يؤكد عمار علي حسن، أستاذ علم الاجتماع على دور الخيال السياسي، وإمكانية أن يلعب أدوارا مهمة وفارقة في وضع الحلول للمشكلات التي تواجه عالمنا، وعلى رأسها مكافحة الإرهاب.
يوضح ذلك في كتابه «الخيال السياسي» الصادر حديثا في سلسلة عالم المعرفة بالكويت، لافتا في مقدمته للكتاب إلى أهمية «الخيال» الذي تعزى إليه كل القفزات العلمية الكبرى في تاريخ البشرية، محدداً مفهوم الخيال الذي يقصده بأنه لا يعني الشرود في الأوهام، أو الضلالات أو استلهام الخرافات والأساطير، وإنما هو التنبؤ العلمي بما سيأتي بعد فهم ما جرى، وتحليل ما يجري، وفق منهج منضبط دقيق مع إعطاء فرصة قوية للتأمل والبصيرة في استبطان الأمور.
ويشير حسن إلى أن آفة بلداننا العربية في غالبها الأعم أن نخبها الفكرية، وأهل الحكم يديرون شؤون الحكم يوماً بيوم دون تخطيط شامل واستراتيجية واضحة، ما يضيع على عالمنا العربي فرص التقدم والازدهار، موصفا الفكر العربي السائد بأنه «إذعاني» يرى أن التغير بدعة تؤدي إلى الضلال، كما أن الكثير من الأنظمة السياسية ليس لديها أدنى قدرة على التوقع واستشراف المستقبل؛ التي كانت من الممكن أن تجنبهم الكثير من الثورات والانتفاضات التي أطاحت بهم، لو امتلكوا القليل من الخيال السياسي.
ويضيف أن ثورات الربيع العربي كانت بالأساس نتاج قصور كبير في المخيلة السياسية العربية، وهو ما جعلها ضعيفة أمام تحديات الواقع، فلم تستطع توليد رؤى استشرافية، تواجه بها التحديات الداخلية والخارجية سواء بسواء، وهذا الجمود بالخيال السياسي جعل السياسات قاصرة لا ترى أبعد من موطئ قدميها.
ويرفض حسن الآراء القائلة بأن العرب ليس لديهم قدرة على الخيال، بينما الغرب هم من يمتلكونه، مشيراً إلى أن تلك الآراء تقع في التعميم الخاطئ، فليس كل الغربيين يفكرون في المستقبل بطرق علمية، كما أنه توجد حالات عربية باهرة لدول قامت بإعداد خطط طموحه، وتبنت مشروعات هائلة ولديها قدرة فائقة على استشراف المستقبل. ويوضح أنه يسعى من خلال دراسته تلك إلى توظيف الخيال السياسي في حياتنا العربية، لتحسين حياتنا السياسية سواء داخليا أو وخارجيا، بما يعود بالنفع على الجميع، ويكون أداة في خلق دور إقليمي ودولي قوي لدول العربية مستقبلاً.
في الفصل الأول من الكتاب بعنوان «معنى الخيال السياسي وأهميته»، يعرج حسن على تعريفات الخيال في العلوم المختلفة، وتاريخه في الفكر العربي والغربي، مشيرا إلى أن البلاغيين العرب القدماء لم يستخدموا لفظ «الخيال» وإنما «التخيل» بدلا منه. ويستمر في التفريق بين الكثير من المصطلحات التي قد تلتبس مع ما يقصده من الخيال السياسي، بتفريقه على سبيل المثال بين التنبؤ العلمي والتنبؤ الغيبي.
ويستعرض تعريفات السابقين للفظ الخيال السياسي على المستويين العربي والأجنبي ثم يضع في النهاية تعريفين لمصطلح الخيال السياسي الذي يقصده. أولهما عام معني باستيعاب الواقع والقفز إلى ما وراءه، والآخر خاص ويتمثل في مدى قدرة القيادات السياسية وما يرتبط بها، على طرح بدائل بغية حل المشكلات التي تعترض النظام السياسي، والتخطيط للمستقبل، والقدرة على تلبية حاجات الشعب وطموحاته.
وعن أسباب أهمية وضرورة وجود الخيال السياسي في حياتنا، يذكر الدكتور حسن أن الخيال السياسي، يجعل التاريخ يتقدم بخط مستقيم إلى الأمام، حتى لو كان هذا التقدم بطيئا. كما أن السياسي يحتاج إليه لأنه الأكثر مسؤولية عن الواقع، كما أن تخليه عنه قد يكون سببا في سقوطه.
وفي الفصل الثاني «السياسة مجالا للخيال.. بين الإيهام والإبهام»، يفند عمار علي حسن أقوال من يرون أن دخول الخيال في السياسة مسألة ثانوية ومصطنعة بشكل منهجي، داعيا إياهم إلى النظر بإمعان بين الصلات القائمة بين الخيال والسياسة.
