود هذه الطائرات كان تلبية لحاجة سبق أن عبّر عنها الشريك (التشادي)».

فيما قال مصدر فرنسي إن وجود المقاتلات الفرنسية في تشاد لم يعُد مبرّراً بعد إنهاء التعاون العسكري بين البلدين، وأضاف أن «فرنسا تنهي نشر مقاتلاتها في قاعدة (غوسي) الجوية في إنجامينا. والجيش الفرنسي اتخذ قراراً بسحب طائراته الحربية».

رحيل تدريجي

وزير خارجية تشاد، عبد الرحمن كليم الله، نشر تغريدة مقتضبة على موقع «إكس»، قال فيها: «إنه بعد الانسحاب النهائي لمقاتلات (الميراج) الفرنسية وطائرة الدعم والإسناد، نفذت المرحلة الأولى من سحب القوات الفرنسية في تشاد».

كما نشرت الخارجية التشادية بياناً قالت فيه: «إن هذا الحدث يُمثل خطوة كبيرة في تنفيذ الجدول الزمني المتفق عليه بين الطرفين» بخصوص مغادرة القوات الفرنسية، قبل أن تشير إلى أنه «سيتم الترحيل التدريجي للقوات البرية خلال الأسابيع المقبلة».

ويوجد في تشاد نحو ألف جندي فرنسي، كانوا موجودين بموجب اتفاق تعاون عسكري موقع منذ عقود، وجرى تجديده عام 2019، ولكن تشاد قررت الشهر الماضي أن تنهيه من جانب واحد من أجل «تجسيد السيادة» على أراضيها.

وفي هذا السياق، قالت الخارجية التشادية إن الشعب التشادي «يتطلّع إلى مستقبل تحظى فيه السيادة الوطنية بالاحترام الكامل، وتتولى فيه القوات المسلحة الوطنية بشرف وكفاءة الدفاع عن أراضيها وأمن مواطنيها».

ولكنها في الوقت نفسه، شدّدت على «فكّ الارتباط (مع فرنسا) يتم بروح من الاحترام المتبادل والحوار البنّاء للحفاظ على العلاقات الثنائية بين تشاد وفرنسا في المجالات الاستراتيجية الأخرى ذات الاهتمام المشترك».

لجنة مشتركة

جنديان تشاديان خلال مناورات مع سلاح الجو الفرنسي (أرشيف الجيش الفرنسي)

ورغم أن البلدين لم يُعلنا أي تفاصيل حول الجدول الزمني لسحب القوات الفرنسية، فإن المصادر تؤكد تشكيل «لجنة مشتركة» تتولّى الإشراف على العملية، وقد عقدت هذه اللجنة اجتماعها الأول يوم الجمعة الماضي، دون إعطاء أي تفاصيل.

في هذه الأثناء، وصفت صحف فرنسية واسعة الانتشار من بينها «لوموند» ما يجري بأنه «صفعة موجعة» تتلقّاها فرنسا في بلد ظلّ لعقود يمثل حليفاً استراتيجياً في أفريقيا، واليوم يُعدّ آخر مركز نفوذ لفرنسا في منطقة الساحل الأفريقي، حيث سبق أن انسحبت القوات الفرنسية من مالي وبوركينا فاسو والنيجر.

ويصر الفرنسيون على أن ما يحدث في تشاد مختلف عما جرى في دول الساحل الأخرى؛ حيث وقعت قطيعة تامة مع باريس.

ويقول مصدر وصفه الإعلام الفرنسي بأنه قريب من الملف: «إن التشاديين لم يطلبوا سحب القوات بشكل فوري، وبهذه السرعة»، وأضاف: «نحن من أراد التحكم في الانسحاب» تفادياً لأي مفاجآت.