ثنائية المرأة والرجل واستنطاق التاريخ

في معرض لجمعية الفنانين التشكيليين العراقيين بلندن

«حلم وأمل» لراجحة القدسي  -  «ثوْران من نينوى» لمخلد المختار
«حلم وأمل» لراجحة القدسي - «ثوْران من نينوى» لمخلد المختار
TT

ثنائية المرأة والرجل واستنطاق التاريخ

«حلم وأمل» لراجحة القدسي  -  «ثوْران من نينوى» لمخلد المختار
«حلم وأمل» لراجحة القدسي - «ثوْران من نينوى» لمخلد المختار

نظّمت جمعية الفنانين التشكيليين في المملكة المتحدة معرضها السنوي الثامن، الذي انضوى تحت عنوان «تون»، وقد شارك فيه 16 فناناً عراقياً، من بينهم بتول الفكيكي، هاني مظهر، راجحة القدسي، مخلّد المختار، وآخرون سنأتي على ذكرهم ضمن ثيمات المعرض الأساسية التي تنوعت بحسب الأشكال، والتقنيات، والمقاربات الفنية للرسّامين والنحّاتين الذين ساهموا في هذا المعرض الذي يشكِّل في أقل تقدير آصرة تجمع بين فناني الداخل والخارج الذين يسعون لتقديم منجزهم الإبداعي إلى المُشاهد الكوزموبوليتاني الذي يستمتع بالعمل الفني بصفته خطاباً بصرياً يتجاوز الحدود المحلية والقومية؛ لأن مفرداته ولغته كونية بامتياز، وتعتمد كثيراً في آلية التلقّي والاستيعاب على المشاعر والأحاسيس الداخلية لمحبّي الفنون التشكيلية برمتها، خصوصاً إذا وضعنا المُشاهد في مواجهة العمل الفني من دون الاستعانة بوسيط قد يوضح له التباس القصد، ويفكك بعض الرموز المُستعصية التي تدخل ضمن أنساق السطح التصويري.
لا يتمحور المعرض على ثيمة محددة، ويبدو أن الفنانين جميعهم قد أرسلوا ما تيسّر لهم من أعمال فنية فأصبح المعرض خليطاً متنوعاً يضم اللوحة، والمنحوتة، والفوتوغراف، والعمل التركيبي في آنٍ معاً، فلا مفرّ من تصنيف هذه الأعمال الفنية المتنوعة بحسب موضوعاتها كي نُذلل قدر الإمكان صعوبة فهمها بعيداً عن التنظيرات المُقعّرة التي قد تتعالى على القارئ؛ لأنها تنطلق من برج عاجي لا يلامس الواقع، ولا يفضِّل الاحتكاك به بحجة التخصص الدقيق، أو الانتماء إلى حلقات إبداعية ضيقة لا تسمح لكل من هبّ ودب أن يلج دوائرها الضوئية الملونة. وعلى الرغم من تنوّع الموضوعات واختلافها، فإن البعض منها قد تناغم في ثلاثة محاور رئيسية، وهي ثنائية المرأة والرجل التي نجدها عند بتول الفكيكي، وهاني مظهر، وصادق طعمة، والمفردة التاريخية التي تحتفي بها لوحة مخلّد المُختار، ورائد هوبي، وباسم مهدي، والأعمال النحتية التركيبية التي جسّدها جلال علوان، ورشاد سليم، أما الأعمال الأخرى للفنانين الثمانية فيمكن أن تُدرس خارج إطار هذه المحاور الثلاثة على وفق موضوعاتها، وتقنياتها، ومقارباتها الفنية التي تكشف جانباً من الرؤية الإبداعية للفنانين، سواء المرابطون منهم داخل العراق أو الموزعون في المنافي العربية والأوروبية.
انهمكت الفنانة بتول الفكيكي بثنائية المرأة والرجل، وغاصت في تجليات الروح والجسد، ولعلها ذهبت أبعد من ذلك حينما حاولت الإمساك بالأطياف البشرية التي تخبئ وراءها صوت الفنانة الذي يبوح بجرأة نادرة لا تعرف الخوف أو الوجل. تحضر المفردة الأسطورية في لوحة الفكيكي، فلا غرابة أن تستدعي عشتار وتموز في هذا العمل، وتحركهما في نسيج النص البصري وبنيته الداخلية العميقة بحيث يبدوان ككائنين مرسومين بخطوط طرية ومرنة رغم مرجعيتهما النحتية التي تمجِّد المنحيين التشخيصي والتعبيري، إضافة إلى النفَس التزييني الذي يحتل مساحة كبيرة من المعالم الخارجية للشخصيتين الأسطوريتين اللتين تعيشان في الذاكرة الجمعية للناس.
يتسيّد الهاجس اللوني في لوحة «تفاحة» للفنان هاني مظهر الذي اشتغل هو الآخر على ثنائية المرأة والرجل، لكن لوحته المدروسة تحيل إلى الجانب الحُلُمي أكثر من إحالتها إلى الواقع الملموس الذي عاشه الفنان بكل تفاصيله الصغيرة. وإذا كان الرجل يحمل بعض مواصفات الفنان، فإن المرأة تذكِّرنا بطيف من النساء اللواتي مررن به في شريط حياته العاطفية غير المسكوت عنها.
ربما تكون لوحة «على ضوء الشمعة» لصادق طعمة هي الأكثر دفئاً وحميمية ليس لجهة التضامّ، وإنما بسبب المنحى الكرنفالي المبهج الذي يحيط بهذه اللحظة العاطفية المتوهجة التي جسّدتها مجموعة من الألوان الشرقية الحارة التي لم يتخلَ عنها الفنان رغم غربته الطويلة المعتّقة.
لا ينفع الرمز سواء أكان إحالة شعبية أم أسطورية أم تاريخية ما لم يُفعّل في ثيمة العمل الفني وتكوينه المعماري، وهذا ما نجح فيه الفنان مخلّد المختار في لوحة «ثوْران من نينوى»، فهو يستنطق التاريخ بقوّة بعد أن يُوقد فيه شرارة الحاضر في علاقة تفاعلية لا تُخطئها العين الخبيرة. ولعل الأمر نفسه ينطبق على الفنان رائد هوبي الذي خصّ المعرض بلوحتين مريحتين بصرياً، ومشحونتين بالإحالة التاريخية المتفردة.
أما الفنان باسم مهدي فقد اشترك بلوحة «عودة طروادة» التي تعود وقائعها إلى القرن الثالث عشر ق.م، وتُذكّر القارئ دائماً بخدعة الحرب، حيث اختبأ الجنود الإسبرطيون في الحصان الخشبي الذي قدّموه لأهل طروادة وزعموا الانسحاب من مشارف المدينة المُحاصرة، لكن المقاتلين المختبئين في جوف الحصان خرجوا في الليل وأمعنوا في قتل الناس، ونهب أموالهم، واستعباد أطفالهم ونسائهم. قد تكون هذه الحكاية معروفة تاريخياً، لكن الفنان فعّلها بطريقة مختلفة ووظف الجسد الأنثوي الناعم في هذه الخديعة الجديدة من جهة، وسلّط الضوء على السلام الورقي الذي قدّموه لنا في خاتمة المطاف. لا يقتصر نجاح اللوحة على تفعيل الرمز القديم وشحنه بمدلولات جديدة، وإنما الاشتغال على خلفية اللوحة الذي صعّد العمل درامياً، وجسّد التوازن في ثنائية الضوء والظل.
يأخذ المحور الثالث بُعداً تاريخياً وتراثياً في آنٍ معاً، حيث تُحيلنا منحوتة «قارب الشمس» للنحّات جلال علوان إلى «سفينة خوفو» التي نقلت جثمان الفرعون إلى وادي الملوك الواقع في الجانب الآخر من النيل، حيث استعمل الفنان الملاعق التي تُشبه مجاديف القارب التي تذكِّر بالهجرة والنجاة من المخاطر، وتذهب أبعد من ذلك في تعاطيها مع فكرة الحياة بعد الموت وإمكانية التشبث بهذا الأمل مهما كان ضعيفاً أو غير قابل للتصديق. أما العمل الثاني الذي يجب أن يُنظر إليه كوحدة واحدة تجمع بين منحوتة خشبية أنيقة أسماها الفنان رشاد سليم «ساند النوى»، وبين الدراسة الورقية المقرنصة التي تمثل الشكل الكروي للعالم.
تُذكِّرنا الفنانة راجحة القدسي بلوحات مودلياني وبخاصة استطالات الأعناق والأنوف، كما أنها تحيلنا إلى موضوعاتها الأثيرة التي تهيمن عليها الفيكَرات النسائية المرسومة بخطوط رشيقة تؤشر على حرفيتها المطلقة في تجسيد الثيمة على قماشة اللوحة. أما لوحة سلمى الخوري فتقتصر على رصد معاناة الأطفال والنساء في المجتمع العراقي، لكن مفرداتها متقنة وهي تجسد انطباعاتها ومشاعرها الداخلية المرهفة. وفي السياق ذاته يمكن الإشارة إلى تقنية لوحة «قسوة الحرب» لمريوان جلال وثيمتها الإشكالية التي تحتاج إلى إضاءة تفسّر بنيتها الداخلية المكونة من طبقات متعددة تشير بوضوح إلى قساوة فعل الحرب ووحشيتها.
يعيدنا الفنان إبراهيم العبدلي إلى الطبيعة التي ما عادت تشغل الفنان التشكيلي العراقي الذي وجد ضالته في المدارس الفنية الحديثة كالتعبيرية، والتجريد، والرسم الهندسي. أما الفوتوغراف حسين السكافي فقد انتقل من الصورة إلى فضاء التشكيل بخطوة فنية مطروقة سلفاً تحيل مباشرة إلى تجارب الكثير من رموز الفوتوغراف في أوروبا الشرقية. تجدر الإشارة إلى أهمية التكوين في العمل السيراميكي «طائر»، الذي يتميز بلمسته الفنية الواضحة التي تكشف عن قدرة الفنان على تطويع المادة النحتية في لحظات الخلق والتشكيل. بينما يبرع رائد الراوي في تمويه عمله التشخيصي وتغشيته بغلالة ضبابية، حيث يتماهى المسافر مع موسيقاه الحالمة. أما مسك الختام فهي لوحة «امرأة في الأحمر» التي تذكرنا بعفوية جاكسون بولوك ولا تحيل إليه مباشرة.



رحيل عبد الله النعيم... المعلم والمهندس قبل أن يحمل الابتدائية

الراحل عبد الله العلي النعيم
الراحل عبد الله العلي النعيم
TT

رحيل عبد الله النعيم... المعلم والمهندس قبل أن يحمل الابتدائية

الراحل عبد الله العلي النعيم
الراحل عبد الله العلي النعيم

محطات كثيرة ولافتة وعجيبة شكلت حياة عبد الله العلي النعيم، الذي رحل، الأحد، بعد رحلة طويلة في هذه الحياة تجاوزت تسعة عقود، كان أبرزها توليه منصب أمين مدينة الرياض في بدايات سنوات الطفرة وحركة الإعمار التي شهدتها معظم المناطق السعودية، وسبقتها أعمال ومناصب أخرى لا تعتمد على الشهادات التي يحملها، بل تعتمد على قدرات ومهنية خاصة تؤهله لإدارة وإنجاز المهام الموكلة إليه.

ولد الراحل النعيم في مدينة عنيزة بمنطقة القصيم وسط السعودية عام 1930، والتحق بالكتاتيب وحلقات التعلم في المساجد قبل إقرار المدارس النظامية، وأظهر نبوغاً مبكراً في صغره، حيث تتداول قصة عن تفوقه، عندما أجرى معلمه العالم عبد الرحمن السعدي في مدرسته بأحد مساجد عنيزة مسابقة لحفظ نص لغوي أو فقهي، وخصص المعلم جائزة بمبلغ 100 ريال لمن يستطيع ذلك، وتمكن النعيم من بين الطلاب من فعل ذلك وحصل على المبلغ، وهو رقم كبير في وقته يعادل أجر عامل لمدة أشهر.

محطات كثيرة ولافتة وعجيبة شكلت حياة عبد الله العلي النعيم

توجه الشاب النعيم إلى مكة بوصفها محطة أولى بعد خروجه من عنيزة طلباً للرزق وتحسين الحال، لكنه لم يجد عملاً، فآثر الذهاب إلى المنطقة الشرقية من بلاده حيث تتواجد شركة «أرامكو» ومشاريعها الكبرى، وتوفّر فرص العمل برواتب مجزية، لكنه لم يذهب للشركة العملاقة مباشرة، والتمس عملاً في إحدى محطات الوقود، إلى أن وجد عملاً في مشروع خط التابلاين التابع لشركة «أرامكو» بمرتب مجز، وظل يعمل لمدة ثلاث سنوات ليعود إلى مسقط رأسه عنيزة ويعمل معلماً في إحدى مدارسها، ثم مراقباً في المعهد العلمي بها، وينتقل إلى جدة ليعمل وكيلاً للثانوية النموذجية فيها، وبعدها صدر قرار بتعيينه مديراً لمعهد المعلمين بالرياض، ثم مديراً للتعليم بنجد، وحدث كل ذلك وهو لا يحمل أي شهادة حتى الابتدائية، لكن ذلك اعتمد على قدراته ومهاراته الإدارية وثقافته العامة وقراءاته وكتاباته الصحافية.

الراحل عبد الله العلي النعيم عمل مديراً لمعهد المعلمين في الرياض

بعد هذه المحطات درس النعيم في المعهد العلمي السعودي، ثم في جامعة الملك سعود، وتخرج فيها، وتم تعيينه أميناً عاماً مساعداً بها، حيث أراد مواصلة دراسته في الخارج، لكن انتظرته مهام في الداخل.

وتعد محطته العملية في شركة الغاز والتصنيع الأهلية، المسؤولة عن تأمين الغاز للسكان في بلاده، إحدى محطات الراحل عبد الله العلي النعيم، بعد أن صدر قرار من مجلس الوزراء بإسناد مهمة إدارة الشركة إليه عام 1947، إبان أزمة الغاز الشهيرة؛ نظراً لضعف أداء الشركة، وتمكن الراحل من إجراء حلول عاجلة لحل هذه الأزمة، بمخاطبة وزارة الدفاع لتخصيص سيارة الجيش لشحن أسطوانات الغاز من مصدرها في المنطقة الشرقية، إلى فروع الشركة في مختلف أنحاء السعودية، وإيصالها للمستهلكين، إلى أن تم إجراء تنظيمات على بنية الشركة وأعمالها.

شركة الغاز والتصنيع الأهلية تعد إحدى محطات الراحل عبد الله العلي النعيم

تولى النعيم في بدايات سنوات الطفرة أمانة مدينة الرياض، وأقر مشاريع في هذا الخصوص، منها إنشاء 10 بلديات في أحياء متفرقة من الرياض، لتسهيل حصول الناس على تراخيص البناء والمحلات التجارية والخدمات البلدية. ويحسب للراحل إقراره المكتب التنسيقي المتعلق بمشروعات الكهرباء والمياه والهاتف لخدمة المنازل والمنشآت وإيصالها إليها، كما طرح أفكاراً لإنشاء طرق سريعة في أطراف وداخل العاصمة، تولت تنفيذها وزارة المواصلات آنذاك (النقل حالياً)، كما شارك في طرح مراكز اجتماعية في العاصمة، كان أبرزها مركز الملك سلمان الاجتماعي.

تولى النعيم في بدايات سنوات الطفرة أمانة مدينة الرياض