ويشير إلى أن حضور الخيال السياسي لا يقتصر في الواقع على الجانب الإيجابي فقط من تطوير علم السياسة نفسه، أو تبصير السياسي بالقرار الرشيد، وإنما يمتد إلى مسائل مثل التحايل والتلاعب والمخاتلة والخداع الذي يمارسه الحكام إزاء شعوبهم.
ويضيف أن الحاكم والمحكوم يستعينون بالخيال السياسي، فالشعب قد يوهم نفسه بالرضا لأنه غير قادر على تحمل ثمن التذمر، وفي المقابل يتخيل الحاكم المستبد أن الشعب قد صمت إلى الأبد، وأن الرأي العام قد مات، إلى أن ينفجر الناس في وجهه وحينها لا يكون غير قادر على تصور حل ناجح يخرجه من أزمته.
ويخلص عمار علي حسن في نهاية هذا الفصل بنتيجة مفادها أن الخطاب السياسي العربي في مجمله موجه إلى الجماهير التي تعيش في التاريخ المتخيل، مثل استخدام الخطاب الطائفي بين الخصوم السياسيين الذي يقوم على استدعاء المتخيل التاريخي لصراع الطوائف السياسي والديني وقذفه إلى قلب الحاضر، عبر استعماله في البرهنة على المواقف الآنية والكيد للخصوم، كما أنه يستخدم كوسيلة للتلاعب بالوعي الجمعي للشعوب، وسيلة لقمع الحكام للمحكومين.
وفي الفصل الثالث يحصر عمار علي حسن منابع الخيال السياسي في عدة مصادر، منها استقراء التاريخ، محذرا في ذلك الرافد من الإفراط في الحديث عن الماضي والبكاء على اللبن المسكوب، والعيش فيه، بدلا من استلهام حكمته والتبصر به.
ويلفت إلى أهمية الوعي بالمستقبل كمصدر للخيال السياسي، داعيا إلى ترك الأحاسيس القديمة البالية والبدائية التي ترى أن قوانين المستقبل تحكمها عوامل جبرية أو حتمية ولا مجال لحرية الاختيار فيها.
وفي الفصل الرابع الذي حمل اسم «سبل تنمية الخيال السياسي ومعوقاته» يشير إلى أن سبل تنمية الخيال السياسي تتمثل في رؤية ما لا يراه الآخرون والتفكير فيما لا يفكر فيه الآخرون، فعملية توظيف الخيال في السياسية تتطلب أن يبعد الباحث آراءه الخاصة عن المجتمع واستخدام النظريات وقراءة التاريخ بشكل جيد لتوفير الأدلة والبراهين.
ويضيف أنه يمكن تدريب الباحثين على تنمية خيالهم السياسي، عن طريق أسس منهجية تمكن الباحثين من امتلاك قدرة على جمع المعلومات وتصنيفها وتحليلها، واستخلاص النتائج منها، مشيرا إلى أنه يمكن استثارة قدرة الباحثين على الاستشراف من خلال عدم الاستسلام للقوالب المنهجية الجامدة والغوص في التفاصيل، والنظر إلى المكان الذي سيصل إليه الهدف لا مكانه، والعمل بروح الفريق.
ويحدد عمار علي حسن معوقات الخيال السياسي، ومنها أن الكثير من العادات والتقاليد والطقوس الدينية تحول أحيانا دون التغير إلى الأفضل لأسباب عدة منها أنها قد تكون منتمية إلى زمن مغاير لزمننا وغير قادرة على مواجهة التحديات المعاصرة، بالإضافة إلى عدم التجديد الديني وفهمه من خلال ما وصلنا من الأقدمين.
ويضيف أن التفكير بالتمني في الشأن العام من معوقات الخيال السياسي لأنه يوقع صاحبه في انحراف معرفي، ويمثل طريقة سيئة لاتخاذ القرار، ويكرس لطغيان العاطفة على العقل، كما أن الآيديولوجيا يكون لها دور في كبح الخيال السياسي لما تمثله من أطر ثابتة تعيق خيال المؤمنين بها، وتجعلهم يطوعون نتائج أبحاثهم لخدمتها.
ويوضح المؤلف أن أهم المجالات التي يجب يوظف فيها الخيال السياسي هي صناعة دور دولي عربي، فبعد أن كان العرب في خمسينات القرن المنصرم القوة السادسة عسكريا في العالم باتت دولة مثل إسرائيل تتفوق عليهم أجمعين في السلاح، واقتصاديا تتفوق عليهم إسبانيا، وفي عالم النشر والترجمة تتفوق عليهم دولة أوروبية فقيرة، اليونان، مشيرا إلى أن ذلك الوضع يحتم علينا الاستعانة بالخيال السياسي في هذا المجال حتى يجعل العرب من أنفسهم رقما ذا بال في المعادلة الدولية.
«الخيال السياسي» في مواجهة الإرهاب
عمار علي حسن يرصد أهميته وتبعات قصوره في المخيلة السياسية العربية
«الخيال السياسي» في مواجهة الإرهاب
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة