بروفايل: آندري بابيش... «ترمب تشيكيا»

ثاني أغنى أغنيائها فاز بعد تعهده بملاحقة الفاسدين ومناهضة اللجوء

بروفايل: آندري بابيش... «ترمب تشيكيا»
TT

بروفايل: آندري بابيش... «ترمب تشيكيا»

بروفايل: آندري بابيش... «ترمب تشيكيا»

في مكان ما بين دونالد ترمب وسيلفيو بيرلوسكوني، تجد آندري بابيش رئيس الحكومة المكلف في جمهورية تشيكيا. فهو مثل الرجلين، ملياردير تحوّل إلى السياسة. مثل الأول، نجح في الوصول إلى السلطة رغم مناخات الفضائح التي تلاحقه... وإن كانت فضائحه مختلفة. ومثل الثاني، صاحب إمبراطورية إعلامية... تسلق عليها للوصول إلى القمة.
ولكن الأهم أن بابيش ينتمي إلى فئة القادة الشعبويين الذين باتوا يشكلون تحدياً للتيارات السياسية التقليدية في أوروبا، والآخذين في الصعود، مستفيدين من أزمة اللاجئين والعمليات الإرهابية.

لم تشهد تشيكيا خلال الفترة الأخيرة أعمال إرهاب مرتبطة بالتطرف الديني. ومن ناحية ثانية، لا تعاني من أزمة لاجئين. فهي لم تستقبل إلا 12 لاجئاً سورياً بعد موجة «النزوح الكبير» التي شهدتها أوروبا قبل سنتين. ومع ذلك وجدت هذه النقاشات طريقها إلى الخطاب السياسي في العاصمة براغ.
لا يُعدّ السياسي الملياردير آندري بابيش، الذي فاز حزبه «أنو» – الكلمة تعني «نعم» – باللغة التشيكية، من المتطرفين سياسيا، إلا أنه تبنى الخطاب المتطرف في هذا الموضوع. وخلال صيف العام الماضي، كتب على صفحته على «فيسبوك»: «ما عدت أؤمن بالاندماج الناجح والتعدّدية الثقافية. علينا بذل جهدنا لرفض اللاجئين، حتى من ضمن الكوتا التي سأرفضها ولو على حساب العقوبات».
يومذاك تطرق بابيش إلى «الكوتا» (الحصة) التي فرضها الاتحاد الأوروبي على دوله للمساعدة بتحمّل أعباء استضافة اللاجئين. وكان الاتحاد قد طلب من كل دولة استقبال عدد معين تبعاً لنسبة السكان ومقاييس أخرى، وخصص للجمهورية التشيكية حصة 2691 لاجئاً. لكن الحكومة لم تمنح اللجوء لأكثر من 12 لاجئاً سورياً. وبعدها توقفت عن استقبال المزيد، أسوة بـ«جارتيها» المجر وبولندا اللتين رفضتا - في ظل حكم اليمين المتشدد - استقبال حتى لاجئ واحد.
ومن ثم، توسّعت دائرة انتقادات بابيش للاجئين الغائبين تقريباً عن تشيكيا، لتشمل الاتحاد الأوروبي... لكن من دون أن يذهب إلى أقسى الحدود بالمطالبة بالخروج من الاتحاد. ونقل عنه مرة تعليق على إمكانية مغادرة الأسرة الأوروبية، قوله: إن تشيكيا تستفيد من أموال الاتحاد الأوروبي؛ ولذلك، لا حاجة إلى المغادرة. ومن جانب آخر، ثمة أموال استفاد منها بابيش شخصياً وتسببت له في مواجهة تهم فساد، وإقالته من منصبه وزيرا للمالية في الحكومة.

بابيش البراغماتيكي
البروفسور لوبومير كوبيتشيك، أستاذ العلوم السياسية في جامعة مازاريك التشيكية، قال في اتصال أجرته «الشرق الأوسط» معه عن رئيس الوزراء المقبل «بابيش سياسي براغماتيكي وليس آيديولوجياً». وتابع مفسراً خطاب بابيش السياسي «إنه ليس معاديا للهجرة ولا للاتحاد الأوروبي، غير أنه يعرف ما الذي يريد ناخبوه، وبالتالي، يلعب على مخاوفهم».
وحقاً، لسبب ما يبدو الناخبون التشيكيون مأخوذين باللاجئين والمسلمين الذين لا تتعدى نسبتهم 1 في المائة من السكان. ويرى المراقبون أن تبني بابيش خطاب اليمين المتطرف ساعده كثيراً على كسب أصوات في الانتخابات. ولعل ما يؤكد أهمية هذا الملف بالنسبة للناخبين، الصعود الكبير الذي حققه أيضا حزب «الحرية والديمقراطية المباشرة» بقيادة توميو أوكامورا، المولود لأب ياباني ووالدة تشيكية. هذا الحزب الشعبوي مثله مثل الأحزاب اليمينية المتطرفة الأخرى في أوروبا، بنى حملته على التهجم على المسلمين الذين لا يزيد عددهم على نحو الـ3 آلاف من أصل ما يزيد على 10 ملايين تشيكي، وكذلك على اللاجئين غير الموجودين أصلا. ومن ثم، نجح أوكامورا خلال الانتخابات التي أجريت في وقت سابق من هذا الشهر بتحقيق نتائج تقارب ما حققته الأحزاب الوسطية (يميناً ويساراً) التقليدية.

متهم بالاحتيال... ويلاحق الفاسدين
غير أن اللاجئين والمسلمين ما كانوا وحدهم محور حملة بابيش ولا السبب الأوحد لفوزه. ذلك أدار حملته وأسس حزبه قبل ذلك عام 2011 انطلاقاً من شعارات مكافحة الفساد وإنعاش الاقتصاد. وجاء تأسيس حزبه في وقت كانت تشهد البلاد سلسلة فضائح لسياسيين جمعوا ثروات من الأموال العامة، ما أكسبه على الفور تأييداً شعبياً واسعاً. وللعلم، رفض بابيش عند تأسيس حزبه أن يصنفه يميناً أو يساراً، مفضلا بدلاً من ذلك الكلام عن «حركة سياسية ذات أهداف اجتماعية إنمائية». بيد أن المفارقة هنا، أن بابيش، نفسه، الذي يدعو إلى مكافحة الفساد وتجريد الساسة من حصاناتهم الدبلوماسية، هو نفسه يواجه اتهامات بالفساد والاحتيال.
والواقع أن «قصته» مع تهم الاحتيال كادت أن تسقط الحكومة، وأدت إلى إقالته منها في مايو (أيار) الماضي، أي قبل أشهر قليلة من الانتخابات الأخيرة. ولم يستطع صديقه الرئيس ميلوش زيمان الذي تربطه به علاقات تجارية تفيد الرجلين، من إنقاذه من الإقالة. وتبع ذلك تجريد بابيش من حصانته الدبلوماسية تمهيدا لمحاكمته. ويتهمه الادعاء بتلقي إحدى الشركات التي يملكها لمنحة مالية بقيمة مليوني يورو ضمن مساعدات يقدمها التكتل للشركات الصغيرة. وتقول ملفات الشرطة إن بابيش - الملياردير الذي يعد ثاني أغنى شخص في تشيكيا - نقل ملكية الشركة إلى غيره، ثم استعادها بعد مرور 5 سنوات كي يستوفي شروط المنحة.

... وشعبيته لا تتأثر
وغير هذه الاتهامات، ثمة اتهامات كثيرة أخرى تشبهها تحوم حول رئيس الحكومة المقبل، مثل التهرب من دفع أموال ضرائب وتطويع القوانين المالية لتستفيد منها شركته... لكنها كلها لم تؤثر على شعبيته التي ظلت مرتفعة، ثم قادته إلى الفوز بمقعده مرة جديدة حاملا معه حزبه أو تياره إلى المرتبة الأولى. وعلى الأقل مؤقتا... أغلق فوزه مجددا التحقيق بحقه بعد تجديد حصانته النيابية.
البروفسور كوبيتشيك يرى أن مؤيدي بابيش لا يأبهون بتهم الفساد الموجهة إليه. ويضيف موضحاً «إنهم يعتقدون أن الطبقة السياسية القديمة لا تستطيع المساس به. لقد صوّت مؤيدوه له لأنه نجح في رسم صورة الآتي من الخارج لمكافحة السياسيين الفاسدين. وبالتالي، فهم يعتقدون أنه قادر على إدارة البلاد بشكل أفضل». وبالمناسبة، فهو نفسه دائماً ما يتحدث عن «مؤامرات» للإطاحة به، وبالطبع، ينفي كل التهم الموجهة إليه ويتهم خصومه بفبركتها.

ترمب.. أم بافيت؟
من جهة أخرى، فإن اعتقاد ناخبيه بأن بابيش هو أفضل من قد يقود البلاد نابع أيضا من تجربته في الحكومة والنجاحات الاقتصادية التي قرنت بفترة تسلمه حقيبة المالية. فهو دخل الحكومة عام 2013 بعد تحقيق حزبه أول فوز له منذ تأسيسه، ودخوله البرلمان بأصوات كانت كافية لجعله شريكا في الحكومة الائتلافية. وحول هذا النقطة يعلّق كوبيتشيك بالقول إن «النجاحات الاقتصادية في الفترة الأخيرة، مربوط بأذهان مؤيديه به، رغم أن هذا غير صحيح بالضرورة؛ فالانتعاش الاقتصادي بدأ قبل دخوله الحكومة». مع ذلك يردد بابيش دائماً بأنه يريد إدارة البلاد كما يدير شركاته، وهي إدارة ناجحة بحق. إذ إنه بنى إمبراطوريته بنفسه من الصفر، ونجح بتحقيق ثروة قدرها أكثر من 4 مليارات دولار أميركي، حسب تقديرات مجلة «فوربز»، التي اعتبرته النسخة التشيكية من دونالد ترمب.
إلا أن بابيش نفسه لا يحبذ هذا التشبيه. بل نقل عنه قوله إنه رجل أعمال ناجح أفضل بكثير من ترمب. ذلك أنه – بعكس ترمب – لم يفلس ولو مرة واحدة، وليست له علاقته نسائية متعددة. وعليه فهو - كما يقال - يفضل تشبيهه بمليارديرات الاستثمارات الأميركي وارين بافيت.

بدايته مع الثراء
لكن، في المقابل، يقول منتقدو بابيش إن نجاحاته المالية يعود فضلها لعلاقاته الشائكة أيام الاتحاد السوفياتي. حينذاك، نحو العام 1978، كان يعمل في شركة «بيتريماكس» للتجارة الدولية المملوكة من سلوفاكيا الشيوعية. ولقد أمضى فترة ممثلا للشركة في إحدى دول شمال أفريقيا امتدت من العام 1985 حتى سقوط الاتحاد السوفياتي، ومن ثم انقسام تشيكوسلوفاكيا إلى دولتين.
في تلك الحقبة، كان الشاب الذي تعلم في مدارس جنيف وباريس ويتنقل مع والده الدبلوماسي، عضوا في الحزب الشيوعي منذ العام 1980، ولدى عودته من شمال أفريقيا استقر في جمهورية تشيكيا مع أنه مولود في سلوفاكيا. وهناك تسلم عام 1993 إدارة شركة «أغروفيرت» التي كانت فرعا لـ«بيتريماكس» الشيوعية، وأصبح لاحقاً مالكها الأوحد. ثم طوّرها حتى باتت واحدة من أكبر الشركات التجارية في البلاد لتجعله ثاني أغنى رجل في تشيكيا. وبقي مالكها الوحيد حتى قبل أشهر قليلة عندما أجبر على نقل إدارة «آغروفيرت» إلى شركة ائتمانية برئاسة زوجته تماشيا مع قوانين جديدة لفصل الأعمال الشخصية عن العمل السياسي. وإزاء هذه الخلفية، يتهمه خصومه بالاستفادة من علاقاته السابقة أيام الشيوعية لإنجاح شركته. أكثر من هذا، يتهمه البعض بالعمل ذات مرة مخبرا لدى الشرطة السرية في تشيكوسلوفاكيا الشيوعية، وهي اتهامات ينفيها طبعاً.

إمبراطورية تتوسع
خلال السنوات الأخيرة وسع بابيش إمبراطوريته ودخل عالم الإعلام، فاشترى وسائل إعلام متعددة، بينها واحدة من أعرق وأقدم الصحف التشيكية. وأدى استحواذه عليها في حينه إلى موجة استقالات جماعية للصحافيين العاملين لتخوّفهم من تحويلهم إلى أداة بيد السياسي الملياردير. وبالفعل، اتهمه خصومه أخيراً باستخدام وسائل الإعلام التي يملكها كأداة انتخابية ومنصة للهجوم على خصومه السياسيين.
وبالإضافة إلى ذلك، تروى قصص عن أسلوب بابيش المتنمّر في التعاطي مع خصومه السياسيين بهدف إخضاعهم. ويشبه البعض «أساليب عمله» بتلك التي كان تعتمدها الشرطة السرية أيام الشيوعية. وضجّت قصة مرة عن اجتماعه بأحد النواب الذين وجهوا إليه انتقادات بأنه يدير وزارة المالية انطلاقاً من مصالحه الشخصية، ودخوله إلى الاجتماع حاملاً ملفاً كتب عليه اسم الرجل. ونقل شهود من داخل الاجتماع أن بابيش كان يصرخ بصوت عالٍ ويقول للرجل وهو يشير إلى الملف بأنه يعلم بالرشى التي يتلقاها، قبل أن ينتقل إلى الحديث عن عائلته وما يعرفه من أسرار عنها. وحول هذه القصة، نفى بابيش تهديده الرجل مع أنه اعترف بدخوله الاجتماع حاملا ملفا، لكنه ادعى إنه ملف يحمل مقتطفات صحافية.
هذا، وتحدث تقرير لمجلة «فورين بوليسي» عن أن بابيش يحيط نفسه برجال شرطة رفيعي المستوى ورجال استخبارات ومخبرين سابقين في الاتحاد السوفياتي. واعتبرت المجلة أن الولاءات التي جمعها بابيش حوله من الأمن والصحافة وعالم الأعمال «تهدد الديمقراطية في تشيكيا» التي كانت تعتبر واحدة من أكثر الدول ديمقراطية في أوروبا الوسطى.

نزعة استبدادية
أيضاً، يتحدث منتقدو بابيش عن مخاوف شبيهة كذلك. ويرون أن نزعته الاستبدادية تهدد الديمقراطية في البلاد. إلا أن البعض - في رأي البروفسور في جامعة مازاريك – أن «معظم ناخبي بابيش من كبار السن وذوي التعليم المتدني، وهم يحبون الأسلوب الأوتوقراطي الذي يظهره... هؤلاء الناخبون هم من الشيوعيين القدامى. وبابيش يبدو لهم رجلاً قوياً لديه مهارات في إدارة الأعمال والبلاد. إنهم لا يهتمون حقا بأنه قد يشكل تهديداً للديمقراطية». غير أن المخاوف من تهديده للديمقراطية، وواقع أنه يخضع لتحقيقات في قضايا فساد، دفعت بالأحزاب الرئيسة في تشيكيا، حتى الآن، لإعلان رفضها دخول أي حكومة ائتلافية معه. وبذا باتت خيارات بابيش بتشكيل حكومة محدودة بعض الشيء. وبات عليه الآن التشاور مع التكتلات الصغيرة التي دخلت البرلمان، وربما مع «حزب الحرية والديمقراطية المباشرة» المتطرف رغم أنه أعلن في السابق رفضه دخول مشاورات حكومية معه. ولكن سمعة بابيش المعروف عنه بأنه «رجل عمليّ» قد تدفعه إلى تغيير رأيه، كما فعل من قبل في مواقفه التي انقلبت حول الاتحاد الأوروبي واللاجئين عندما تغير المزاج العام.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.